خطبة عن (لَا تَحْزَنْ)
يناير 25, 2025خطبة عن (إنَّ النَّصْرَ مَعَ الصَّبْرِ)
يناير 27, 2025الخطبة الأولى (تَذَكُّر الدَّارَ الْآخِرَةَ)
الحمد لله رب العالمين. اللهم لك الحمد حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه، حمدا يوافي النعم ويكافئ المزيد. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له. وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد أيها المسلمون
يقول الله تعالى: (وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ) (64) العنكبوت، وقال تعالى: (تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ) (83) القصص، وفي سنن ابن ماجه: (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- «زُورُوا الْقُبُورَ فَإِنَّهَا تُذَكِّرُكُمُ الآخِرَةَ».
إخوة الإسلام
إن الإيمان باليوم الآخر، والدار الآخرة، لهو أحد أصول الإيمان الستة، والتي لا يصح إيمان المسلم بدونها، ففي الصحيحين: وفي حديث جبريل الطويل: (قَالَ فَأَخْبِرْنِي عَنِ الإِيمَانِ. قَالَ «أَنْ تُؤْمِنَ بِاللَّهِ وَمَلاَئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَتُؤْمِنَ بِالْقَدَرِ خَيْرِهِ وَشَرِّهِ». قَالَ صَدَقْتَ). وقد بين الله تعالى حقيقة الدنيا والآخرة، فقال الله تعالى: (وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ) (64) العنكبوت، وقال تعالى: (تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ) (83) القصص، وقال تعالى: (وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ) القصص:77، وقد بين الله تعالى بعض أحوال الناس في الدار الآخرة، فقال الله تعالى: ” يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا ” [آل عمران:30]، وقال تعالى: “لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى” [النجم:31]. فالمسلم يعتقد يقينا أن الله تعالى سيبعث مَنْ في القبور، وتبدأ بعد فناء المخلوقات حياة جديدة، هي الدار الآخرة، ويجازى فيها كلٌ بحسب ما قدمت يداه في دنياه، وأن الدار الآخرة هي دار البقاء والخلود والقرار،
وحتى لا نغتر بالدنيا، ولا تلهينا عن الدار الآخرة، فقد بين لنا تبارك وتعالى منزلة الدنيا بجانب الدار الآخرة، حتى نزهد في الدنيا، ونطلب الآخرة، فقال تعالى: (اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ (20) سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ) (20)، (21) الحديد، وفي صحيح مسلم: (عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- مَرَّ بِالسُّوقِ دَاخِلاً مِنْ بَعْضِ الْعَالِيَةِ وَالنَّاسُ كَنَفَتَهُ فَمَرَّ بِجَدْىٍ أَسَكَّ مَيِّتٍ فَتَنَاوَلَهُ فَأَخَذَ بِأُذُنِهِ ثُمَّ قَالَ «أَيُّكُمْ يُحِبُّ أَنَّ هَذَا لَهُ بِدِرْهَمٍ». فَقَالُوا مَا نُحِبُّ أَنَّهُ لَنَا بِشَيْءٍ وَمَا نَصْنَعُ بِهِ قَالَ «أَتُحِبُّونَ أَنَّهُ لَكُمْ». قَالُوا وَاللَّهِ لَوْ كَانَ حَيًّا كَانَ عَيْبًا فِيهِ لأَنَّهُ أَسَكُّ فَكَيْفَ وَهُوَ مَيِّتٌ فَقَالَ « فَوَاللَّهِ لَلدُّنْيَا أَهْوَنُ عَلَى اللَّهِ مِنْ هَذَا عَلَيْكُمْ». وفي مسند أحمد وصححه الألباني: (عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- «إِنَّ مَطْعَمَ ابْنِ آدَمَ جُعِلَ مَثَلاً لِلدُّنْيَا وَإِنْ قَزَّحَهُ وَمَلَّحَهُ فَانْظُرُوا إِلَى مَا يَصِيرُ»، وفي صحيح مسلم: (عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ عَنِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ «إِنَّ الدُّنْيَا حُلْوَةٌ خَضِرَةٌ وَإِنَّ اللَّهَ مُسْتَخْلِفُكُمْ فِيهَا فَيَنْظُرُ كَيْفَ تَعْمَلُونَ فَاتَّقُوا الدُّنْيَا وَاتَّقُوا النِّسَاءَ فَإِنَّ أَوَّلَ فِتْنَةِ بَنِى إِسْرَائِيلَ كَانَتْ فِي النِّسَاءِ»، وفي سنن الترمذي: (عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ نَامَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- عَلَى حَصِيرٍ فَقَامَ وَقَدْ أَثَّرَ فِي جَنْبِهِ فَقُلْنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ لَوِ اتَّخَذْنَا لَكَ وِطَاءً. فَقَالَ «مَا لِي وَمَا لِلدُّنْيَا مَا أَنَا فِي الدُّنْيَا إِلاَّ كَرَاكِبٍ اسْتَظَلَّ تَحْتَ شَجَرَةٍ ثُمَّ رَاحَ وَتَرَكَهَا»
أيها المسلمون
ولما كانت الدنيا هي دار الفناء لا دار البقاء، وأن الآخرة هي دار القرار، ودار الجزاء، فقد أمرنا الله تعالى أن نتذكر الدار الآخرة، فتذكر الدار الآخرة يفيد الانسان في استثمار الدنيا، فيتذكر العبد أنه إلى الله صائر، وأن لكل بدايةٍ نهاية، وأن ما بعد الموت من مستعتب، وما بعد الدنيا من دار، إلا الجنة أو النار، فإذا تذكر الإنسان أن الحياة الدنيا زائلة، وأن المتاع فيها فانٍ، وأنها غرورٌ حائل، يدعوه ذلك إلى أن يقلل من الاهتمام بالدنيا، ويقبل على الدار الآخرة، وعندها تقوى عزيمته وهمته، ويعمل لآخرته، فقال تعالى: (وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ (20) سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ) (20)، (21) الحديد،
والسؤال: ما الذي شغلنا عن الدار الآخرة؟، والجواب: شغلتْنا أموالنا وأهلونا، وفتنا بالدنيا وزخارفها، وأضلَّنا الشيطان وأعوانه، قال تعالى: ﴿زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ (14) قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ﴾ (14)، (15) [آل عمران]. وفي سنن ابن ماجه: (عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ قَالَ: كُنْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فَجَاءَهُ رَجُلٌ مِنَ الأَنْصَارِ فَسَلَّمَ عَلَى النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- ثُمَّ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيُّ الْمُؤْمِنِينَ أَفْضَلُ قَالَ: «أَحْسَنُهُمْ خُلُقًا». قَالَ فَأَيُّ الْمُؤْمِنِينَ أَكْيَسُ قَالَ: «أَكْثَرُهُمْ لِلْمَوْتِ ذِكْرًا وَأَحْسَنُهُمْ لِمَا بَعْدَهُ اسْتِعْدَادًا أُولَئِكَ الأَكْيَاسُ». (الأكياس: جمع الكيس وهو العاقل)،
وقد أخبر الله تعالى عن صفوة خلقه، أنهم كانوا ذاكرين للآخرة، فقال تعالى: (وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصَارِ (45) إِنَّا أَخْلَصْنَاهُمْ بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ) (45)، (46) ص، أي: إنا أخلصناهم بخالصةٍ هي ذكرى الدار. وقال مجاهد ” بذكر الآخرة؛ فليس لهم هَمٌّ غيرها” وقال الطبري “هي ذكرى الدار الآخرة، فعملوا لها، فأطاعوا الله وراقبوه”، فذكرى الدار الآخرة هي الأمر الكبير، والانشغال الدائم، وهي محل الاصطفاء؛ فمن اصطفاه ربه شغله بها، وهي المؤهلة للاصطفاء العظيم يوم القيامة؛ فلا تفارقك ولا تفارقها؛ فغداً هي الواقع الجديد والذي لا يزول، ولذلك أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن متاع الدنيا لا يُبكى عليه، ففي صحيح البخاري: (نظر عمر إلى متاع رسول الله فقال: (وَإِنَّهُ لَعَلَى حَصِيرٍ مَا بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ شَيْءٌ، وَتَحْتَ رَأْسِهِ وِسَادَةٌ مِنْ أَدَمٍ حَشْوُهَا لِيفٌ، وَإِنَّ عِنْدَ رِجْلَيْهِ قَرَظًا مَصْبُوبًا، وَعِنْدَ رَأْسِهِ أَهَبٌ مُعَلَّقَةٌ فَرَأَيْتُ أَثَرَ الْحَصِيرِ فِي جَنْبِهِ فَبَكَيْتُ فَقَالَ «مَا يُبْكِيكَ». فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ كِسْرَى وَقَيْصَرَ فِيمَا هُمَا فِيهِ وَأَنْتَ رَسُولُ اللَّهِ. فَقَالَ «أَمَا تَرْضَى أَنْ تَكُونَ لَهُمُ الدُّنْيَا وَلَنَا الآخِرَةُ»، فتذكر الدار الآخرة يزهد في الدنيا، ويعين على فعل الطاعات، واجتناب المعاصي والموبقات، قيل لعمر بن عبد العزيز: ما كان بدء إنابتك؟، قال: أردت ضرب غلام لي، فقال لي: يا عمر، اذكر ليلة صبيحتها يوم القيامة، وقال عطاء بن أبي رباح رضي الله عنه: ذكر الموت يعطيك أشياء ثلاثة: تعجيل التوبة، والرضا بالقليل، وعدم مشاحنة أهل الدنيا في دنياهم فيطمئن قلبك، قال تعالى: {أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} [الرعد:٢٨].
أيها المسلمون
ولكثرة تذكر الدار الآخرة فوائد وثمرات متعددة، ومنها: أن من ثمرة تذكُّر الآخرة المبادرة إلى العمل الصالح، والاستعداد للقدوم على ملك الملوك جلَّ شأنه، وخشية العبد، واستقامته، وفي سنن الترمذي: (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ «بَادِرُوا بِالأَعْمَالِ سَبْعًا هَلْ تَنْظُرُونَ إِلاَّ فَقْرًا مُنْسِيًا أَوْ غِنًى مُطْغِيًا أَوْ مَرَضًا مُفْسِدًا أَوْ هَرَمًا مُفَنِّدًا أَوْ مَوْتًا مُجْهِزًا أَوِ الدَّجَّالَ فَشَرُّ غَائِبٍ يُنْتَظَرُ أَوِ السَّاعَةَ فَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ». وفيه أيضا: (عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- «مَنْ كَانَتِ الآخِرَةُ هَمَّهُ جَعَلَ اللَّهُ غِنَاهُ فِي قَلْبِهِ وَجَمَعَ لَهُ شَمْلَهُ وَأَتَتْهُ الدُّنْيَا وَهِيَ رَاغِمَةٌ وَمَنْ كَانَتِ الدُّنْيَا هَمَّهُ جَعَلَ اللَّهُ فَقْرَهُ بَيْنَ عَيْنَيْهِ وَفَرَّقَ عَلَيْهِ شَمْلَهَ وَلَمْ يَأْتِهِ مِنَ الدُّنْيَا إِلاَّ مَا قُدِّرَ لَهُ». ومن فوائد وثمرات تذكر الدار الآخرة: أنه يقوي المؤمن على العبادة، ويذهب عنه الفتور والكسل في الطاعات، وتذكره للوقوف بين يدي ربه يدفعه إلى ترك المعاصي، والفرار إلى الطاعات، يقول الله تعالى في وصف عباده الصالحين: ” أَمْ مَنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الأَلْبَابِ ” [الزمر: 9].
