خطبة عن حديث (سِبَابُ الْمُسْلِمِ فُسُوقٌ وَقِتَالُهُ كُفْرٌ)
يونيو 13, 2020خطبة حول آيات التخويف وقوله تعالى (وَمَا نُرْسِلُ بِالْآيَاتِ إِلَّا تَخْوِيفًا)
يونيو 20, 2020الخطبة الأولى (متى يكون الهوى إلها يعبد من دون الله؟) ( أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ )
الحمد لله رب العالمين . اللهم لك الحمد على نعمة الإسلام والايمان .ولك الحمد أن جعلتنا من أمة محمد عليه الصلاة والسلام. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له . وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
أما بعد أيها المسلمون
يقول الله تعالى في محكم آياته : (أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا) (43) الفرقان
إخوة الإسلام
القرآن الكريم: أساس رسالة التوحيد، والمصدر القويم للتشريع، ومنهل الحكمة والهداية، والرحمة المسداة للناس، والنور المبين للأمة، والمحجة البيضاء التي لا يزغ عنها إلا هالك ، وموعدنا اليوم إن شاء الله مع آية من كتاب الله ، نتلوها ، ونتفهم معانيها ، ونسبح في بحار مراميها ، ونعمل إن شاء الله بما جاء فيها ، مع قوله تعالى : (أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا) (43) الفرقان ، ففي تفسيرها قال الطبري:( أرأيت ) يا محمد ( من اتخذ إلهه ) شهوته التي يهواها ،وقال الكلبي وغيره : كانت العرب إذا هوي الرجل منهم شيئا عبده من دون الله ، فإذا رأى أحسن منه ترك الأول وعبد الأحسن ; وقال ابن عباس : الهوى إله يعبد من دون الله ، ثم تلا هذه الآية . وقيل : اتخذ إلهه هواه أي أطاع هواه ، وعن الحسن لا يهوى شيئا إلا اتبعه ، وفي تفسير ابن كثير ، قال : أي : مهما استحسن من شيء ورآه حسنا في هوى نفسه ، كان دينه ومذهبه
أيها المسلمون
إن الغاية العظمى التي خلق الله الإنسان من أجلها هي عبادته وحده، قال الله تعالى : (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) (56) الذاريات ، وحتى لا يخرج الإنسان عن هذه الغاية ، وهي عبادة الله ، فقد بين الله تعالى له طريق الخير ودعاه إليه، وبين له طريق الشر ،وحذره منه، وجعل للهداية أسباباً يسلكها من أراد الهدى، وموانعاً يسلكها من ضل وغوى، فمن أسباب الهدى مخالفة النفس والهوى، ومن موانع الهداية اتباع طريق الضلال والغواية ، وإيثار الحياة الدنيا على الآخرة، والإنسان بطبعه مجبولٌ على الميل إلى الشهوات ، والشريعة المطهرة بينت لنا أحكام الشرع كما أرادها الله- عز وجل- فيما يصلح الكون ويلاءم الفطرة البشرية السوية، فواجب على المسلم اتباع الشرع المطهر في كل ما أمر، والانتهاء عما نهى عنه وزجر ، وإن كان في الأمر والنهي ما تأباه النفس، فكلما كان الإنسان بعيداً عن الفواحش والمنكرات، قريباً من البر ، ومؤدياً للواجبات، كان أقرب للهداية وأسرع إلى الولاية.
