(دروس عن قصة نبي الله داود عليه السلام )
سبتمبر 28, 2021خطبة عن أسس وأسباب السعادة ، وحديث ( قَدْ أَفْلَحَ مَنْ أَسْلَمَ وَرُزِقَ كَفَافًا وَقَنَّعَهُ اللَّهُ بِمَا آتَاهُ )
أكتوبر 2, 2021( دروس عن قصة نبي الله سليمان عليه السلام )
اليوم -إن شاء الله- نعيش لحظات طيبة ،مع قصة نبي الله سليمان (عليه السلام) .
يقول الله تعالى في محكم آياته : (وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ وَقَالَ يَا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنْطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ) النمل 16،
وقال تعالى على لسان سليمان : (رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لَّا يَنبَغِي لِأَحَدٍ مِّنْ بَعْدِي )
(وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ) فقد ورثه الله النبوة والملك.. وليس المقصود وراثته في المال، لأن الأنبياء لا يورثون. ولقد آتى الله سليمان عليه السلام- ملكا عظيما، لم يؤته أحدا من قبله، ولن يعطه لأحد من بعده إلى يوم القيامة. فقد استجاب الله تعالى لدعوة سليمان (رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لَّا يَنبَغِي لِأَحَدٍ مِّنْ بَعْدِي). ص 35
وقد يسأل سائل : لماذا أراد سيدنا سليمان عليه السلام هذا الملك العريض الذي لا ينبغي لأحد
من بعده ؟ هل كان سليمان مولعا بالسلطة ؟ هل كان حريصا على المجد والسلطان ؟ ،هل كان تواقا إلى الحكم والتحكم ؟ والإجابة : لا ،فإن طموح الملك سليمان كان طموح نبي ،وليس طموح ملك عادي ،فلم يكن تواقا للكبرياء والعظمة ،ولا عاشقا للملك المجرد ،إنما كان يريد الملك العظيم ليحارب به الظلم الذي انتشر وعم ،ويريد بالملك أن ينشر العدل والسلام والاسلام ،ويظهر ذلك من قوله : (وَأُوتِينَا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهَا وَكُنَّا مُسْلِمِينَ) ،وقوله : ( رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ )
ولأن نبي الله سليمان دعا ربه أن يهبه ملكا لا ينبغي لأحد من بعده ،فقد كان رسولنا محمد صلى الله عليه وسلم متأدبا مع ربه حين أمسك يوما جنيا ،وهم أن يربطه في سارية المسجد ، ففي صحيح البخاري (عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ – صلى الله عليه وسلم – « إِنَّ عِفْرِيتًا مِنَ الْجِنِّ تَفَلَّتَ الْبَارِحَةَ لِيَقْطَعَ عَلَىَّ صَلاَتِي ، فَأَمْكَنَنِي اللَّهُ مِنْهُ ، فَأَخَذْتُهُ ، فَأَرَدْتُ أَنْ أَرْبُطَهُ عَلَى سَارِيَةٍ مِنْ سَوَارِي الْمَسْجِدِ حَتَّى تَنْظُرُوا إِلَيْهِ كُلُّكُمْ فَذَكَرْتُ دَعْوَةَ أَخِي سُلَيْمَانَ رَبِّ هَبْ لِي مُلْكًا لاَ يَنْبَغِي لأَحَدٍ مِنْ بَعْدِى . فَرَدَدْتُهُ خَاسِئًا »
لقد سخر الله تعالى له أمرا لم يسخره لأحد من قبله ولا بعده.. سخر الله له “الجن“. فكان لديه –عليه السلام- القدرة على حبس الجن الذين لا يطيعون أمره، وتقييدهم بالسلاسل وتعذيبهم. ومن يعص سليمان يعذبه الله تعالى. لذلك كانوا يستجيبون لأوامره، فيبنون له القصور، والتماثيل –التي كانت مباحة في شرعهم- والأواني والقدور الضخمة جدا، فلا يمكن تحريكها من ضخامتها. وكانت تغوص له في أعماق البحار وتستخرج اللؤلؤ والمرجان والياقوت..
قال تعالى : (وَمِنَ الْجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَمَنْ يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنَا نُذِقْهُ مِنْ عَذَابِ السَّعِيرِ (12) يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِنْ مَحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ وَقُدُورٍ رَاسِيَاتٍ اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْرًا وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ ) سبأ 11 ، 12 ،
وقال تعالى ( وَمِنَ الشَّيَاطِينِ مَنْ يَغُوصُونَ لَهُ وَيَعْمَلُونَ عَمَلًا دُونَ ذَلِكَ وَكُنَّا لَهُمْ حَافِظِينَ) الانبياء 82 ،
وسخر الله لسليمان –عليه السلام- الريح فكانت تجري بأمره. لذلك كان يستخدمها سليمان في الحرب. فكان لديه بساطا خشبيا ضخم جدا، وكان يأمر الجيش بأن يركب على هذا الخشب، ويأمر الريح بأن ترفع البساط وتنقلهم للمكان المطلوب. فكان يصل في سرعة خارقة.
قال تعالى : (وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ عَاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَكُنَّا بِكُلِّ شَيْءٍ عَالِمِينَ ) الانبياء 81، وقال تعالى (وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ ) سبأ 12،
وقال تعالى : ( فَسَخَّرْنَا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَاءً حَيْثُ أَصَابَ (36) وَالشَّيَاطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ (37) وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفَادِ (38) هَذَا عَطَاؤُنَا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ (39) وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآبٍ) ص 36 : 40،
وفي المستدرك للحاكم وصححه الذهبي (عن ابن عباس رضي الله عنهما قال :
( كان سليمان بن داود يوضع له ست مائة كرسي ثم يجيء أشراف الإنس فيجلسون مما يليه ثم يجيء أشراف الجن فيجلسون مما يلي أشراف الإنس ثم يدعو الطير فتظلهم ثم يدعو الريح فتحملهم ،قال : فيسير في الغداة الواحدة مسيرة شهر )
وسخر له الطير : قال الله تعالى : (وَحُشِرَ لِسُلَيْمَانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ) (17) النمل،
ومن نعم الله عليه أيضا ،إسالة النحاس له. مثلما أنعم على والده داود بأن ألان له الحديد وعلمه كيف يصهره.. وقد استفاد سليمان من النحاس المذاب فائدة عظيمة في الحرب والسلم. قال تعالى (وَأَسَلْنَا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ ) سبأ 12،
ونختم هذه النعم بجيش سليمان عليه السلام. فكان جيشه مكون من: البشر، والجن، والطيور. فكان يعرف لغتها. قال تعالى : (وَقَالَ يَا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنْطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ (16) وَحُشِرَ لِسُلَيْمَانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ ) النمل 15 : 16 ،
وكان نبي الله سليمان –عليه السلام- يحب الخيل كثيرا، خصوصا ما يسمى (بالصافنات)، وهي من أجود أنواع الخيول وأسرعها. وفي يوم من الأيام، بدأ استعراض هذه الخيول أمام سليمان عصرا، وتذكر بعد الروايات أن عددها كان أكثر من عشرين ألف جواد ،فأخذ ينظر إليها ويتأمل فيها، فطال الاستعراض، فشغله عن ورده اليومي في ذكر الله تعالى، حتى غابت الشمس، فانتبه، وأنب سليمان نفسه لأن حبه لهذه الخيول شغله عن ذكر ربه حتى غابت الشمس، فأمر بإرجاع الخيول له ،قال الله تعالى : (وَوَهَبْنَا لِدَاوُودَ سُلَيْمَانَ نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ (30) إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِيِّ الصَّافِنَاتُ الْجِيَادُ (31) فَقَالَ إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ (32) رُدُّوهَا عَلَيَّ فَطَفِقَ مَسْحًا بِالسُّوقِ وَالْأَعْنَاقِ ) ص 29 : 32،
وفي قوله تعالى : (فَطَفِقَ مَسْحًا بِالسُّوقِ وَالْأَعْنَاقِ). جاءت هنا روايتان كلاهما قوي.
رواية تقول أنه أخذ السيف وبدأ بضربها على رقابها وأرجلها، حتى لا ينشغل بها عن ذكر الله.
ورواية أخرى تقول أنه كان يمسح عليها ويستغفر الله عز وجل ،فكان يمسحها ليرى السقيم منها من الصحيح لأنه كان يعدّها للجهاد في سبيل الله.
ورغم كل هذه النعم العظيمة والمنح الخاصة، التي خص الله بها نبيه سليمان ،فقد فتنه الله تعالى .. واختبره وامتحنه، والفتنة امتحان دائم، وكلما كان العبد عظيما كان امتحانه عظيما. قال تعالى : (وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَدًا ثُمَّ أَنَابَ (34) قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ)ص 34 ، 35،
واختلف المفسرون في فتنة سليمان عليه السلام. فقيل: أن سليمان عزم على الطواف على نسائه في ليلة واحدة، حتى تلد كل امرأة منهن ولدا يجاهد في سبيل الله، ولم يقل سليمان إن شاء الله، فطاف على نسائه فلم تلد منهن غير امرأة واحدة.. ولدت طفلا مشوها ألقوه على كرسيه.. وفي الصحيحين البخاري ومسلم (عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ هُرْمُزَ قَالَ سَمِعْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ – رضى الله عنه – عَنْ رَسُولِ اللَّهِ – صلى الله عليه وسلم – قَالَ :« قَالَ سُلَيْمَانُ بْنُ دَاوُدَ – عَلَيْهِمَا السَّلاَمُ – لأَطُوفَنَّ اللَّيْلَةَ عَلَى مِائَةِ امْرَأَةٍ – أَوْ تِسْعٍ وَتِسْعِينَ – كُلُّهُنَّ يَأْتِي بِفَارِسٍ يُجَاهِدُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ، فَقَالَ لَهُ صَاحِبُهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ . فَلَمْ يَقُلْ إِنْ شَاءَ اللَّهُ .فَلَمْ يَحْمِلْ مِنْهُنَّ إِلاَّ امْرَأَةٌ وَاحِدَةٌ ، جَاءَتْ بِشِقِّ رَجُلٍ ،وَالَّذِى نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ ، لَوْ قَالَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ ، لَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فُرْسَانًا أَجْمَعُونَ » .
