الخطبة الأولى ( من أي الأصناف أنت في رمضان؟ ) 1
الحمد لله رب العالمين .. اللهم لك الحمد على نعمة الإسلام والايمان .ولك الحمد أن جعلتنا من أمة محمد عليه الصلاة والسلام….. وأشهد أن لا إله إلا لله وحده لا شريك له . وأشهد أن محمدا عبده ورسوله.. نشهد أنه بلغ الرسالة وأدى الأمانة ونصح الأمة اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
أما بعد أيها المسلمون
روى الامام أحمد في مسنده : ( عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- « رُبَّ صَائِمٍ حَظُّهُ مِنْ صِيَامِهِ الْجُوعُ وَالْعَطَشُ وَرُبَّ قَائِمٍ حَظُّهُ مِنْ قِيَامِهِ السَّهَرُ ».
إخوة الإسلام
ما هي أصناف الناس في استقبال شهر رمضان ؟ ،وما هي أصناف الناس ومواقفهم من صوم شهر رمضان ؟ ، وما هي أصناف الناس وقبولهم للتوبة في شهر رمضان ؟ ، حول الإجابة على هذه الأسئلة سوف يكون اللقاء إن شاء الله
أيها المسلمون
وها نحن إزاء دورة جديدة من دورات الفلك ، وها هو ذا شهر رمضان يفد علينا من جديد ، بنظامه وأجوائه ونفحاته ، وهاهم الناس إزاء استقبالهم لشهر رمضان أصناف وأنواع : الصنف الأول : لا يهتم بقدومه من قريب أو بعيد ، فالأمر لا يهمه ، رغم أنه يدعي أنه من المسلمين ، هذا الصنف من الناس مشغول بدنياه عن آخرته ، وبشهواته عن طاعاته ، الصنف الثاني : يستقبل رمضان وهو مهموم ، لأنه يرى في شهر رمضان ضيفا ثقيلا ، فهو وإن صام إلا أنه يكون غير مرتاح أثناء صومه ولا يرى منه فائدة ، هذا من ناحية ،ومن ناحية أخرى : فهو يرى في رمضان عبئا ماليا ، ومطالب لا يستطيع توفيرها ، لذا فهو مهموم وحزين لقدوم شهر رمضان ، الصنف الثالث : يفرح ويسعد بقدوم رمضان ، لا لأنه شهر طاعة للرحمن ، ولا لأنه تفتح فيه أبواب الجنة ، وتغلق فيه أبواب النيران ، ولا لأنه شهر التوبة والقرآن ، ومضاعفة الأجر ، والعتق من النيران ،ولكن فرحته بقدوم شهر رمضان مقرونة بالشهوات والملذات ، فهو في نظره شهر سهرات مع التمثيليات والأفلام ، هو في نظره ، شهر المأكولات والمشروبان والحفلات مع الأصدقاء والضيفان ،هو في نظره ، شهر نوم بالنهار حتى لا يشعر بتعب الصوم ، وسهر بالليل مع الخلان ، الصنف الرابع : هم الذين عرفوا قدر شهر رمضان ، وفهموا وفقهوا الحكمة من مشروعيته ، فهم يدعون ربهم أن يبلغهم شهر رمضان ، فإذا ما أقبل عليهم ، سعدوا بقدومه ،و شمروا سواعد الجد ، لينالوا فيه الدرجات العالية والتقوى والإحسان ، هؤلاء يستقبلون شهر رمضان وقد أعدوا للطاعات عدتها ، فهو موسم للطاعات ، وفرصة لتجديد التوبة والقرب من رب الأرض والسموات ، فرمضان في نظرهم منحة إلهية ، وعطية ربانية ، قد لا يدركونها في أعوام قادمة
إخوة الإسلام
