خطبة عن (فقه الدعاء)
يناير 23, 2024خطبة عن (الأخوة في الله)
يناير 25, 2024الخطبة الأولى (وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلًا)
الحمد لله رب العالمين. اللهم لك الحمد على نعمة الإسلام والايمان. ولك الحمد أن جعلتنا من أمة محمد عليه الصلاة والسلام. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له. وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد أيها المسلمون
يقول الله تعالى: (وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلًا) (12) الاسراء
إخوة الإسلام
لقاؤنا اليوم -إن شاء الله تعالى- مع هذه الآية الكريمة من كتاب الله العزيز، نتلوها، ونتدبرها، ونتفهم معانيها، ونسبح في بحار مراميها، ففي التفسير الميسر أن المعنى: (وجعلنا الليل والنهار علامتين دالَّتين على وحدانيتنا وقدرتنا، فمَحَوْنا علامة الليل -وهي القمر- وجعلنا علامة النهار -وهي الشمس- مضيئة؛ ليبصر الإنسان في ضوء النهار كيف يتصرف في شؤون معاشه، ويخلد في الليل إلى السكن والراحة، وليعلم الناس -من تعاقب الليل والنهار- عدد السنين وحساب الأشهر والأيام، فيرتبون عليها ما يشاؤون من مصالحهم. وكل شيء بيَّناه تبيينًا كافيًا).
والمتدبر لقوله تعالى: (وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلًا) الاسراء (12)، ففيه بيان أن كل شيء فصله الله وبينه، من أحكام التكليف، وكل شيء لنا إليه حاجة في مصالح الدين والدنيا، قال تعالى :(مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ) [الأنعام:38]، وقال تعالى: (وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ) (89) النحل، فكل شيء بينه الله تعالى بيانا شافيا لكم أيها الناس، لتشكروا الله على ما أنعم به عليكم من نعمه، وتخلصوا له العبادة،
وفي قوله تعالى: (وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلًا) الاسراء (12)، فالتَّفْصِيلُ في الأشْياءِ يَكُونُ في خَلْقِها، ونِظامِها، وعِلْمِ اللَّهِ بِها، وإعْلامِهِ بِها، فالتَّفْصِيلُ الَّذِي في عِلْمِ اللَّهِ، وفي خَلْقِهِ، ونَوامِيسِ العَوالَمِ عامٌّ لِكُلِّ شَيْءٍ، وأمّا ما فَصَّلَهُ اللَّهُ لِلنّاسِ مِنَ الأحْكامِ، والأخْبارِ فَذَلِكَ بَعْضُ الأشْياءِ، ومِنهُ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿يُفَصِّلُ الآياتِ لَعَلَّكم بِلِقاءِ رَبِّكم تُوقِنُونَ﴾ [الرعد: ٢] وقَوْلُهُ تعالى: ﴿قَدْ فَصَّلْنا الآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ﴾ [الأنعام: ٩٧]، وذَلِكَ بِالتَّبْلِيغِ عَلى ألْسِنَةِ الرُّسُلِ، وبِما خَلَقَ في النّاسِ مِن إدْراكِ العُقُولِ، ومِن جُمْلَةِ ما فَصَّلَهُ لِلنّاسِ: الإرْشادِ إلى التَّوْحِيدِ، وصالِحِ الأعْمالِ، والإنْذارِ عَلى العِصْيانِ، فكُلُّ ما يحتاجُ إليه العِبادُ لتَحصيلِ السَّعادتينِ من عقائِدِ الحَقِّ، وأخلاقِ الصِّدقِ، وأحكامِ العَدلِ، ووجوهِ الإحسانِ، كُلُّ هذا فُصِّل في القُرآنِ تَفصيلًا، وهذا دُعاءٌ وترغيبٌ للخَلقِ، أن يَطلُبوا ذلك كُلَّه مِن القرآنِ، الذي يهدي للتي هي أقومُ: في العِلمِ والعَمَلِ، ويأخُذوا منه ويهتَدوا به؛ فهو الغايةُ التي ما وراءها غايةٌ في الهُدى والبيانِ
