خطبة عن دعاء القنوت ،وحديث (اللَّهُمَّ اهْدِنِي فِيمَنْ هَدَيْتَ وَعافِنِي فِيمَنْ عَافَيْتَ وَتَوَلَّنِي فِيمَنْ تَوَلَّيْتَ)
يناير 25, 2025خطبة عن (تَذَكُّر الدَّارَ الْآخِرَةَ)
يناير 27, 2025الخطبة الأولى (لَا تَحْزَنْ)
الحمد لله رب العالمين. اللهم لك الحمد حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه، حمدا يوافي النعم ويكافئ المزيد. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له. وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد أيها المسلمون
يقول الله تعالى: (وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) (139) آل عمران، وفي صحيح البخاري: (أن أَنَسًا قَالَ كَانَ النَّبِيُّ – صلى الله عليه وسلم – يَقُولُ «اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنَ الْهَمِّ وَالْحَزَنِ ،وَالْعَجْزِ وَالْكَسَلِ، وَالْجُبْنِ وَالْبُخْلِ، وَضَلَعِ الدَّيْنِ، وَغَلَبَةِ الرِّجَالِ».
إخوة الإسلام
الحزن: هو ألم نفسي، يصيب الانسان حينما يفوته شيء من محبوباته، أو يتوقع حدوث مكروه، فيصاب بالحزن والغم، ويذهب عنه الفرح، فالحزن من عوارض النفس البشرية، ولا يستطيع الإنسان أن يدفعه بالكلية، ولكن يمكنه دفع أسبابه قبل وقوعه، والتخفيف من آثاره بعد وقوعه، فهو غير محمود شرعا لذاته، ولكن قد يُمدح الحزن من جهة أخرى، وذلك إذا كان باعثه الندم على التفريط في الطاعة، أو الوقوع في المعصية، أو الحزن لمصاب المسلمين، قال ابن تيمية: “وقد يقترن بالحزن ما يثاب صاحبه عليه، ويحمد عليه، ويكون محمودا من تلك الجهة، لا من جهة الحزن، كالحزين على مصيبة في دينه، وعلى مصائب المسلمين عموما، فهذا يثاب على ما في قلبه من حب الخير، وبغض الشر وتوابع ذلك”.
ومما ينبغي أن يُعلم: أن هذه الحياة الدنيا لا تدوم على حال، فهي تتقلب بأهلها بين عز وذل، وغنى وفقر، ورخاء وشدة، وصحة ومرض، وأحزان ومسرات، وهكذا يكون المرء، بين الابتلاء بالخير، والابتلاء بالشر، قال تعالى: (وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ) (الأنبياء:35). فهذه الدنيا إن أضحكت قليلا أبكت كثيرا، وإن سرّت يوماً ساءت دهراً، وإن متّعت قليلاً منعت طويلاً ،
ولأن الحزن من عوارض النفس البشرية: فلا ينكر على العبد أن يحزن، إذا توافرت له أسباب الحزن، ولكن المذموم قطعا هو الاستسلام لحالة الحزن، بحيث يغلب على صاحبه، فينقطع، أو ينعزل، أو يسخط، أو يصاب بالأمراض النفسية، أو العضوية، وقد كان نبينا صلى الله عليه وسلم يتعوذ بالله من الحزن، ففي صحيح البخاري: (كان صلى الله عليه وسلم يُكْثِرُ أَنْ يَقُولَ «اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنَ الْهَمِّ وَالْحَزَنِ، وَالْعَجْزِ وَالْكَسَلِ، وَالْبُخْلِ وَالْجُبْنِ وَضَلَعِ الدَّيْنِ، وَغَلَبَةِ الرِّجَالِ»، وقال ابن القيم رحمه الله: «ولم يأت الحزن في القرآن إلا منهيًّا عنه، أو منفيًّا، فالمنهي عنه كقوله تعالى: ﴿وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا﴾ [آل عمران:139]، وقوله تعالى: ﴿وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ﴾ [النحل:127]، وقوله تعالى: ﴿لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا﴾ [التوبة:40]، والمنفي كقوله تعالى: ﴿فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ﴾ [البقرة:38]. وسر ذلك: أن الحزن يقطع العبد عن السير إلى الله، ولا مصلحة فيه للقلب، وهو أحب شيء إلى الشيطان، ليُحزن العبد، ويقطعه عن سيره إلى الله، ويوقفه عن سلوكه،
فالحزن ليس بمطلوب، ولا مقصود، ولا فيه فائدة، فهو قرين الهم، والفرق بينهما: أن المكروه الذي يرد على القلب، إن كان لما يُستقبل أورثه الهم، وإن كان لما مضى أورثه الحزن، وكلاهما مضعف للقلب عن السير، مُفتر للعزم، لذا كان من نعيم الجنة أنها خالية من الحزن، قال تعالى عن أهل الجنة إذا دخلوها: ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ﴾ [فاطر:34]، فهذا يدل على أنهم كان يصيبهم في الدنيا الحزن، كما تصيبهم سائر المصائب التي تجري عليهم بغير اختيارهم.
