خطبة عن (الصيام: حكمته ومقاصده وفوائده)
مايو 29, 2016خطبة عن ( فتح مكة وما تبعه من أحداث )
مايو 29, 2016الخطبة الأولى ( من مقاصد الصيام وحكمته )
الحمد لله رب العالمين . اللهم لك الحمد على نعمة الإسلام والإيمان .ولك الحمد أن جعلتنا من أمة محمد عليه الصلاة والسلام. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له. وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
أمَّا بعد أيها المسلمون
يقول الله تعالى : (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) (183) البقرة
إخوة الإسلام
من مقاصد الصيام وحكمه تزكية النفس: نعم فمن مقاصد الصيام الجليلة أنَّ فيه تزكية للنفس وتنقية لها من الأخلاق الرذيلة ؛ خاصَّة أنَّه شرع في شهر من خصوصيَّاته تصفيد الشياطين فعَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ – رضى الله عنه – أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ « إِذَا جَاءَ رَمَضَانُ فُتِّحَتْ أَبْوَابُ الْجَنَّةِ وَغُلِّقَتْ أَبْوَابُ النَّارِ وَصُفِّدَتِ الشَّيَاطِينُ ».أخرجه مسلم. ولهذا يضيِّق الصوم مجاري الشيطان في بدن الإنسان ـ وكما هو معلوم ـ فإنَّ الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم ، إلاَّ أنَّه بالصيام يضعف نفوذه ، فإذا أكل المرء أو شرب انبسطت نفسه للشهوات ، وضعفت إرادتها ، وقلَّت رغبتها في العبادات، وفي الحديث الذي رواه البخاري:« إِنَّ الشَّيْطَانَ يَجْرِى مِنِ ابْنِ آدَمَ مَجْرَى الدَّمِ » . فالعلماء قالوا: إنَّ التضييق عليه يكون بتضييق مجاريه بالجوع ومنها الصوم ، فالجوع يكسر الشهوة ، ومجرى الشهوات الشيطان ، ولهذا كان ـ عليه الصلاة والسلام ـ يوصي الشباب ـ والذين تموج بهم عواصف الشهوات ، وتكون غرائزهم مهيأة لاقترافها أكثر من غيرهم ـ بالزواج ؛ فإن لم يستطيعوا إليه سبيلاً ، فإنَّ أنجع طريق لهم مقيِّدة لشهواتهم وكسر حدَّتها ؛ الصوم ؛ فيقول ـ عليه السلام كما في البخاري ـ:قال (النَّبِيُّ – صلى الله عليه وسلم – « يَا مَعْشَرَ الشَّبَابِ مَنِ اسْتَطَاعَ مِنْكُمُ الْبَاءَةَ فَلْيَتَزَوَّجْ ، وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَعَلَيْهِ بِالصَّوْمِ فَإِنَّهُ لَهُ وِجَاءٌ » . يقول ابن القيِّم ـ رحمه الله ـ :(وللصوم تأثير عجيب في حفظ الجوارح الظاهرة ، والقوى الباطنة ، وحميتها عن التخليط الجالب لها المواد الفاسدة التي إذا استولت عليها أفسدتها ، واستفراغ المواد الرديئة المانعة لها من صحَّتها ؛ فالصوم يحفظ على القلب والجوارح صحتها ، ويعيد إليها ما استلبته منها أيدي الشهوات) (زاد المعاد) ويقول الإمام الكمال بن الهمام ـ أحد فقهاء الحنفية ـ في فوائد الصوم: ( أنَّ الصوم يسكن النفس الأمَّارة بالسوء ويكسر شهوتها في الفضول المتعلقة بجميع الجوارح من العين واللسان والأذن والفرج ؛ ولذلك قيل: إذا جاعت النفس شبعت جميع الأعضاء ، وإذا شبعت جاعت كلُّها) ، ومن جميل ما اطَّلعت عليه من أبحاث أحد علماء الإعجاز العلمي أنَّه ذكر في سبب ترغيب رسول الله ـ صلَّى الله عليه وسلَّم ـ للمسلمين أن يصوموا الثالث عشر والرابع عشر والخامس عشر من كل شهر هجري ،أنَّ البحر يمد في هذه الأيام لضوء القمر بقدرة الله ـ عزَّ وجل ـ ويصيب البحر الجزر في الليالي الظلماء ، وكذلك الدم فإنَّه يزيد ضخه في هذه الأيام فأمر ـ عليه الصلاة والسلام ـ بالصيام ؛ لأنَّ الشيطان يزيد من عتوِّه ، وكلام هذا العالم جيد ولا يعارض النصوص ؛ ولله الحمد والمنة. فإن للصوم تأثيراً كبيراً في دفع الشهوات وكسر حدَّتها ، ولهذا يقول المصطفى ـ صلَّى الله عليه وسلَّم ـ :(الصوم جُنَّة) أخرجه البخاري ومعنى جُنَّة: أي درعٌ واقية من الإثم في الدنيا ، ومن النار في الآخرة ، وفي الحديث الآخر:( أن رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ « الصِّيَامُ جُنَّةٌ كَجُنَّةِ أَحَدِكُمْ مِنَ الْقِتَالِ ». أخرجه أحمد وغيره ، وفي الحديث الآخر:(الصيام جنَّة ، وهو حصن من حصون المؤمن ) أخرجه الطبراني، وحسَّنه الألباني ، فإذا كبَح الصوم المعاصي نال العبد منزلة راقية في العبودية لله ؛ لأنَّ الصوم ـ الذي يراد به مجرد الإمساك عن الطعام والشراب ـ يستطيعه كثير من الناس ، بيدَ أنَّه ـ سبحانه ـ أراد من عباده أن يكون صومهم منقياً لهم من المعاصي وما دار في فلكها، وقد ذكر الإمام ابن حجر العسقلاني أنَّ العلماء: (اتفقوا أنَّ المراد بالصيام صيام من سلم صيامه من المعاصي قولاً وفعلاً)والناس انقسموا في الصيام إلى عدَّة أقسام: فمنهم من يكون صيامه الإمساك عن الأكل والشرب فقط ، إلاَّ أنَّه مرتكب للفواحش مطلق بصرَه لما حرَّم الله من النظر إلى النساء اللاَّتي لا يحللن له ، وبعضهم قد أرخى لأذنه لكي تستمع للأغاني المحرمة ، ولا يخفى على ذي لبٍّ ما فيها من الفسق والكلام الفاحش ، وبعضهم أطلق لفمه العنان فينطق بالكلام الساقط ، والعبارات الرذيلة ، والغيبة والنميمة والكذب ؛ فهل هذا صيام من أراد جنَّة الرضوان ؟ وصدق رسول الله ـ صلى الله عليه وسلَّم ـ حين قال كما في مسند أحمد :(عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ قَالَ ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- « رُبَّ صَائِمٍ حَظُّهُ مِنْ صِيَامِهِ الْجُوعُ وَالْعَطَشُ وَرُبَّ قَائِمٍ حَظُّهُ مِنْ قِيَامِهِ السَّهَرُ » إذا لم يكن في السمع مني تصاون وفي بصري غضٌّ وفي منطقي صمت فحظِّي إذاً من صومي الجوع والظما فإن قلت إني صمت يومي فما صمت ،ولهذا فإنَّ هؤلاء الذين فرَّطوا بصيامهم يعتبرون محرومين في شهر الصوم ، مفلسين في شهر الجود والإحسان ،وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلَّم مرَّة لأصحابه كما في صحيح مسلم (عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ « أَتَدْرُونَ مَا الْمُفْلِسُ ». قَالُوا الْمُفْلِسُ فِينَا مَنْ لاَ دِرْهَمَ لَهُ وَلاَ مَتَاعَ. فَقَالَ « إِنَّ الْمُفْلِسَ مِنْ أُمَّتِى يَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِصَلاَةٍ وَصِيَامٍ وَزَكَاةٍ وَيَأْتِي قَدْ شَتَمَ هَذَا وَقَذَفَ هَذَا وَأَكَلَ مَالَ هَذَا وَسَفَكَ دَمَ هَذَا وَضَرَبَ هَذَا فَيُعْطَى هَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ وَهَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ فَإِنْ فَنِيَتْ حَسَنَاتُهُ قَبْلَ أَنْ يُقْضَى مَا عَلَيْهِ أُخِذَ مِنْ خَطَايَاهُمْ فَطُرِحَتْ عَلَيْهِ ثُمَّ طُرِحَ فِي النَّارِ » : والمقصد: أنَه ينبغي على المرء أن يكون بكليَّته صائماً عمَّا حرَّم الله في شهر رمضان وفي غيره من الشهور ؛ فإنَّ رمضان هو المحطة السنوية للغسيل الروحي ، وليس يعني ذلك أنَّ المسلم إذا صام عن المحرمات في رمضان ، أنَّه يجوز له أن يقترف ما حرَّم الله من المعاصي والموبقات في غير هذا الشهر ؛ فليكن رمضان زاداً إيمانياً لكل الشهور القادمة من بعده ، ودورة تربوية يزداد فيها رصيد العمل الصالح ، ويكثر فيه محاسبة النفس ومنعها من الحرام ،وقد قال الله:( وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى (40) فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى) (41) ) النازعات . أمَّا إذا كان صوم المسلم عن المحرمات في هذا الشهر ، ومن ثمَّ إذا أدبرت شمس اليوم الأخير منه ، عاد إليها كما لو أنَّ شيئاً لم يكن ؛ فإنَّه لا يناسبه إلاَّ ما قاله الإمام أحمد والفضيل بن عياض: بئس القوم الذين لا يعرفون الله إلاَّ في رمضان. فليتَّق الله هؤلاء وليخشوا نقمته ، وليعلموا أنَّ ذلك لن ينجيهم من عقاب الله وحسابه، وقال جابر: إذا صمت فليصم سمعك وبصرك ولسانك عن الكذب والمحارم ، ودع أذى الجار ، وليكن عليك وقار وسكينة يوم صومك ، ولا تجعل يوم صومك ويوم فطرك سواء!!)