وعن هذه الفتنة ما ذكره الفخر الرازي. قال: ( إن سليمان ابتلي بمرض شديد حار فيه الطب. مرض سليمان مرضا شديدا حار فيه أطباء الإنس والجن.. وأحضرت له الطيور أعشابا طبية من أطراف الأرض فلم يشف، وكل يوم كان المرض يزيد عليه حتى أصبح سليمان إذا جلس على كرسيه كأنه جسد بلا روح.. كأنه ميت من كثرة الإعياء والمرض.. واستمر هذا المرض فترة كان سليمان فيها لا يتوقف عن ذكر الله وطلب الشفاء منه واستغفاره وحبه.. وانتهى امتحان الله تعالى لعبده سليمان، وشفي سليمان.. وعادت إليه صحته بعد أن عرف أن كل مجده وكل ملكه وكل عظمته لا تستطيع أن تحمل إليه الشفاء إلا إذا أراد الله سبحانه..
ويذكر لنا القرآن الكريم مواقف عدة، تتجلى لنا فيها حكمة سليمان –عليه السلام- ومقدرته الفائقة على استنتاج الحكم الصحيح في القضايا المعروضة عليه. ومن هذه القصص ما حدث في زمن داود –عليه السلام- قال تعالى: (وَدَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ (78) فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا ) الانبياء 78 ، 79
ومن مواقف حكمته: ما جاء في الحديث الصحيح: ( عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ :« بَيْنَمَا امْرَأَتَانِ مَعَهُمَا ابْنَاهُمَا جَاءَ الذِّئْبُ فَذَهَبَ بِابْنِ إِحْدَاهُمَا . فَقَالَتْ هَذِهِ لِصَاحِبَتِهَا إِنَّمَا ذَهَبَ بِابْنِكِ أَنْتِ . وَقَالَتِ الأُخْرَى إِنَّما ذَهَبَ بِابْنِكِ . فَتَحَاكَمَتَا إِلَى دَاوُدَ فَقَضَى بِهِ لِلْكُبْرَى فَخَرَجَتَا عَلَى سُلَيْمَانَ بْنِ دَاوُدَ عَلَيْهِمَا السَّلاَمُ فَأَخْبَرَتَاهُ فَقَالَ ائْتُونِي بِالسِّكِّينِ أَشُقُّهُ بَيْنَكُمَا . فَقَالَتِ الصُّغْرَى لاَ يَرْحَمُكَ اللَّهُ هُوَ ابْنُهَا . فَقَضَى بِهِ لِلصُّغْرَى ». قَالَ قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ وَاللَّهِ إِنْ سَمِعْتُ بِالسِّكِّينِ قَطُّ إِلاَّ يَوْمَئِذٍ مَا كُنَّا نَقُولُ إِلاَّ الْمُدْيَةَ.
ويذكر لنا القرآن الكريم قصة عجيبة ، قصة سليمان والنملة ،وقد سميت سورة من سور القرآن بها : قال تعالى 🙁 وَحُشِرَ لِسُلَيْمَانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنسِ وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ (17) حَـتَّى إِذا أتَوْا عَلَى وَادِ النَّمْلِ قَالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لَا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (18) فَتَبَسَّمَ ضَاحِكًا مِّن قَوْلِهَا وَقَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ (19) )(النمل) ، يقول العلماء “ما أعقلها من نملة وما أفصحها”. (يَا) نادت، (أَيُّهَا) نبّهت، (ادْخُلُوا) أمرت، (لَا يَحْطِمَنَّكُمْ) نهت، (سُلَيْمَانُ) خصّت، (وَجُنُودُهُ) عمّت، (وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ) اعتذرت.
فسمع سليمان كلام النملة ، فتبسم ضاحكا من قولها.. ما الذي تتصوره هذه النملة! رغم كل عظمته وجيشه فإنه رحيم بالنمل.. يسمع همسه وينظر دائما أمامه ولا يمكن أبدا أن يدوسه..
وكان سليمان يشكر الله أن منحه هذه النعمة.. نعمة الرحمة ونعمة الحنو والشفقة والرفق.
وقصة النملة على قصرها إلا أنها تضرب مثلًا لنملة إيجابية، نملة شجاعة، كان من الممكن أن تهرب وحدها وتدخل جحرها، لكنها أول نملة رأت الجيش قبل غيرها من النمل، فخشيت على أمتها، لم تعش لنفسها، رغم أنه كان من الممكن أن تموت تحت الأقدام وهي تنادي على النمل، لكنها تضحي من أجل الآخرين، ولهذا تبسم سيدنا سليمان ، كما أن فيها إعلاء لعبادة الشكر على نعم الله التي ينعمها علينا، وتجلى ذلك في شكر سيدنا سليمان لله سبحانه وتعالى أن علمه منطق الطير ولغات الدواب كلها فكان ذلك سببًا في حفظ حياتهم وعمارة الأرض.