أيها المسلمون
والتمادي في الأحزان يصيب الانسان بالكثير من الأضرار: ومن أضرار الحزن: إهلاك النفس بدون جدوى، وفي صحيح مسلم: (وَإِنْ أَصَابَكَ شَيْءٌ فَلاَ تَقُلْ لَوْ أَنِّى فَعَلْتُ كَانَ كَذَا وَكَذَا. وَلَكِنْ قُلْ قَدَرُ اللَّهِ وَمَا شَاءَ فَعَلَ فَإِنَّ لَوْ تَفْتَحُ عَمَلَ الشَّيْطَانِ». فالحزن من الشيطان وهو أحب شيء إليه كما في قوله تعالى: ﴿إِنَّمَا النَّجْوَى مِنَ الشَّيْطَانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آَمَنُوا﴾ [المجادلة:10]. ومن أضرار الحزن: أنه مثبط عن العمل الصالح، ومفتر للعزم، ودليل على الضعف، والمؤمن مأمور بالعمل، قال تعالى: ﴿وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ﴾ [التوبة: 105]،
وللحزن أضرار صحية متعددة وخطيرة، فمن أبرز الأضرار الجسديّة والنفسيّة للحزن: القلق والضغط النفسي والعصبي، وكلّ المشاعر السلبيّة الأخرى، وكذا اضطرابات النوم، وفرط أو فقدان الشهية، والشعور بالتعب، كما للحزن التأثير السلبي على جهاز المناعة، وعلى قدرة الجسم على محاربة الأمراض والعدوى، خاصةً إذا استمر لفترة طويلة، ومن الأضرار أيضا: الإصابة بالالتهابات، ويحدث ذلك عندما يستجيب الجهاز المناعي لشيء يعتبره تهديدًا، ويجعل الأنسجة في الجسم تنتفخ، ويمكن أن يلعب ذلك دورًا في الإصابة بأمراض القلب، والتهاب المفاصل، والسكرى، والربو، وربما السرطان، ومن الأضرار: الاصابة بأمراض القلب: فقد يعاني البعض عقب تعرضهم لموقف حزين، مثل وفاة شخص عزيز عليهم، أو تعرضهم لأزمة عاطفية إلى الإصابة بأمراض القلب أو الموت نتيجة انكسار القلب
أيها المسلمون
وبعد أن تعرفنا على بعض أضرار الحزن، فلا بد أن نتعرف على العلاج: فقد أرشد النبي صلى الله عليه وسلم من أصابه حزن إلى هذا الدعاء، فروى الإمام أحمد في مسنده من حديث عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مَا أَصَابَ أَحَدًا قَطُّ هَمٌّ وَلَا حَزَنٌ فَقَالَ: اللَّهُمَّ إِنِّي عَبْدُكَ، وَابْنُ عَبْدِكَ، ابْنُ أَمَتِكَ، نَاصِيَتِي بِيَدِكَ، مَاضٍ فِيَّ حُكْمُكَ، عَدْلٌ فِيَّ قَضَاؤُكَ، أَسْأَلُكَ بِكُلِّ اسْمٍ هُوَ لَكَ، سَمَّيْتَ بِهِ نَفْسَكَ، أَوْ عَلَّمْتَهُ أَحَدًا مِنْ خَلْقِكَ، أَوْ أَنْزَلْتَهُ فِي كِتَابِكَ، أَوِ اسْتَأْثَرْتَ بِهِ فِي عِلْمِ الْغَيْبِ عِنْدَكَ، أَنْ تَجْعَلَ الْقُرْآنَ رَبِيعَ قَلْبِي، وَنُورَ صَدْرِي، وَجِلَاءَ حُزْنِي، وَذَهَابَ هَمِّي، إِلَّا أَذْهَبَ اللَّهُ هَمَّهُ وَحُزْنَهُ، وَأَبْدَلَهُ مَكَانَهُ فَرَحًا»، قَالَ: فقيل: يَا رَسُولَ اللهِ، أَلَا نَتَعلمُهَا؟ قَالَ: «بَلْىَ، يَنْبَغِي لِمَنْ سَمِعَهَا أَنْ يَتَعَلَّمَهَا»،
ومما يخفف من الحزن أيضًا ما رواه البخاري في صحيحه من حديث عائشة رضي الله عنها: أنها كانت تأمر بالتلبين للمريض وللمحزون على الهالك، وكانت تقول: إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إِنَّ التَّلْبِينَةَ تُجِمُّ فُؤَادَ الْمَرِيضِ، وَتَذْهَبُ بِبَعْضِ الْحُزْنِ»،
ومن وسائل علاج الحزن: العمل على زيادة الإيمان، فكلما قوي إيمان العبد استسلم لقضاء الله وقدره، وعلم أن ما أصابه لم يكن ليخطئه، وأن ما أخطأه لم يكن ليصيبه، فشكر عند النعمة، وصبر عند المصيبة، فكان خيرا له.
ومن وسائل علاج الحزن: الإكثار من ذكر الله تعالى، قال تعالى: (الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ) (الرعد:28). ومن وسائل علاج الحزن: تجنب أسباب الغضب، والتحلي بحسن الخلق، وسعة الصدر، وتربية النفس على دفع السيئة بالحسنة، والعفو والصفح، والتحلي بمكارم الأخلاق.