وإن من أشد الأمراض التي تصيب القلوب ،فتفتك بها ،وتكون حائلاً بينها وبين الهداية ،هو مرض (إتباع الهوى) ، ولخطورة هذا الداء ،فقد جعل الله سبحانه وتعالى الفلاح والفوز يوم القيامة مرهون بمخالفة هوى النفس ، كما قال الله تعالى : (وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى (40) فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى) (40) ،(41) النازعات ،وقال الله تعالى: ( أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ ) الجاثية/23 ، وقال الله تعالى : ( فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ) القصص/50 . ومعلوم ومحكم وظاهر أن الهوى ليس كيانًا ماديًا ،ولا حتى صنمًا حجريًا ،أو خشبيًا ، سيركع الإنسان له ويسجد، ولكن الهوى هو ميل النفس للشيء ،وإرادته ،والرغبة في فعله، أو التلذُّذ به ،والوقوع فيه، فالهوى شعور ،ومراد ورغبة، فكيف إذا يتحوَّل إلى إله؟ ،إلا إذا كان للألوهية مفهوم مختلف عن ذلك الذي يُصِرّ على غرسه المبطلون، ويتضح المعنى من خلال الحديث الصحيح الذي رواه البخاري : (عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ – صلى الله عليه وسلم – قَالَ : « تَعِسَ عَبْدُ الدِّينَارِ وَعَبْدُ الدِّرْهَمِ وَعَبْدُ الْخَمِيصَةِ ، إِنْ أُعْطِىَ رَضِىَ ، وَإِنْ لَمْ يُعْطَ سَخِطَ ، تَعِسَ وَانْتَكَسَ ، وَإِذَا شِيكَ فَلاَ انْتَقَشَ ..) ، فيقينًا لا يسجد الانسان للدراهم ،ولن يتوضأ ويصلي ركعتين للجنيهات! وقطعًا هو لا يعتقد أن من خلقه هو الدولار ومن يحييه ويميته هو الريال والدينار! ، ولكن هذا يُبين أن للعبادة مفهوما أشمل وأعم ، إنه مفهوم الطاعة والاتباع الكامل ،والتوجه المطلق لتحقيق مراد الإله.. فمن اتخذ إلهه هواه ، أي يُحرِّكه الهوى يمنةً ويسرةً ، ويتحكَّم في تصرُّفاته وأخلاقه ومعاملاته ، فيعادي هذا على أساس الهوى ، ويأكل حق ذاك لأجل الهوى ، وينهش عِرض أولئك ،أو يعتدي على حُرماتهم لأن هذا مراد إلهه.. مراد هواه، فبذلك يكون عبدًا للهوى ، كما أن هناك عبدا للدرهم ،وللدينار ، وهذا هو المفهوم الصحيح والشامل للعبودية
أيها المسلمون
واتباع الهوى ليس على منزلة واحدة ، فمنه ما يكون كفرا ،أو شركا أكبر ، ومنه ما يكون كبيرة ، ومنه ما يكون صغيرة من الصغائر .فإن اتبع هواه حتى قاده الهوى إلى تكذيب الرسول صلى الله عليه وسلم ، أو الاستهزاء به ، أو الإعراض عنه – كما هو واضح من سياق آيتي الفرقان والجاثية – فهذا مشرك شركا أكبر . وهكذا كل من قاده الهوى إلى ارتكاب ما دلت الأدلة على أنه شرك أكبر أو كفر أكبر ، كمن جحد المعلوم بالضرورة من الدين ، أو استحلال ما حرم الله ، وأما من اتبع هواه ،فحلف بغير الله تعالى ، أو راءى بعمله ، فهو مشرك شركا أصغر .ومن اتبع هواه ،ففعل بدعة غير مكفّرة ، فهو مبتدع . ومن اتبع هواه ،ففعل كبيرة كالزنا أو شرب الخمر من غير استحلال ، فهو فاسق . ومن اتبع هواه ، ففعل صغيرة ، فهو عاص غير فاسق . وبهذا تعلم أن اتباع الهوى يقود إلى أمور متفاوتة ، فلا يصح أن يقال : إن من اتبع هواه فهو كافر بإطلاق .