والمتأمل والمتدبر لهذه القصة العجيبة يتبين له من خلالها فوائد جمة ، وعبرا كثيرة ، ومنها : أولا : تأمل عقل هذه النملة، وكيف أدركت أن سليمان وجنوده إذا حطموا شيئًا فهو بغير قصد، فهم لا يقصدون الشر والأذى، ولم تسيء هذه النملة الظن بنبي الله وجنوده ، ولم تتهم أحدا ، بل سارعت للدفاع، قائلة : (وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ) وعندما كانت النصيحة بهذا الأدب الجم لا بدّ أن تكون الاستجابة حاصلة أولاً.
ثانيًا: من هذه النملة وأسلوبها وحكمتها وأدبها يضحك سليمان عليه السلام ، يتبسم من مثل هذه المقالة، ومن هذه المنطق السليم الجميل، (فَتَبَسَّمَ ضَاحِكًا مِنْ قَوْلِهَا ) [النمل: 19]
لقد سمع نبي الله سليمان ( عليه السلام ) كلام النملة ،وفهم مرادها، وتأثر بنطقها، وأعجبه هذا الكلام، تبسم ضاحكًا من غير قهقهة، وهكذا الأدب في الضحك ألا يرتفع الصوت، ولا تظهر اللهاة، ومن غير قهقهة، بدت ثناياه بهذه الضحكة دون صوت، وهو أخف الضحك وأحسنه، إعجابًا بقولها لظهور رحمتها وشفقتها على قومها من جهة، ولالتماسها العذر لسليمان، وجنوده من جهة، وسرورًا بما أعطاه الله من النعمة في فهم منطق النمل كما فهم منطق الطير، ولذلك شكر النعمة، ( فَتَبَسَّمَ ضَاحِكًا مِنْ قَوْلِهَا وَقَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ ) [النمل: 19].، إنها نعمة كبيرة عندما يعطي كل هذه الإمكانات والقوى والفهم والعلم، وعلى رأس ذلك النبوة، وأن يوفق لخدمة التوحيد والدين، وأن يخرج مجاهدًا في سبيل الله، ألهمني شكر نعمتك التي مننت بها عليّ من تعليم منطق الطير والحيوان.
ومن الدروس والعبر المستفادة من القصة أيضا : أنَّ العمل بشكلٍ جماعيٍّ كما يعمل النمل مقدَّم على العمل الفردي وهذا ما أراده الله عندما أوحى لهذه النملة أن تنادي على أخواتها من النمل وتحذِّرهم، فعمل الفرد قد ينقذُ الأمة إذا تمَّ تسخير ذلك الجهد من أجل الأمة كلِّها، وإذا تمَّ بذل التضحيات في سبيل ذلك، وفي قصة نملة سليمان أيضًا عبرةٌ لنا : بأن نركِّز على الجهود المبذولة وعلى العمل دون أن
نلقي بآمالنا على النتائج؛ لأنّ الأهمّ هو الكدُّ والعمل والنتيجة بيد الله تعالى في النهاية،
وهناك قصة أخرى من قصص القرآن عن سيدنا سليمان ،إنها قصة سليمان عليه السلام وبلقيس ملكة سبأ :ولعلها أشهر قصة لما تحمله أحداثها من عجائب وحكم ودروس وعبر ..جاء يوما.. وأصدر سليمان أمره لجيشه أن يستعد.. بعدها، خرج سليمان يتفقد الجيش، ويستعرضه ويفتش عليه.. فاكتشف غياب الهدهد وتخلفه عن الوقوف مع الجيش، فغضب وقرر تعذيبه أو قتله، إلا إن كان لديه عذر قوي منعه من القدوم.
قال تعالى : (وَحُشِرَ لِسُلَيْمَانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ (17) حَتَّى إِذَا أَتَوْا عَلَى وَادِ النَّمْلِ قَالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لَا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (18) فَتَبَسَّمَ ضَاحِكًا مِنْ قَوْلِهَا وَقَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ (19) وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقَالَ مَا لِيَ لَا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنَ الْغَائِبِينَ (20) لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذَابًا شَدِيدًا أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ (21) فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ فَقَالَ أَحَطْتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ ) النمل 17 : 22 ،
لم يطل الوقت حتى جاء الهدهد ووقف على مسافة غير بعيدة عن سليمان –عليه السلام-
(فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ فَقَالَ أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِن سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ)
وانظروا كيف يخاطب هذا الهدهد أعظم ملك في الأرض، بلا إحساس بالذل أو المهانة، ليس كما يفعل ملوك اليوم لا يتكلم معهم أحد إلا ويجب أن تكون علامات الذل ظاهرة عليه.