ومن الأدوية النبوية لمدافعة الحزن: التسليم لأقدار الله تعالى، فإن ذلك من أسباب طرد الهموم والأحزان، وعكسه مجلبة للحزن، فالإنسان إذا لم يستسلم قلبه لتدبير الله فتح على نفسه أبواب الهموم والأحزان، وفي صحيح مسلم: (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- «الْمُؤْمِنُ الْقَوِيُّ خَيْرٌ وَأَحَبُّ إِلَى اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِ الضَّعِيفِ وَفِى كُلٍّ خَيْرٌ احْرِصْ عَلَى مَا يَنْفَعُكَ وَاسْتَعِنْ بِاللَّهِ وَلاَ تَعْجِزْ وَإِنْ أَصَابَكَ شَيْءٌ فَلاَ تَقُلْ لَوْ أَنِّى فَعَلْتُ كَانَ كَذَا وَكَذَا. وَلَكِنْ قُلْ قَدَرُ اللَّهِ وَمَا شَاءَ فَعَلَ فَإِنَّ لَوْ تَفْتَحُ عَمَلَ الشَّيْطَانِ».
ومن الأدوية النبوية النافعة: الاستعاذة بالله تعالى من الحزن، فقد كان من هدي النبي صلى الله عليه وسلم مداومة الاستعاذة بالله من الحزن وقرنائه من الهموم، وسائر القواطع التي تقطع القلب عن الله تعالى، وذلك لأن الحزن الحامل على الجزع إذا لم يدفعه صاحبه من أوله فإنه يستحكم عليه، حتى يتحول إلى مرض يقعده عن العمل والكسب.
أقول قولي وأستغفر الله لي ولكم
الخطبة الثانية (لَا تَحْزَنْ)
الحمد لله رب العالمين. اللهم لك الحمد حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه، حمدا يوافي النعم ويكافئ المزيد. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له. وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد أيها المسلمون
ومن الأدوية التي قد تساعد على دفع الحزن عن المحزون: التلبينة، قال الإمام النووي في شرح مسلم: “والتلبينة (بفتح التاء) حُسَاء من دقيق أو نُخالة، وربما جعل فيها عسل، وسميت تلبينة تشبيها باللبن لبياضها ورقتها وفيه استحباب التلبينة للمحزون”. وفي الصحيحين: (عَنْ عَائِشَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- أَنَّهَا كَانَتْ إِذَا مَاتَ الْمَيِّتُ مِنْ أَهْلِهَا فَاجْتَمَعَ لِذَلِكَ النِّسَاءُ ثُمَّ تَفَرَّقْنَ إِلاَّ أَهْلَهَا وَخَاصَّتَهَا – أَمَرَتْ بِبُرْمَةٍ مِنْ تَلْبِينَةٍ فَطُبِخَتْ ثُمَّ صُنِعَ ثَرِيدٌ فَصُبَّتِ التَّلْبِينَةُ عَلَيْهَا ثُمَّ قَالَتْ كُلْنَ مِنْهَا فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ «التَّلْبِينَةُ مَجَمَّةٌ لِفُؤَادِ الْمَرِيضِ تُذْهِبُ بَعْضَ الْحُزْنِ».
ومن أعظم الأدوية التي يدافع بها عارض الحزن، ويخفف من سطوته: الصبر والاحتساب، كما قال ابن بطال في شرحه على صحيح البخاري: “الصابر على الحقيقة من صبر نفسه، وحبسها عن شهوتها، وقهرها عن الحزن والجزع والبكاء الذى فيه راحة النفس، وإطفاء لنار الحزن، فإذا قابل سورة الحزن وهجومه بالصبر الجميل، واسترجع عند ذلك، وأشعر نفسه أنه لله ملك، لا خروج له عن قضائه، وإليه راجع بعد الموت ويلقى حزنه بذلك، انقمعت نفسه، وذلك على الحق، فاستحقت جزيل الأجر”.
أيها المسلمون
فعلى المسلم أن يعلم أنه لا مصلحة له من استدامة الحزن، وتجديده في نفسه، ذلك لأن الحزن يضعف القلب ويوهن العزم، ويضر الإرادة، ولا شيء أحب إلى الشيطان من حزن المؤمن، فالحزن مرض من أمراض القلب، يمنعه من نهوضه وسيره وتشميره، فعلى المسلم أن يسعى بكل الوسائل لدفع حزنه، والتخلص منه، حتى يستعيد قوة قلبه، وصفاء نفسه، وإقباله على ما ينفعه، ولذلك شرعت التعزية عند الفقد، ورتبت عليها الأجور العظيمة، وشرعت المواساة، وجبر الخواطر، وتفريج الهموم، كل ذلك من أجل التخلص من الآثار النفسية للحزن، وتجديد الوجدان والمشاعر، حتى يستطيع الإنسان مواجهة المصاعب ،وتخطي الأزمات، ويستمر في سيره وعطائه.
الدعاء