خطبة عن (مم يتعوذ المؤمن؟)
مارس 11, 2020خطبة عن حديث (مَنْ فَارَقَ الرُّوحُ الْجَسَدَ وَهُوَ بَرِىءٌ مِنْ ثَلاَثٍ دَخَلَ الْجَنَّةَ)
مارس 14, 2020الخطبة الأولى ( الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ )
الحمد لله رب العالمين . اللهم لك الحمد على نعمة الإسلام والايمان .ولك الحمد أن جعلتنا من أمة محمد عليه الصلاة والسلام. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له . وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
أما بعد أيها المسلمون
يقول الله تعالى في محكم آياته : (الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسَانِ مِنْ طِينٍ) (7) السجدة
إخوة الإسلام
لقد دعانا الله عز وجل إلى تدبر القرآن ، فقال الله تعالى في محكم آياته : {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آَيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ} [ص: 29]، وفي نفس الوقت ،فقد أنكر الله على من أعرض عن تدبر القرآن ، فقال الله تعالى : {أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ أَمْ جَاءَهُمْ مَا لَمْ يَأْتِ آَبَاءَهُمُ الْأَوَّلِينَ} [المؤمنون: 68]، فالقرآن الكريم: أساس رسالة التوحيد، والمصدر القويم للتشريع، ومنهل الحكمة والهداية، والرحمة المسداة للناس، والنور المبين للأمة، والمحجة البيضاء التي لا يزغ عنها إلا هالك ، واليوم إن شاء الله موعدنا مع آية من كتاب الله ، نتدبرها ، ونسبح في بحار معانيها ، ونرتشف من رحيقها المختوم ، مع قوله تعالى : (الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسَانِ مِنْ طِينٍ) (7) السجدة ، يقول القرطبي : والمعنى على ما روي عن ابن عباس :أن الله أحكم كل شيء خلقه ، أي جاء به على ما أراد ، لم يتغير عن إرادته . وقول آخر : (إن كل شيء خلقه حسن ; لأنه لا يقدر أحد أن يأتي بمثله ; وهو دال على خالقه) ، فهو سبحانه وتعالى : ( أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ ) أي: أتقن كلّ شيء خلقه ، وأحكم خلق كل شيء ، وأحصى كلّ شيء ، فلم يجعل خلق البهائم في خلق الناس، ولا خلق الناس في خلق البهائم ، ولكن خلق كلّ شيء فقدّره تقديرا ، وأعطى كلّ شيء خلقه: فالإنسان إلى الإنسان، والفرس للفرس، والحمار للحمار ، ولا يعترض على ذلك بوجود بعض المخلوقات المشوهة أو القبيحة ، لأنها لم تخرج عن الحسن ، ولكن الحسن والجمال درجات ، فهذه المخلوقات هي أحسن وأجمل مما دونها ، وأقل منها جمالا ، إلا أن جمالها لا يظهر ، لأننا نقارنها بما هو أجمل منها ، ولو قورنت بما دونها في الجمال ، لظهر جمالها ،وَلذا قَالَ الله تعالى : (صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ) النمل 88، فالذي خلق المخلوقات، وأعطاها خلقها الحسن، الذي لا تقترح العقول فوق حسنه، وهداها لمصالحها، قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله : ” فَالْمَخْلُوقُ بِاعْتِبَارِ الْحِكْمَةِ الَّتِي خُلِقَ لِأَجْلِهَا خَيْرٌ وَحِكْمَةٌ، وَإِنْ كَانَ فِيهِ شَرٌّ مِنْ جِهَةٍ أُخْرَى ، فَذَلِكَ أَمْرٌ عَارِضٌ جُزْئِيٌّ، لَيْسَ شَرًّا مَحْضًا، بَلْ الشَّرُّ الَّذِي يُقْصَدُ بِهِ الْخَيْرُ الْأَرْجَحُ هُوَ خَيْرٌ مِنْ الْفَاعِلِ الْحَكِيمِ، وَإِنْ كَانَ شَرًّا لِمَنْ قَامَ بِهِ. وَظَنُّ الظَّانِّ أَنَّ الْحِكْمَةَ الْمَطْلُوبَةَ التَّامَّةَ قَدْ تَحْصُلُ مَعَ عَدَمِهِ ، إنَّمَا يَقُولُهُ لِعَدَمِ عِلْمِهِ بِحَقَائِقِ الْأُمُورِ ، وَارْتِبَاطِ بَعْضِهَا بِبَعْضِ، فَإِنَّ الْخَالِقَ إذَا خَلَقَ الشَّيْءَ ، فَلَا بُدَّ مِنْ خَلْقِ لَوَازِمِهِ، فَإِنَّ وُجُودَ الْمَلْزُومِ بِدُونِ وُجُودِ اللَّازِمِ مُمْتَنِعٌ ” ، ومن معاني قوله تعالى : ﴿ أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ ﴾ أن المخلوقات جميعاً ؛ النباتات، والحيوانات، والإنسان، والجمادات، كل شيءٍ أودع الله فيه الخواص التي يؤدِّي بها مهمته أداءً كاملاً ،فمعنى (الإحسان) : جعل الشي حَسناً ، أي محموداً غير معيب ، وذلك بأن يكون وافياً بالمقصود منه ، فإنك إذا تأملت الأشياء ،رأيتها مصنوعة على ما ينبغي؛ فصلابة الأرض مثلاً للسير عليها ، ورقة الهواء ليسهل استنشاقه للتنفس ، وتوجه لهيب النار إلى فوقُ لأنها لو كانت مثل الماء تلتهب يميناً وشمالاً لكثرت الحرائق ،فأما الهواء فلا يقبل الاحتراق
أيها المسلمون
هكذا يتبين لنا من خلال تدبرنا لآيات القرآن الكريم أن الله تعالى خلق الأشياء لحكمة، فجاءت متفاوتة في هذا الخلق ،بأحوالها وأطوارها وأشكالها وصورها، فلا يخرج شيء عن حكمته -سبحانه وتعالى-، وهذا جواب لسؤال يرد، وهو أننا نرى بعض الأشياء من المخلوقات ليست جميلة في صورتها وأشكالها، والله -عز وجل- يقول : {الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ}، والجواب : أنه موافق لحكمته، أيًّا كانت صورته، فلا يعني جمال الصورة، وحسن المنظر، فالقرد مثلاً في صورته غير حسن، والله أحسن كل شيء خلقه، والجواب عن هذا: أن الله -عز وجل- قد أحسن خلقه من حيث هو كذلك ،يعني باعتبار أنه قرد، أما ترى أن الناس يستملحونه ، ويقفون لمشاهدته ،ونحو ذلك، فهو بهذا الاعتبار الله أحسن خلقه، وانظر إلى أجمل الأشياء التي يتمثل بها الناس ،ويذكرونها في الجمال، ويشبهون أجمل النساء بها، من الظباء ونحو ذلك، فلو قيل لأقبح نساء العالمين صورة : ما رأيك لو استُبدل رأسك برأس أجمل غزال، من يرضى بهذا؟ أليس ذلك يكون قبحاً لها؟ هو كذلك، فهذا الحيوان هو جميل من حيث كونه كذلك، والطاووس يذكر في الجمال والحسن ونحو هذا، فلو قيل لأقبح الناس وجهاً: يوضع لك رأس طاووس، يقبل هذا؟ ما يقبل، فهو جميل من حيث إنه كذلك، أي أنه طائر، لكن الإنسان أجمل خلقاً ،وأحسن ،ولو لم يكن له تلك الصورة ،مقارنة بغيره من بني جنسه، ولهذا قال الله -عز وجل-: {لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ} [التين:4]،، فهذا يشمل صورته الظاهرة ،كما يشمل صورته الباطنة، فرأسه إلى أعلى، وجعله الله -عز وجل- بهذه المثابة من الخلق، لا يضاهيه شيء من المخلوقات،
أيها المسلمون