فقال الهدهد لسليمان أنا أعلم منك بقضية معينة، وفيها أمور خطيرة ، فجئتك بأخبار أكيدة من مدينة سبأ باليمن. (إِنِّي وَجَدتُّ امْرَأَةً) بلقيس (تَمْلِكُهُمْ) تحكمهم (وَأُوتِيَتْ مِن كُلِّ شَيْءٍ) أعطاها الله قوة وملكا عظيمين وسخّر لها أشياء كثيرة (وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ) وكرسي الحكم ضخم جدا ومرصّع بالجواهر (وَجَدتُّهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِن دُونِ اللَّهِ) وهم يعبدون الشمس (وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ) أضلهم الشيطان (فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لَا يَهْتَدُونَ (24) أَلَّا يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ)
فكيف يسجدون للشمس ويتركون الله سبحانه وتعالى (اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ)
وذكر العرش هنا لأنه ذكر عرش بلقيس من قبل، فحتى لا يغترّ إنسان بعرشها ذكر عرش الله سبحانه وتعالى.
فتعجب سليمان من كلام الهدهد، فلم يكن شائعا أن تحكم المرأة البلاد، وتعجب من أن قوما لديهم كل شيء ويسجدون للشمس، وتعجب من عرشها العظيم، ولكن سيدنا سليمان لم يصدق الهدهد ولم يكذبه إنما (قَالَ سَنَنظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنتَ مِنَ الْكَاذِبِينَ)
وهذا منتهى العدل والحكمة. فإذا أخبر الإنسان خبرا فعليه أن يتحقق منه ولا يصدر أحكامه قبل أن يتثبت منه (قَالَ سَنَنْظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْكَاذِبِينَ ) النمل 27،
—————————————————————————————-
ومن الهدهد نتعلم قضية التوحيد
إن قضية التوحيد، وإفراد الله -عز وجل- بأنواع العبادة، والتحذير من الشرك وخطورة الوقوع في مزالقه ، لهو من القضايا الكبرى المصيرية في الإسلام ، والتي يجب التذكير بها بين الفينة والأخرى ،وذلك لأن مدار نجاة العبد في دار الخلود متوقف على الإتيان بهذه العبادة خالصة نقية؛ ولأهميتها كانت قاعدة انطلاق دعوة الرسل -عليهم الصلاة والسلام- من أساسها.
فقضية التوحيد هي القضية الكونية العظمى التي من أجلها وُجدت هذه الكائنات والمخلوقات، قال تعالى: ﴿ وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ ﴾ [الذاريات: 56]؛
قال الشيخ عبد الرحمن بن سعدي -رحمه الله-: (هذه الغاية التي خلق الله الجن والإنس لها، وبعث جميع الرسل يدعون إليها، وهي عبادته المتضمنة لمعرفته ومحبته، والإنابة إليه والإقبال عليه، والإعراض عما سواه، وذلك متوقف على معرفة الله تعالى؛ فإن تمام العبادة متوقف على المعرفة بالله، بل كلما ازداد العبد معرفة بربه، كانت عبادته أكمل، فهذا الذي خلق الله المكلفين لأجله، فما خلقهم لحاجة منه إليهم ) .
وقضية التوحيد بعث الله سبحانه وتعالى من أجلها الرسل ، فأرسلهم لتحقيق هذه الغاية الكبرى؛ كما قال تعالى: ﴿ وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ ﴾ [النحل: 36].
وتحقيق التوحيد هو الضمان الوحيد لنجاة العبد من الخلود في النار يوم القيامة، وسبب أعظم لدخول الجنة إما ابتداء أو انتهاء. فقد روى البخاري في صحيحه من حديث عُبَادَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، عَنْ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: ( مَنْ شَهِدَ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، وَأَنَّ عِيسَى عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ، وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ، وَالْجَنَّةُ حَقٌّ، وَالنَّارُ حَقٌّ، أَدْخَلَهُ اللَّهُ الْجَنَّةَ عَلَى مَا كَانَ مِنْ الْعَمَلِ ).
وفي البخاري أيضًا من حديث أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ: ( أَنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَمُعاذٌ رَدِيفُهُ عَلَى الرَّحْلِ قَالَ: يَا مُعَاذَ بْنَ جَبَلٍ، قَالَ: لَبَّيْكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ وَسَعْدَيْكَ، قَالَ: يَا مُعَاذُ، قَالَ: لَبَّيْكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ وَسَعْدَيْكَ، ثَلَاثًا، قَالَ: مَا مِنْ أَحَدٍ يَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، صِدْقًا مِنْ قَلْبِهِ، إِلَّا حَرَّمَهُ اللَّهُ عَلَى النَّارِ، قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَفَلَا أُخْبِرُ بِهِ النَّاسَ فَيَسْتَبْشِرُوا، قَالَ: إِذًا يَتَّكِلُوا. وَأَخْبَرَ بِهَا مُعَاذٌ عِنْدَ مَوْتِهِ تَأَثُّمًا ).