أيها المسلمون
وإذا كان الإنسان متبعاً هواه ،معرضاً عن مولاه، غارقاً في وحل المعاصي، بعيداً عن البر والخير، فهو بهذا يكون قد بعد عن الهداية، وانتكس في الغواية، فاتباع الهوى من الموانع والعوائق التي تعيق الإنسان عن الوصول إلى مولاه، سواءً كان عائقاً عن الدخول في الإسلام ابتداءً ،كما هو حال الكثير من المشركين سابقاً ،وكذلك الذين لا يدينون بالإسلام في زماننا من اليهود والنصارى والوثنيين والمجوس وغيرهم من الخارجين عن الدين الحق دين الإسلام، أو عائقاً للمسلم من نيل رضوان الله لكثرة معاصيه، وبعده عن طاعة الله – عز وجل- وغيرها من المعاصي والذنوب التي لا تخرج عن الملة. فالناس مختلفون ، فهناك مَنْ قلبه متعلق بمتع الدنيا، وهناك مَنْ قلبه متعلق بمتع الجنة والحور العين والنظر الي وجه الله الكريم، وأيضا هناك مَنْ هو خائف ويحمل هم متاعب الحياة وهمومها، وهناك مَنْ هو خائف ويحمل هم نار الآخرة وأهوال القيامة، فالأول يعبد هواه والثاني يعبد الله، وكلاهما يريد أن يتمتع ويريد أن يبتعد عن الآلام، ومن الناس مَنْ يجد عزته وشرفه وحبه وخضوعه ومشاعره للمال أو الشهوات أو المظاهر…. الخ ، قال الله تعالى : (مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلَاهَا مَذْمُومًا مَدْحُورًا) (18) الاسراء ، وقال الله تعالى : (مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ) (20) الشورى ، ومن الناس مَنْ حياته مبنيه علي أساس ما يراه عقله ومزاجه، فيجعل الرأي هو المحور والأساس والمقياس والمرجعية الوحيدة التي يعيش بها حياته، فيعيش وفق ما يميل اليه رأيه ومزاجه وهواه وما يشتهي ويريد، فهذا يعبد هواه.
أقول قولي وأستغفر الله لي ولكم
الخطبة الثانية (متى يكون الهوى إلها يعبد من دون الله؟) ( أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ )
الحمد لله رب العالمين . اللهم لك الحمد على نعمة الإسلام والايمان .ولك الحمد أن جعلتنا من أمة محمد عليه الصلاة والسلام. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له . وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
أما بعد أيها المسلمون
ونفس الانسان تهوى أمورا متعددة، منها ما يوافق أمر الله ونهيه، ومنها ما يخالف ذلك، فما وافق دين الله وشرعه ، لا حرج فيه، فقد تهوى النفس أكلا معينا، ولباسا محددا، فلا حرج في ذلك بلا سرف ولا مخيلة، قال الله تعالى: ( يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ) (31) الأعراف . وقد تهوى النفسُ أمورا تخالفُ أمرَ الله، وتحببُ في نفس الإنسان الفجورَ والفواحش، وهنا يصبح الإنسان بين طاعتين، بين طاعة الله تعالى، وطاعة النفس الأمارة بالسوء، فتهوَ النفسُ مثلا التسلي بلحوم الناس في المجالس، فتغتاب هذا، وتنتهك عرض ذاك، والله تعالى يحرم هذا، فهي إما أن تطيع الله فتتحدث فيما أباحه، وإما تطيع هواها فترتكب ما نهى الله عنه، فتكون هنا جعلت الهوى شريكا وإلها مع الله تعالى، لذا يقول سبحانه: {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَفَلا تَذَكَّرُونَ} الجاثية 23.
فاحذروا أيها المؤمنون الهوى ، فهو إله قاهر، وأمره رعد قاصف، وقضاؤه برق خاطف، وبطشه سيل جارف، وسيفه بتار للحق والعقل، وهو صانع الآلهة ، فكل الآلهة التي على الارض صنعها الهوى، صنع آلهة من البقر ،والحجر ،والشجر ،ومن المال ،والجمال ،والزعمة والرئاسة ، بل صنع كل الملل والنحل والفرق والبدع والاختلافات والجماعات والنزاعات ، فكم حرك الهوى من جيوش جرارة ، وقتل ودمر وشرد واباد ، فالهوى ملك عسوف ،وسلطان ظالم ،دانت له القلوب وانقادت له النفوس ،فعلينا أن نزكي أنفسنا، ونربيها على الوحدانية المطلقة لله سبحانه وتعالى، لتنقادَ لطاعته، وتجتنبَ نهيه ومعصيته، قال الله سبحانه وتعالى : (وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا (7) فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا (8) قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا (9) وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا) (7) :(10) الشمس، فهذه النفس كالطفل بحاجة إلى تربية وتهذيب، فإذا تربت النفسُ على هذا ،حصل لصاحبها الاطمئنان في الدنيا، والنجاة في الأخرى، قال الله تعالى: (يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ (27) ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً (28) فَادْخُلِي فِي عِبَادِي (29) وَادْخُلِي جَنَّتِي) (27) :(30) الفجر
الدعاء