فالقرآن كتاب شامل، قال الشوكاني: (إن القرآن العظيم قد اشتمل على الكثير الطيب من مصالح المعاش والمعاد، وأحاط بمنافع الدنيا والدين، تارة إجمالا، وتارة عموما، وتارة خصوصا)، وجاء في سنن الدارمي: (عَنِ الْحَارِثِ قَالَ: دَخَلْتُ الْمَسْجِدَ فَإِذَا أُنَاسٌ يَخُوضُونَ فِي أَحَادِيثَ فَدَخَلْتُ عَلَى عَلِيٍّ فَقُلْتُ: أَلاَ تَرَى أَنَّ أُنَاساً يَخُوضُونَ فِي الأَحَادِيثِ فِي الْمَسْجِدِ. فَقَالَ: قَدْ فَعَلُوهَا؟ قُلْتُ: نَعَمْ. قَالَ: أَمَا إِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ: «سَيَكُونُ فِتَنٌ». قُلْتُ :وَمَا الْمَخْرَجُ مِنْهَا؟ قَالَ: «كِتَابُ اللَّهِ كِتَابُ اللَّهِ، فِيهِ نَبَأُ مَا قَبْلَكُمْ، وَخَبَرُ مَا بَعْدَكُمْ، وَحُكْمُ مَا بَيْنَكُمْ)، فالمتدبر للقرآن الكريم يجده شُّاملا لكلِّ مناحي الحياة الإنسانيَّة؛ فهو كتاب الدِّين كلِّه، والدنيا أيضًا، فلم يَقِف القرآنُ الكريم عند واحدٍ من الجوانب الإنسانيَّة، بل إنَّه تحدَّث بشموليةٍ إعجازيةٍ عن كلِّ الجوانب التي يحتاج الإنسانُ إليها؛ وخاصة في الجوانب الدِّينية والتعبُّدية؛ لأنَّها مجالاتٌ متعدِّدة، لذلك شَمِلَها القرآن في ثنايا حديثه وآياته،
وكذا الشُّمول العقدي: ويتمثَّل في بيان حقيقة توحيد الله – سبحانه وتعالى – بصورة واضحة؛ وذلك ببيان ذاتِه، وأسمائه وصفاتِه – سبحانه وتعالى. وبيان سائر أركان الإيمان الستة: (الإيمان بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، والقضاءِ والقدَر). كما يتمثَّل في ربط الكون والإنسان والحياة بالله – سبحانه وتعالى –
كما يتضمن القرآن على الشمول التشريعي: فيتضمَّن تشريعًا كاملاً لِمُختلف مناحي الحياة، فيشمل: العبادات، والمعاملات، والعقوبات، والسِّياسة الخارجية، ومُعاهَدات السِّلم والحرب والحياد، وسائر الأنظمة التي يقوم عليها المُجتمَع، ويتَّصِف هذا التشريع القرآنِيُّ بصفتين رئيسيتين، وهما: العموميَّة والدَّيمومة. ولِهذا جَعَلَه الله للناس كلِّهم وللعالَمين: دُستورًا هاديًا وشافيًا، وجعله خالدًا دائمًا على مرِّ الزمان والأجيال.
فالقرآنُ دستورٌ شامل، وصَفَه مُنَزِّله – وهو ربُّ العالمين – بأنه تبيانٌ لكلِّ شيء؛ فقد خاطب الرسول المُنَزَّل عليه صلى الله عليه وسلم بقوله تعالى: ﴿وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ﴾ [النحل: 89]. وقد قال الخليفة الأوَّل: “لو ضاع منِّي عِقالُ بعيرٍ لوجدتُه في كتاب الله”. ومن هنا يتَّضِح لنا كَمالُ القرآن في هدايته وشُموله، وعظَمة بلاغته وأسلوبه؛ ولذا فعلينا دوامَ تلاوته وفهمه، مع كون العمل به مِن آكَدِ فرائضه.
أيها المسلمون
ولا يفهم البعض أن المقصود بشمولية القرآن اقصاؤه للسنة المطهرة، فقد بيَّن النبي صلى الله عليه وسلم (وهو من أنزل عليه القرآن): أن السنَّة التي جاء بها هي مثل القرآن في كونها من الله تعالى، وفي كونها حجة، وفي كونها ملزمة للعباد، وحذَّر من الاكتفاء بما في القرآن وحده للأخذ به والانتهاء عن نهيه، وبيَّن مثالاً لحرامٍ ثبت في السنَّة ولم يأت له ذِكر في القرآن، فعَنْ الْمِقْدَامِ بْنِ مَعْدِي كَرِبَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: (أَلَا إِنِّي أُوتِيتُ الْكِتَابَ وَمِثْلَهُ مَعَهُ، أَلَا يُوشِكُ رَجُلٌ شَبْعَانُ عَلَى أَرِيكَتِهِ يَقُولُ: عَلَيْكُمْ بِهَذَا الْقُرْآنِ فَمَا وَجَدْتُمْ فِيهِ مِنْ حَلَالٍ فَأَحِلُّوهُ وَمَا وَجَدْتُمْ فِيهِ مِنْ حَرَامٍ فَحَرِّمُوهُ أَلَا لَا يَحِلُّ لَكُمْ لَحْمُ الْحِمَارِ الْأَهْلِيِّ وَلَا كُلُّ ذِي نَابٍ مِنْ السَّبُعِ) .رواه أبو داود وصححه الألباني
وهذا هو الذي فهمه الصحابة رضي الله من دين الله تعالى: ففي صحيح البخاري: (عَنْ عَلْقَمَةَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ لَعَنَ اللَّهُ الْوَاشِمَاتِ وَالْمُوتَشِمَاتِ وَالْمُتَنَمِّصَاتِ وَالْمُتَفَلِّجَاتِ لِلْحُسْنِ الْمُغَيِّرَاتِ خَلْقَ اللَّهِ. فَبَلَغَ ذَلِكَ امْرَأَةً مِنْ بَنِى أَسَدٍ يُقَالُ لَهَا أُمُّ يَعْقُوبَ، فَجَاءَتْ فَقَالَتْ إِنَّهُ بَلَغَنِي أَنَّكَ لَعَنْتَ كَيْتَ وَكَيْتَ. فَقَالَ وَمَا لِي لاَ أَلْعَنُ مَنْ لَعَنَ رَسُولُ اللَّهِ – صلى الله عليه وسلم – وَمَنْ هُوَ فِي كِتَابِ اللَّهِ فَقَالَتْ لَقَدْ قَرَأْتُ مَا بَيْنَ اللَّوْحَيْنِ فَمَا وَجَدْتُ فِيهِ مَا تَقُولُ. قَالَ لَئِنْ كُنْتِ قَرَأْتِيهِ لَقَدْ وَجَدْتِيهِ، أَمَا قَرَأْتِ (وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا). قَالَتْ بَلَى. قَالَ فَإِنَّهُ قَدْ نَهَى عَنْهُ. قَالَتْ فَإِنِّي أَرَى أَهْلَكَ يَفْعَلُونَهُ. قَالَ فَاذْهَبِي فَانْظُرِي. فَذَهَبَتْ فَنَظَرَتْ فَلَمْ تَرَ مِنْ حَاجَتِهَا شَيْئًا ، فَقَالَ لَوْ كَانَتْ كَذَلِكَ مَا جَامَعَتْنَا)،