والتوحيد هو الفيصل بين الإسلام والكفر؛ وهو العاصم لعرض العبد ودمه وماله؛ فكل من أتى
بهذا التوحيد حرم التعرض له بأي أنواع الأذى، إلا ما أذنت فيه الشريعة؛ كما في الصحيحين من حديث عَبْدِ اللَّهِ بن مسعود -رضي الله عنه- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:
( لَا يَحِلُّ دَمُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ يَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنِّى رَسُولُ اللَّهِ، إِلَّا بِإِحْدَى ثَلًاثٍ: الثَّيِّبُ الزَّاني، وَالنَّفْسُ بِالنَّفْسِ، وَالتَّارِكُ لِدِينِهِ الْمُفَارِقُ لِلْجَمَاعَةِ ).
وقضية التوحيد هي أول الواجبات التي يدعى إليها الخلق، فلا واجب قبله، ولا أدل على ذلك من اتفاق الأنبياء جميعًا على البدء بقولهم لأممهم:
﴿ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ ﴾ [الأعراف: 59].
وروى البخاري ومسلم في صحيحيهما عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ -رضي الله عنهما-: ( أَنَّ رَسُولَ اللهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لَمَّا بَعَثَ مُعَاذًا إِلَى الْيَمَنِ، قَالَ: إِنَّكَ تَقْدَمُ عَلَى قَوْمٍ أَهْلِ كِتَابٍ، فَلْيَكُنْ أَوَّلَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ عِبَادَةُ اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ-، فَإِذَا عَرَفُوا اللَّهَ، فَأَخْبِرْهُمْ أَنَّ اللَّهَ فَرَضَ عَلَيْهِمْ خَمْسَ صَلَوَاتٍ فِي يَوْمِهِمْ وَلَيْلَتِهِمْ، فَإِذَا فَعَلُوا، فَأَخْبِرْهُمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ فَرَضَ عَلَيْهِمْ زَكَاةً تُؤْخَذُ مِنْ أَغْنِيَائِهِمْ فَتُرَدُّ عَلَى فُقَرَائِهِمْ، فَإِذَا أَطَاعُوا بِهَا، فَخُذْ مِنْهُمْ وَتَوَقَّ كَرَائِمَ أَمْوَالِهِمْ ).
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: وقد علم بالاضطرار من دين الرسول -صلى الله عليه وسلم-، واتفقت عليه الأمة أن أصل الإسلام وأول ما يؤمر به الخلق شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله.
—————————–
وفي قصة الهدهد مع سليمان والتي تصدرت آياتها هذه الخطبة ، يتبين لنا إدراك الهدهد لقضية التوحيد ، وأهمية الدعوة إليها ،
فالهدهد كان واعيا بمشروع دعوته ،وأن الدعوة إلى التوحيد هي أولى من أي تكليف.
فقد قال الله تعالى على لسان الهدهد : (وَجَدْتُهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لَا يَهْتَدُونَ (24) أَلَّا يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ (25) اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ) ، 24: 26 النمل .
هكذا أدرك الهدهد أن مهمة سليمان الحقيقية هي الهداية والدعوة إلى توحيد الله ، ولذلك سماها بالنبإ اليقين، والنبأ اليقين الذي اختلفت حوله البشرية جمعاء هو توحيد الله
فرغم سعة مملكة سبأ وما أوتيت من حزم وسطوة وكنوز وجنود ورعية مطيعة وعرش عظيم، وأوتيت من كل شيء فكل هذا لا يساوي شيئا أمام سجودهم لغير الله، فلا قيمة للدنيا خارج توحيد الله.. ويستمر الهدهد في إدراكه لحقيقة التوحيد ، واستحقاق السجود له وحده تعالى،
فالشمس جزء من الخبء، وهو الذي جعل الشمس ضياء، وإخراج الخبء هو الإيجاد من
العدم، والخبء شامل في السموات والأرض، وإخراج الخبء هو نظام التدبير الكوني الذي تعتبر الشمس عنصرا منه، فمن الذي يستحق السجود الذي يخرج الخبء أم الشيء المخبوء؟
ويختم الهدهد بيانه الدعوي كما قال الله تعالى على لسانه : (اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ) النمل . فالعظيم صفة خاصة بالله تعالى، وعرشه أيضا عظيم
——————————————————————————-
ثم كتب نبي الله سليمان كتابا وأعطاه للهدهد وقال له: (اذْهَب بِّكِتَابِي هَذَا فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ فَانظُرْ مَاذَا يَرْجِعُونَ) ألق الكتاب عليهم وقف في مكان بعيد بحيث تستطيع سماع ردهم على الكتاب. ومن خلال هذا الرد يتبن لنا حالهم ومقصدهم وقوتهم وفهمهم للأمور ،
ويختصر السياق القرآني في سورة النمل ما كان من أمر ذهاب الهدهد وتسليمه الرسالة، وينتقل مباشرة إلى الملكة، وسط مجلس المستشارين، وهي تقرأ على رؤساء قومها ووزرائها رسالة سليمان..قال تعالى:(قَالَتْ يَا أَيُّهَا المَلَأُ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ (29) إِنَّهُ مِن سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (30) أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ (31) (النمل)
هذا هو نص خطاب الملك سليمان عليه السلام لملكة سبأ.. إنه يأمرهم في خطابه أن يأتوه مسلمين.. هكذا مباشرة.. إنه يتجاوز أمر عبادتهم للشمس.. ولا يناقشهم في فساد عقيدتهم..