وبمنظور آخر ،أو ( بفلسفة أخرى ) وبفهم مختلف ، فهناك أصناف مختلفة من الناس في استقبالهم لشهر رمضان ، فمنهم : من لا يرى في شهر رمضان أكثر من أنه حرمان لا فائدة منه ، وتقليد ديني لا مبرر له ، وقد تقدمت الحضارة ، وتطور الفكر الإنساني ، بحيث لا يسيغ – في زعمه – هذه القيود الدينية الثقيلة ، فهو عازم على الإفطار فيه ، مجاهر بذلك ، مستهزئ من الصائمين ، ساخر بعقولهم وتفكيرهم وسلوكهم . ومنهم : من لا يرى فيه إلا جوعا لا تتحمله أعصاب معدته ، وعطشا لا تقوى عليه مجاري عروقه ، فهو عازم على الإفطار ، مستخف فيه بالناس ، متظاهر بالصيام أمام من لا يعرفه ، مجاهر به أمام من لا ينكر عليه . – ومنهم : من يرى في رمضان موسما سنويا للموائد الزاخرة بالطعام والشراب ، و فرصة جميلة للسمر واللهو إلى بزوغ الفجر ، والنوم العميق في النهار حتى غروب الشمس ، فإن كان ذا عمل بَرِمَ بعمله ، وإن كان ذا معاملة ساءت معاملته ، وإن كان موظفا ثقل عليه أداء واجبه . – ومنهم : – وهم الأقلون – من يرون في رمضان شهرا غير هذا كله ، وهو أجل من هذا كله ، يرون فيه دورة تدريبية لتجديد معان في نفوس الناس من : الخلق النبيل ، والإيثار الجميل ، والصبر الكريم ، والتهذيب الإلهي العظيم .أما الذين لا يرون في الصيام انسجاما مع تطور الحضارة فنحن نحيلهم إلى أطباء الأجسام والنفوس ليحدثوهم عما اكتشفه العلم الحديث من فوائد للصيام لا يجدها الناس في غيره . وأما الذين تنهزم عزائمهم أمام جوع الصيام و حرمانه ،وهم مؤمنون بفرضيته وقدسيته ، فنحن نذكرهم : بأننا نعيش في قلب المعركة الفاصلة في تاريخ هذه الأمة ، وليس الصيام إلا صبر ساعات على أقل مظاهر الحرمان في الحياة من طعام وشراب ، فمن انهزم بينه وبين نفسه عن تحمل شدة الصبر ساعات من النهار ،فسيكون أشد هزيمة بينه وبين أعدائه عن تحمل قسوة الكفاح والنضال أياما وشهورا وأعواما ، فالمنهزمون في ميدان صغير ، فهم ليسوا أهلا لأن يحرزوا النصر لأمتهم في ميدان كبير ، ومن أعلن استسلامه في معركة نفسية تدوم ساعات ، فقد حكم على نفسه بفقدان أول خلق من أخلاق المكافحين ، وهو الرجولة ، ومن عز عليه أن يعيش في جو الرجال ، فقد أخرج نفسه من سجلات الشهداء والأبطال .وأما الذين يرون في رمضان جوعا في النهار ، و متعة في الليل ،فيجلسون أمام الشاشات أو يذهبون إلى الأسواق والملاهي، والخيام الرمضانية، والسهرات التلفزيونية، والماتشات الدورية، ثم ينامون قبيل الفجر فلا يصليه، وربما نام إلى قبيل العصر وفاته أيضًا الظهر، فهؤلاء محرومون من الخير في رمضان ، وهم مخالفون لفطرة الله التي فطر الناس عليها، حيث جعل النهار معاشًا والليل لباسًا، قال الله تعالى: ﴿ وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاسًا * وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشًا ﴾ [النبأ: 10- 11]. وهم لا يشعرون بلذة الصيام أبدًا، ولا يجدون أثره عليهم، ولا يشعرون بالحكمة من مشروعيته، أما جمهور المسلمين الصائمين فإليهم أنوجه هذا الحديث ، وهم الذين نرجو أن ينفعهم الله بالصيام ، و يثبتهم عليه ، و يجزل مثوبتهم فيه .