ومن فوائد وثمرات تذكر الدار الآخرة: أن تذكر الآخرة والرجوع إلى الله، يثبّت القلوب أمام فتن الدنيا وشدائدها، وله أكبر الأثر في قوة النفس وراحتها، وعدم استسلامها للقلق والحزن والهم والتعاسة، قال تعالى: ” وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا للهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ ” [البقرة:155،156]، فهؤلاء هانت عليهم مصائبهم، وصبروا، لأنهم تذكروا أن هناك يومًا سيرجعون فيه إلى الله، فيوفيهم أجرهم، وأنه مهما جاءهم من شدائد الدنيا فهي منقطعة ولها أجل، فهم ينتظرون الفرج والثواب يوم الرجوع إلى الله عز وجل.
ومن فوائد وثمرات تذكر الدار الآخرة: أن المداومة على تذكر الآخرة يقوي الإحساس بثقل التبعية وعظم المسئولية، وهو الموجه الحقيقي لسلوك الإنسان إلى سبيل الخير وأداء الحقوق والأمانات، وما حصل في زماننا من كثرة المظالم، واعتداء الناس بعضهم على بعض، ومن أكل الأموال بدون وجه حق، والنيل من الأعراض بالغيبة والسخرية والبهتان والحسد والكبر، كل هذا إنما حصل بسبب نسيان اليوم الآخر، والوقوف بين يدي الله تعالى. ولا شك أنه لا شيء مثل تذكر الدار الآخرة، واستشعار الوقوف بين يدي الله عز وجل تقويمًا لذلك السلوك، وعلاجًا لتلك الأمراض، وهذا الاستشعار هو الذي جعل عمر بن الخطاب رضى الله عنه يقف مع نفسه ويقول: «لو عثرت بغلة في العراق، لظننت أن الله سيسألني عنها: لِمَ لَمْ تُسوِّ لها الطريق يا عمر!».
ومن فوائد وثمرات تذكر الدار الآخرة: إن الله يهب العبد القناعة، فلا يكترث بزهرة الدنيا، ولا يحزن على فواتها، ولا يمدن عينيه إلى ما متع الله به بعض عباده، ولا تنقطع نفسه لهثًا وراء طلبها، ومهما حرم في هذه الدنيا الفانية، فإنه يعلم أن في ذلك رحمة وحكمة بالغة، وهذا لا يعني انقطاعه عنها وعدم ابتغاء الرزق في أكنافها، بل يقول الله تعالى: ” وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللهُ الدَّارَ الآخِرَةَ وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا ” [القصص:77]، ومع ذلك فإن الدنيا لا تفوت ذلك الإنسان الذي أشغله فكرُ الآخرة وهمُّها عن الحرص على الدنيا، ومصالحه لا تتعطل، فقد جاء الوعد بأن الله يسوق له رزقه من الدنيا سوقًا.