أقول قولي وأستغفر الله لي ولكم
الخطبة الثانية ( من مقاصد الصيام وحكمته )
الحمد لله رب العالمين . اللهم لك الحمد على نعمة الإسلام والإيمان .ولك الحمد أن جعلتنا من أمة محمد عليه الصلاة والسلام. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له. وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
أمَّا بعد أيها المسلمون
ومن مقاصد الصوم وحكمه تذكر المحرومين ومواساتهم: فمن مقاصد الصيام الجليلة أنَّ فيه تجربة لمقاساة الحرمان والجوع ، وتذكُّر الفقراء الذين يقاسون الحرمان أبد الدهر ، فيتذكر العبد إخوانه الفقراء وكيف أنَّهم يعانون الأمرَّين من الجوع والعطش ، فما أجمل مقصد الشارع الحكيم في مشروعية الصوم ، ولا ريب أنَّه يسبب تآلف أرواح الصائمين ، وليس شيء أقوى من هذه الإرادة المتينة ، فأين نحن إذاً من شعورنا بمعاناة إخوانٍ لنا فراشهم الأرض ، ولحافهم السماء ، وأكلهم ضئيل ، وزادهم أقلُّ من القليل ، أفلا يليق بنا أن نشعر بمعاناتهم ، ونكون ممَّن يواسيهم ، خاصَّة أنَّ العلماء ذكروا أنَّ من أسماء هذا الشهر:(شهر المواساة) حيث يواسي فيه الأغنياء ، إخوانهم الفقراء والمعدمين. ونتأسَّى برسول الهدى ـ صلَّى الله عليه وسلَّم ـ وفي الصحيحين (عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ – صلى الله عليه وسلم – أَجْوَدَ النَّاسِ ، وَكَانَ أَجْوَدُ مَا يَكُونُ فِي رَمَضَانَ حِينَ يَلْقَاهُ جِبْرِيلُ ، وَكَانَ يَلْقَاهُ فِي كُلِّ لَيْلَةٍ مِنْ رَمَضَانَ فَيُدَارِسُهُ الْقُرْآنَ ، فَلَرَسُولُ اللَّهِ – صلى الله عليه وسلم – أَجْوَدُ بِالْخَيْرِ مِنَ الرِّيحِ الْمُرْسَلَةِ) ، ولهذا استحبَّ العلماء تفطير الصائمين المساكين خصوصاً ، والمسلمين الموسرين عموماً لإطعامهم ، والشعور بالتكافل الاجتماعي فيما بينهم ، وتوثيق الروابط الاجتماعية لديهم ؛ ففي مسند أحمد (أَنَّ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- دَخَلَ عَلَيْهَا فَدَعَتْ لَهُ بِطَعَامٍ فَقَالَ لَهَا« كُلِى ». فَقَالَتْ إِنِّي صَائِمَةٌ. فَقَالَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- « إِنَّ الصَّائِمَ إِذَا أُكِلَ عِنْدَهُ صَلَّتْ عَلَيْهِ الْمَلاَئِكَةُ حَتَّى يَفْرَغُوا ». وَرُبَّمَا قَالَ « حَتَّى يَقْضُوا أَكْلَهُمْ ». وليس معنى تفطير الصائم هو أن تعطي صاحبك أو الفقير بضع تمرات ورطبات وماء، بل معنى ذلك أن تفطر الصائم وتشبعه ومن الأحاديث الدالَّة على استحباب تفطير الصائم ، قوله ـ صلَّى الله عليه وسلَّم كما في سنن الترمذي (عَنْ زَيْدِ بْنِ خَالِدٍ الْجُهَنِيِّ قَالَ ،قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم « مَنْ فَطَّرَ صَائِمًا كَانَ لَهُ مِثْلُ أَجْرِهِ غَيْرَ أَنَّهُ لاَ يَنْقُصُ مِنْ أَجْرِ الصَّائِمِ شَيْئًا » ، فإنَّ من خير التصدق ؛ التصدق في شهر الصوم ، حيث يضاعف الله فيه الدرجات ، ويزيد الحسنات ، ومن هذا المنطلق فإنَّ أهل العلم كانوا يستحبُّون استحباباً كبيراً التصدق في هذا الشهر، قال الإمام الشافعي: (أحبُّ للرجل الزيادة بالجود في رمضان ، اقتداءً برسول الله ـ صلَّى الله عليه وسلَّم ـ ولحاجة الناس فيه إلى مصالحهم ، ولتشاغل كثير منهم بالصوم والصلاة عن مكاسبهم!
الدعاء