أيها المسلمون
إن الأمم كالأفراد تحتاج في حياتها الطويلة إلى فترات من الراحة والهدوء ، تُصلح فيها ما فسد من أوضاعها ، وتجدد ما كاد يبلى من مقوماتها ، وتعالج ما ساء من شؤونها ، وهذه الفترات هي اللحظات الفاصلة في تاريخ الأفراد و الجماعات ، فإن عرفت كيف تستفيد منها ، كانت مفتاحا لكل خير تناله في المستقبل ، ولكل نصر تحرزه في المعارك ، ولكل خلود تسجله في التاريخ ، ورمضان هو هذه الفترة الروحية التي تجد فيها الجماهير والأفراد فرصة لإصلاح تاريخها .فإن رمضان (محطة ) لتعبئة القوى النفسية والروحية والخلقية ،التي تحتاج إليها كل أمة في الحياة ، ويحتاج إليها كل فرد في المجتمع ، إنه يمنحنا فيما ، يمنح تذكيرا بالحق الذي تقوم السموات والأرض عليه ، وتخلقا بالقوة التي لا تنتصر أمة بدونها ، وشغفا بالحرية التي لا تتم الكرامة الإنسانية إلا بها ( حق ، وقوة ، وحرية ) ، هذا هو بعض ما يمنحنا رمضان في أيامه الجائعة العطشى ، وما رأيت في حياتي صائما يفهم معنى الصوم ، ويتحقق بحكمته وفلسفته إلا مناضلا في سبيل الحق ، لا تلين له قناة ، قويا في حلبة الصراع ، لا ينهزم منه خلق، حرا بأكرم معاني الحرية ، لا تعلق به ذلة ، ولا عبودية ، إن المسلم الصائم طواعية واختيارا ،وعبودية لله ، وخضوعا لجلاله ، ورجاء للقرب منه ،والأنس بحضرته ، يرى الأنانية والأثرة والعزلة والانقطاع عن مشاركة المجتمع في آلامه وأحزانه ، يرى في ذلك كله باطلا ، ما أحراه أن يترفع عنه و ينتصر عليه . ويرى الأهواء والشهوات والظلم والبغي والعداوة والبغضاء ضعفا يقتل روح الأمة ،ما أجدر به أن يثور عليه ، ويقف دونه ، ويرى في لذة المناجاة مع الله ، وتنفيذ شرعه فيما نهى وأمر ، حرية تنأى به عن العبودية لغير الله من طعام وشراب ولذة وطمع وأماني كاذبة ، فهو الحر دائما وأبدا ، هو الحر الذي لا تتجلى حريته في القدرة على الانتقال من مكان إلى مكان ،بل في القدرة على أن يتحكم في عواطفه وميوله ، فيحبس عنها ما يشاء ، ويطلق منها ما يشاء . إنه هنا حر الروح ، ولو أطبقت عليه الجدران ، حر الفكر ، ولو عاش في أرض قفر ، حر الإرادة ، ولو كبل بالحديد ، وهذه لعمري هي الحرية ، التي تليق بكرامة الإنسان ، و أين منها حرية الأشباح والأجسام !