ومن فوائد وثمرات تذكر الدار الآخرة: إن تذكر الدار الآخرة، والنظر في أخبارها وأنبائها، تحديث بنعمة الله وفضله، إذ كشف لنا من علم الغيب الذي لا سبيل لعقل إدراكه البتة، وهذا فضل الله علينا إذ ميزنا بأنباء هذا الدين العظيم من بين سائر البشر على وجه الأرض، حيث إن التطلع إلى ما يحدث في المستقبل أمر فطري، وتوجد له رغبة شديدة في النفس، لذا نجد البعض يلجأ في معرفة ذلك إلى الكهان والعرافين، أما نحن المؤمنين فقد جاءنا من الله ما فيه غناء وكفاية، قال الله تعالى: “اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ” [القمر:1]. وقال تعالى: “إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيدًا * وَنَرَاهُ قَرِيبًا ” [المعارج:6،7]. وفي صحيح مسلم: (عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- إِذَا خَطَبَ احْمَرَّتْ عَيْنَاهُ وَعَلاَ صَوْتُهُ وَاشْتَدَّ غَضَبُهُ حَتَّى كَأَنَّهُ مُنْذِرُ جَيْشٍ يَقُولُ « صَبَّحَكُمْ وَمَسَّاكُمْ ». وَيَقُولُ «بُعِثْتُ أَنَا وَالسَّاعَةَ كَهَاتَيْنِ». وَيَقْرُنُ بَيْنَ إِصْبَعَيْهِ السَّبَّابَةِ وَالْوُسْطَى)، هكذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يذكّر أصحابه بالساعة وينذرهم قرب وقوعها، ويخبرهم بعلاماتها، حتى أشفق الصحابة رضوان الله عليهم من قيام الساعة عليهم،
أيها المسلمون
إن وراء الموت لدارين، لا ثالث لهما: الجنة والنار، فيهما نهاية رحلة الدنيا، وموطن الاستقرار، وفيهما تحط الرحال، وتوضع عصا التسيار، وفي الدار الآخرة تظهر نتائج أعمال الدنيا، وتنكشف الأحوال على حقيقتها، وهناك الحياة التي لا موت بعدها، والعمر الذي لا أمد له، قال الله تعالى: (وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ) [العنكبوت:64]. فالوجهة بينة وواضحة،، والمصير معلوم، ولكل دار عمل وزاد مطلوب، وسبيل مطروقة، وعلى كل طريق سالكون، ولكل دار ملؤها. فهل من منتبهٍ من رقاد الغفلة، ومتحرك من سكون الهمة؟!، إن الأمر جِد وما هو بالهزل.
أقول قولي وأستغفر الله لي ولكم
الخطبة الثانية (تَذَكُّر الدَّارَ الْآخِرَةَ)
الحمد لله رب العالمين. اللهم لك الحمد حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه، حمدا يوافي النعم ويكافئ المزيد. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له. وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد أيها المسلمون
ألا، فليستمع الغافلون عن ربهم الكريم، فمولاهم يحذرهم من سخطه، وهم يسارعون إلى مساخطه، وينذرهم غضبه، وهم يبتعدون من رحمته، وليعلموا أن متاع الدنيا مهما بلغ فهو قليل ومنقطع، ففي صحيح مسلم: (عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- «يُؤْتَى بِأَنْعَمِ أَهْلِ الدُّنْيَا مِنْ أَهْلِ النَّارِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَيُصْبَغُ فِي النَّارِ صَبْغَةً ثُمَّ يُقَالُ يَا ابْنَ آدَمَ هَلْ رَأَيْتَ خَيْرًا قَطُّ هَلْ مَرَّ بِكَ نَعِيمٌ قَطُّ فَيَقُولُ لاَ وَاللَّهِ يَا رَبِّ. وَيُؤْتَى بِأَشَدِّ النَّاسِ بُؤْسًا فِي الدُّنْيَا مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ فَيُصْبَغُ صَبْغَةً فِي الْجَنَّةِ فَيُقَالُ لَهُ يَا ابْنَ آدَمَ هَلْ رَأَيْتَ بُؤْسًا قَطُّ هَلْ مَرَّ بِكَ شِدَّةٌ قَطُّ فَيَقُولُ لاَ وَاللَّهِ يَا رَبِّ مَا مَرَّ بِي بُؤُسٌ قَطُّ وَلاَ رَأَيْتُ شِدَّةً قَطُّ». وفي الصحيحين: (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ – رضي الله عنه – عَنِ النَّبِيِّ – صلى الله عليه وسلم – «يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى أَعْدَدْتُ لِعِبَادِي الصَّالِحِينَ مَا لاَ عَيْنٌ رَأَتْ، وَلاَ أُذُنٌ سَمِعَتْ، وَلاَ خَطَرَ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ، ذُخْرًا، بَلْهَ مَا أُطْلِعْتُمْ عَلَيْهِ». ثُمَّ قَرَأَ ( فَلاَ تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِىَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ)،