وهذا هو الذي فهمه التابعون وأئمة الإسلام من دين الله تعالى، ولا يعرفون غيره، أنه لا فرق بين الكتاب والسنَّة في الاستدلال والإلزام، وأن السنَّة مبينة ومفسرة لما في القرآن. قال الأوزاعي عن حسان بن عطية: كان جبريل ينزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم، والسنَّة تفسر القرآن. وقال أيوب السختياني: إذا حدَّث الرجل بالسنَّة فقال: دعنا من هذا، حدِّثنا من القرآن :فاعلم أنه ضال مضل. وقال الأوزاعي: قال الله تعالى: (مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ) النساء (80)، وقال تعالى: (وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا) الحشر (7)
أقول قولي وأستغفر الله لي ولكم
الخطبة الثانية (وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلًا)
الحمد لله رب العالمين. اللهم لك الحمد على نعمة الإسلام والايمان. ولك الحمد أن جعلتنا من أمة محمد عليه الصلاة والسلام. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له. وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد أيها المسلمون
فهناك قاعدة كلية قرآنية، وهي وجوب طاعة الرسول -صلى الله عليه وسلم- فمثلًا: جاء في مسند أحمد: (عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ عَنْ أَبِيهِ عَنِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ «لَعَنَ اللَّهُ آكِلَ الرِّبَا وَمُوكِلَهُ وَشَاهِدَيْهِ وَكَاتِبَهُ». وفي صحيح مسلم: (عَنْ جَابِرٍ قَالَ لَعَنَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- آكِلَ الرِّبَا وَمُوكِلَهُ وَكَاتِبَهُ وَشَاهِدَيْهِ وَقَالَ هُمْ سَوَاءٌ). فأين ذلك في القرآن الكريم؟، قال تعالى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} (البقرة:٢٧٥)،إنما لعن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أو لعن الله، هذه تندرج تحت قاعدة: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} الحشر (7)، وقوله تعالى: { يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا} النساء (59). فهذا فهم الصحابة؛ فهموا أن القرآن بين القواعد الكلية العامة التي جاءت السنة، وبينت كثيرًا من تفصيلاتها ومن جزئياتها، وشرّعت أيضًا كما يشرّع القرآن الكريم، واستقام الفهم الإسلامي طوال عصوره، وإلى يوم أن يرث الله الأرضَ ومن عليها على هذا الأمر؛ فالقرآن يضع القواعد العامةَ، ورسولُ الله -صلى الله عليه وسلم- هو أعلم الأمة بمراد ربه، وهو الذي يفسّر القرآن الكريم، ويوضّح مراد الله -عز وجل- من القرآن الكريم، وعلى الأمة أن تسمع له وأن تطيع. وإذا بحثتَ عن الأدلة في وجوب طاعة النبي -صلى الله عليه وسلم- ستجدها في آيات كثيرةٍ من القرآن الكريم، وبذلك تكون طاعة النبي -صلى الله عليه وسلم- هي من بين ما لم يفرط الله -تبارك وتعالى- فيه في قوله -تبارك وتعالى-: {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} الانعام (38)، وقوله تعالى: (وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلًا) الاسراء (12)، فهي في نفس الوقت تندرج تحت: تبيان القرآن لكل شيء، فقد بين القرآن الكريم طاعة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} الحشر (7).
الدعاء