أقول قولي وأستغفر الله لي ولكم
الخطبة الثانية ( من أي الأصناف أنت في رمضان؟ ) 1
الحمد لله رب العالمين .. اللهم لك الحمد على نعمة الإسلام والايمان .ولك الحمد أن جعلتنا من أمة محمد عليه الصلاة والسلام….وأشهد أن لا إله إلا لله وحده لا شريك له . وأشهد أن محمدا عبده ورسوله.. نشهد أنه بلغ الرسالة وأدى الأمانة ونصح الأمة اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
أما بعد أيها المسلمون
بهذا الفهم الدقيق لرمضان وفلسفته ، وبهذا التخلق الكامل بالصيام وآدابه ، سجل تاريخنا القديم والحديث من النصر في معارك الحق آيات بينات ، وترك للإنسانية من أبطال الإصلاح والفتوح والحكم والعلم أعلاما شامخات . أفترون المسلمين يوم بدر ، وقد كانت في اليوم السابع عشر في رمضان ، أفترونهم يومئذ خاضوا المعركة في قلة من العَدد والعُدد ،ثم انتصروا على أقرانهم من أبناء عمومتهم ومواطنيهم نصرا مؤزرا ، خلده القرآن في محكم آياته ، أفترونهم استطاعوا أن يحرزوا هذا النصر ، لولا أن الصيام بث فيهم من القوة ، ونصرة الحق ، والحرية الروحية الكاملة ، ما جعلهم يخوضون المعركة أقوياء أحرارا ؟ إن بطشوا بطشوا بقوة الله ، وإن رموا رموا بعزة الله ، وإن صالوا و جالوا كانت قوة الحق وإشراقة الروح هي التي تسدد لهم الهدف ، وتدلهم على مقاتل الأعداء !ثم هل ترون معاركنا التي انتصرنا فيها في اليرموك ، والقادسية ، وجلولاء ،وحطين ، وغيرها وغيرها ، هل كانت تتم بهذه الروعة المعجزة التي لا تزال تذهل كبار الباحثين في أسرارها ، لولا أن أهلها كانوا يتخلقون بخلق الصائمين ، من عفة وسمو ، وتضحية و فداء ، وتحمل للشدائد ، وخضوع لله واستعلاء على كل ما سواه ، واستهزاء بقوى الباطل مهما كثرت ؟ ، ذلك أنهم وصلوا أرواحهم بقوة الله ، ومن ذا الذي يغلب الله ؟ ، لقد علمهم الإسلام بالصيام في أيام السلم ، كيف يستطيعون أن يصوموا في أيام الحرب ، والحرب لا ينتصر فيها الضعيف على القوي ، والقليل على الكثير ، والأعزل على المسلح ، إلا إذا كانت له أخلاق الصائمين ، فهم صائمون عن الراحة ، لا يعرفون هدوءا ولا استقرارا ، صائمون عن اللذة ، لا يعرفون زوجة ولا ولدا ، صائمون عن الترف ، لا يعرفون حريرا ولا ديباجا ، صائمون عن النوم ، لا يعرفون ليلا ولا نهارا ، صائمون عن عشق الحياة ، لا يرون ألذ من الموت طعما ، ولا أحلى من الشهادة موردا .
أيها المسلمون
فالذين يستقبلون شهر رمضان على أنه شهر نهاره جوع ، وليله لهو ، وتلاوة للقرآن لا تجاوز اللسان ، ونوم في النهار ، وسهر في الليل ، فلن يستفيدوا منه بشيء. و أما الذين يستقبلونه على أنه مدرسة لتجديد الإيمان ، وتهذيب الخلق ، وتقوية الروح ، واستئناف حياة أفضل وأكمل ، فهؤلاء هم الذين يستفيدون منه ، وهؤلاء هم الذين تفتح لهم أبواب الجنان في رمضان ، وتغلق عنهم أبواب النيران ، وتتلقاهم الملائكة ليلة القدر بالبشرى والسلام ، هؤلاء هم الذين ينسلخ عنهم رمضان مغفورة لهم ذنوبهم ، مكفرة عنهم سيئاتهم ، مجلوة بنور الله قلوبهم ، مجددة بقوة الإيمان عزائمهم .هؤلاء هم الذين تصلح بهم الأوضاع ، وتنتصر بهم الأمة ، وتسعد بهم المجتمعات ، وما أحوجنا إليهم اليوم ونحن في قلب المعركة مع الاستعمار والباطل ، فإما أن نذل ، وإما أن نحيا .فهيا أيها المؤمنون ، فقد قامت سوق الجنة ، وهيا أيها المتخلفون فقد امتدت يد الله تعالى إليكم ….
ونستكمل الموضوع -إن شاء الله – في اللقاء القادم
الدعاء