ولا يحاول إقناعهم بشيء.. إنما يأمر فحسب.( وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ ) . أليس مؤيدا بقوة تسند الحق الذي يؤمن به..؟ لا عليه إذن أن يأمرهم بالتسليم.. كان هذا كله واضحا من لهجة الخطاب القصيرة المتعالية المهذبة في نفس الوقت..
جلست ملكة سبأ وسط مجلس المستشارين، وهي تقرأ على رؤساء قومها ووزرائها رسالة سليمان.. فماذا قالت ؟ قال تعالى : ( قَالَتْ يَا أَيُّهَا المَلَأُ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ (29) إِنَّهُ مِن سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (30) أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ) (النمل) 29 : 31
وطرحت الملكة على رؤساء قومها الرسالة.. وكانت عاقلة، فهي تشاورهم في جميع الأمور:
(قَالَتْ يَا أَيُّهَا المَلَأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي مَا كُنتُ قَاطِعَةً أَمْرًا حَتَّى تَشْهَدُونِ).
وكان رد فعل الملأ وهم رؤساء قومها التحدي.. فقد أثارت الرسالة بلهجتها المتعالية المهذبة
غرور القوم، وإحساسهم بالقوة. وأدركوا أن هناك من يتحداهم ويلوح لهم بالحرب والهزيمة ويطالبهم بقبول شروطه قبل وقوع الحرب والهزيمة ، قال تعالى :
(قَالُوا نَحْنُ أُوْلُوا قُوَّةٍ وَأُولُوا بَأْسٍ شَدِيدٍ وَالْأَمْرُ إِلَيْكِ فَانظُرِي مَاذَا تَأْمُرِينَ) . النمل
فأراد رؤساء قومها أن يقولوا: نحن على استعداد للحرب.. ويبدو أن الملكة كانت أكثر حكمة
من رؤساء قومها.. فإن رسالة سليمان أثارت تفكيرها أكثر مما استنفرتها للحرب..
فكرت الملكة طويلا في رسالة سليمان.. كان اسمه مجهولا لديها، لم تسمع به من قبل، وبالتالي كانت تجهل كل شيء عن قوته، ربما يكون قويا إلى الحد الذي يستطيع فيه غزو مملكتها وهزيمتها. ونظرت الملكة حولها فرأت تقدم شعبها وثراءه، وخشيت على هذا الثراء والتقدم من الغزو.. ورجحت الحكمة في نفسها على التهور، وقررت أن تلجأ إلى اللين، وترسل إليه بهدية.. وقدرت في نفسها أنه ربما يكون طامعا قد سمع عن ثراء المملكة، فحدثت نفسها بأن تهادنه وتشتري السلام منه بهدية..
قدرت في نفسها أيضا إن إرسالها بهدية إليه، سيمكن رسلها الذين يحملون الهدية من دخول مملكته، وإذا سيكون رسلها عيونا في مملكته.. يرجعون بأخبار قومه وجيشه، وفي ضوء هذه المعلومات، سيكون تقدير موقفها الحقيقي منه ممكنا..
أخفت الملكة ما يدور في نفسها، وحدثت رؤساء قومها بأنها ترى استكشاف نيات الملك سليمان، عن طريق إرسال هدية إليه،
انتصرت الملكة للرأي الذي يقضي بالانتظار والترقب.. وأقنعت رؤساء قومها بنبذ فكرة الحرب مؤقتا، لأن الملوك إذا دخلوا قرية انقلبت أوضاعها وصار رؤساءها هم أكثر من فيها تعرضا للهوان والذل.. قال تعالى : (قَالَتْ إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ (34) وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ (35) ) النمل
واقتنع رؤساء قومها حين لوحت لهم الملكة بما يتهددهم من أخطار.. وبما تراه من معالجة الأمر بحكمة وروية ، ووصلت هدية الملكة بلقيس إلى الملك النبي سليمان..
وجاءت الأخبار لسليمان بوصول رسل بلقيس وهم يحملون الهدية.. وأدرك سليمان على الفور أن الملكة أرسلت رجالها ليعرفوا معلومات عن قوته لتقرر موقفها بشأنه..
ونادى سليمان في المملكة كلها أن يحتشد الجيش.. ودخل رسل بلقيس وسط غابة كثيفة مدججة بالسلاح.. ففوجئ رسل بلقيس بأن كل غناهم وثرائهم يبدو حقيرا وسط بهاء مملكة سليمان.. فصغرت هديتهم في أعينهم. وفوجئوا بأن في الجيش أسودا ونمورا وطيورا.. وأدركوا أنهم أمام جيش لا يقاوم..