ويقول العلماء : يعد جسم الإنسان أعقد آلة ،وأعقد جهاز على سطح الأرض، فنحن ـ طوال حياتنا ـ نرى بهذا الجسم ،ونسمع ،ونتنفس ،ونمشي ،ونركض ،ونتذوق طعم اللذائذ . ويملك هذا الجسم ـ بعظامه وعضلاته وشرايينه وأوردته وبأعضائه الداخلية ـ نظاماً وتخطيطاً دقيقاً، وكلما نزلنا إلى التفصيلات الدقيقة لهذا النظام ،ولهذا التخطيط ،قابلتنا حقائق مدهشة . وعلى الرغم من الاختلاف ،الذي يبدو للوهلة الأولى بين الأقسام والأجزاء المختلفة للجسم، فإنها تتكون جميعها من اللبنة نفسها، ألا وهي الخلية . فيتركب كل شيء في جسمنا من الخلايا ،التي يقارب حجم كل واحدة منها جزءاً من ألف جزء من المليمتر المكعب، فمن مجموعة معينة من هذه الخلايا تتكون عظامنا، ومن مجموعات أخرى تتكون أعصابنا ،وكبدنا ،والبنية الداخلية لمعدتنا ،وجلدنا ،وطبقات عدسات عيوننا . وتملك هذه الخلايا الخواص والصفات الضرورية من ناحية الشكل والحجم والعدد لأي عضو تقوم بتشكيله هذه الخلايا في أي قسم من أقسام الجسم . فمتى وكيف ظهرت هذه الخلايا التي تكلفت بالقيام بكل هذه المهمات والوظائف المختلفة ؟ إن الإجابة على هذا السؤال ستسوقنا إلى ساحة مملوءة بالمعجزات في ذرة منها .
أقول قولي وأستغفر الله لي ولكم
الخطبة الثانية ( الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ )
الحمد لله رب العالمين . اللهم لك الحمد على نعمة الإسلام والايمان .ولك الحمد أن جعلتنا من أمة محمد عليه الصلاة والسلام. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له . وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
أما بعد أيها المسلمون
إن خلايا جسمك البالغ عددها (مئة تريليون خلية) قد نشأت وتكاثرت من خلية واحدة فقط، وهذه الخلية الواحدة ( التي تملك نفس خصائص خلايا جسمك الأخرى ) هي الخلية الناتجة عن اتحاد خلية بويضة والدتك ، مع خلية نطفة والدك . لقد ذكر الله تعالى في القرآن أن معجزات خلقه في السماوات والأرض وفي الأحياء نماذج من الأدلة على وجوده وعلى عظمته، ومن أهم هذه الأدلة هذا الدليل الذي ذكرناه، أي المعجزة الموجودة في خلق الإنسان نفسه. فكثيراً ما توجه آيات القرآن نظر الإنسان لكي يلتفت ، ويتمعن ويتأمل في خلقه ونفسه : كيف وجد؟ وكيف خلق؟، ما هي المراحل التي مر بها بالتفصيل؟، ومن هذه الآيات ، قوله تعالى : (نَحْنُ خَلَقْنَاكُمْ فَلَوْلَا تُصَدِّقُونَ) الواقعة (57) ، لقد تجمعت خلاصة ولب جسم الإنسان ( المتكون من ستين أو سبعين كيلوغراماً من اللحم والعظم ) في البداية في قطرة ماء واحدة ، ولاشك أن تطور البنية المعقدة لجسم الإنسان : (الذي يملك عقلاً ،وسمعاً ،وبصراً ،و.. ) من قطرة واحدة ، فهذا شيء محير، وغير عادي . ومما لا ريب فيه أن مثل هذا التطور والتحول والنمو لم يكن نتيجة مراحل عشوائية ولا حصيلة مصادفات عمياء، بل كان أثراً لعملية خلق واعية ،وفي غاية الروعة ، ليدرك الإنسان القدرة اللانهائية للخالق ، وعلمه اللانهائي المحيط بالكون، وهذا يكفي لتذكير الناس أجمعين ،بأن الله تعالى هو أحسن الخالقين ، قال الله تعالى : (الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنسَانِ مِن طِينٍ {7} ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِن سُلَالَةٍ مِّن مَّاء مَّهِينٍ {8} ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِن رُّوحِهِ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَّا تَشْكُرُونَ) {7}: {9} (السجدة)
الدعاء