والجنة دار وصفها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بأنها دار النعيم، ففي مسند أحمد: (قُلْنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ حَدِّثْنَا عَنِ الْجَنَّةِ مَا بِنَاؤُهَا قَالَ «لَبِنَةُ ذَهَبٍ وَلَبِنَةُ فِضَّةٍ وَمِلاَطُهَا الْمِسْكُ الأَذْفَرُ وَحَصْبَاؤُهَا اللُّؤْلُؤُ وَالْيَاقُوتُ وَتُرَابُهَا الزَّعْفَرَانُ مَنْ يَدْخُلُهَا يَنْعَمُ لاَ يَبْأَسُ وَيَخْلُدُ لاَ يَمُوتُ لاَ تَبْلَى ثِيَابُهُ وَلاَ يَفْنَى شَبَابُهُ)، وأيُّ موكب أعظم من موكب المؤمنين، وهم يُزفون إلى أمنيتهم المنشودة، وطِلباتهم المقصودة، وآمالِهم التي طالما اشتاقوا إليها، وسهروا من أجل قطع المسافات حرصاً عليها، وتحملوا العناء والحزن حتى يحطوا رحال سفرهم الشاق فيها؟، فما أشد سرورهم، ووفود التهنئة تستقبلهم على الأبواب تهنئهم بسلامة الوصول، وتفرش على طريقهم البشاشة بنيل المأمول، وتبشرهم بطيب الَمنزِل، وكرم المُنزِل وراحة النازل، في أعلى المنازل، تقول لهم: (سَلاَمٌ عَلَيْكُم بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ) [الرعد24]، وقال تعالى: (وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَراً حَتَّى إِذَا جَاؤُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلَامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ * وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاء فَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ) [الزمر:73-74]. وعلى تلك الأبواب المفتّحة تدخل أول زمرة “على صورة القمر ليلة البدر، ففي صحيح البخاري: (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ – رضي الله عنه – قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ – صلى الله عليه وسلم – «أَوَّلُ زُمْرَةٍ تَلِجُ الْجَنَّةَ صُورَتُهُمْ عَلَى صُورَةِ الْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ، لاَ يَبْصُقُونَ فِيهَا وَلاَ يَمْتَخِطُونَ وَلاَ يَتَغَوَّطُونَ، آنِيَتُهُمْ فِيهَا الذَّهَبُ، أَمْشَاطُهُمْ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ، وَمَجَامِرُهُمُ الأَلُوَّةُ، وَرَشْحُهُمُ الْمِسْكُ، وَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ زَوْجَتَانِ، يُرَى مُخُّ سُوقِهِمَا مِنْ وَرَاءِ اللَّحْمِ، مِنَ الْحُسْنِ، لاَ اخْتِلاَفَ بَيْنَهُمْ وَلاَ تَبَاغُضَ، قُلُوبُهُمْ قَلْبٌ وَاحِدٌ، يُسَبِّحُونَ اللَّهَ بُكْرَةً وَعَشِيًّا». وفي الصحيحين: (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ – رضي الله عنه – قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ – صلى الله عليه وسلم – «إِنَّ أَوَّلَ زُمْرَةٍ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ عَلَى صُورَةِ الْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ عَلَى أَشَدِّ كَوْكَبٍ دُرِّيٍّ فِي السَّمَاءِ إِضَاءَةً، لاَ يَبُولُونَ وَلاَ يَتَغَوَّطُونَ وَلاَ يَتْفِلُونَ وَلاَ يَمْتَخِطُونَ، أَمْشَاطُهُمُ الذَّهَبُ، وَرَشْحُهُمُ الْمِسْكُ، وَمَجَامِرُهُمُ الأَلُوَّةُ الأَنْجُوجُ عُودُ الطِّيبِ، وَأَزْوَاجُهُمُ الْحُورُ الْعِينُ، عَلَى خَلْقِ رَجُلٍ وَاحِدٍ عَلَى صُورَةِ أَبِيهِمْ آدَمَ، سِتُّونَ ذِرَاعًا فِي السَّمَاءِ».
الدعاء