ثم قدموا لسليمان هدية الملكة بلقيس على استحياء شديد. وقالوا له نحن نرفض الخضوع لك، لكننا لا نريد القتال، وهذه الهدية علامة صلح بيننا ونتمنى أن تقبلها.
نظر سليمان إلى هدية الملكة وأشاح ببصره ، قال تعالى : (فَلَمَّا جَاء سُلَيْمَانَ قَالَ أَتُمِدُّونَنِ بِمَالٍ فَمَا آتَانِيَ اللَّهُ خَيْرٌ مِّمَّا آتَاكُم بَلْ أَنتُم بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ)
هكذا كشف الملك سليمان بكلماته القصيرة عن رفضه لهديتهم، وأفهمهم أنه لا يقبل شراء رضاه بالمال. ويستطيعون شراء رضاه بشيء آخر (أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ)
ثم هددهم (ارْجِعْ إِلَيْهِمْ فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ لَّا قِبَلَ لَهُم بِهَا وَلَنُخْرِجَنَّهُم مِّنْهَا أَذِلَّةً وَهُمْ صَاغِرُونَ).
وصل رسل بلقيس إلى سبأ.. وهناك هرعوا إلى الملكة وحدثوها أن بلادهم في خطر.. وحدثوها عن قوة سليمان واستحالة صد جيشه.. وأفهموها أنها ينبغي أن تزوره وتترضاه..
وجهزت الملكة نفسها وبدأت رحلتها نحو مملكة سليمان.. وجلس سليمان عليه السلام في مجلس الملك وسط رؤساء قومه ووزرائه وقادة جنده وعلمائه.. وكان يفكر في بلقيس.. وهو يعرف أنها في الطريق إليه.. تسوقها الرهبة لا الرغبة.. ويدفعها الخوف لا الاقتناع.. ويقرر سليمان بينه وبين نفسه أن يبهرها بقوته، فيدفعها ذلك للدخول في الإسلام.
فسأل من حوله، إن كان بإمكان احدهم أن يحضر له عرش بلقيس قبل أن تصل الملكة إلى سليمان. فعرش الملكة بلقيس هو أعجب ما في مملكتها.. كان مصنوعا من الذهب والجواهر الكريمة، وكانت حجرة العرش وكرسي العرش آيتين في الصناعة والسبك.. وكانت الحراسة لا تغفل عن العرش لحظة.. فقال أحد الجن أنا أستطيع إحضار العرش قبل أن ينتهي المجلس – وكان عليه السلام يجلس من الفجر إلى الظهر- وأنا قادر على حمله وأمين على جواهره.
لكن شخص آخر يطلق عليه القرآن الكريم “الذي عنده علم الكتاب” قال لسليمان أنا أستطيع إحضار العرش في الوقت الذي تستغرقه العين في الرمشة الواحدة. قال تعالى :
(قَالَ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ (38) قَالَ عِفْرِيتٌ مِنَ الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقَامِكَ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ (39) قَالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتَابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ قَالَ هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ )النمل 38 : 40
واختلف العلماء المفسرون في “الذي عنده علم الكتاب” ،فمنهم من قال أنه وزيره أو أحد علماء بني إسرائيل وكان يعرف اسم الله الأعظم الذي إذا دعي به أجاب. ومنهم من قال أنه جبريل عليه السلام. ومنهم من قال إنه سليمان نفسه ،لكن السياق القرآني ترك الاسم وحقيقة الكتاب غارقين في غموض كثيف مقصود.. فنحن أمام سر معجزة كبرى وقعت من واحد كان يجلس في مجلس سليمان.. والأصل أن الله يظهر معجزاته فحسب، أما سر وقوع هذه المعجزات فلا يديره إلا الله..
وهكذا يورد السياق القرآني القصة لإيضاح قدرة سليمان الخارقة، وهي قدرة يؤكدها وجود هذا العالم في مجلسه.فإذا كانت هذه قوة أحد جلسائه ، فكيف بقوة سليمان نفسه ؟ فهذا هو العرش ماثل أمام سليمان..
وتأمل تصرف سليمان بعد هذه المعجزة.. فلم يستخفه الفرح بقدرته، ولم يزهه الشعور بقوته، وإنما أرجع الفضل لمالك الملك.. وشكر الله الذي يمتحنه بهذه القدرة، ليرى أيشكر أم يكفر.(فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ قَالَ هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ )
تأمل سليمان عرش الملكة طويلا ثم أمر بتغييره، أمر بإجراء بعض التعديلات عليه، ليمتحن بلقيس حين تأتي، ويختبر قوة ذكائها ، وحسن تصرفها ، ويرى هل تهتدي إلى عرشها أم تكون من الذين لا يهتدون. قال تعالى : (قَالَ نَكِّرُوا لَهَا عَرْشَهَا نَنْظُرْ أَتَهْتَدِي أَمْ تَكُونُ مِنَ الَّذِينَ لَا يَهْتَدُونَ ) النمل 41 ،
كما أمر سليمان ببناء قصر يستقبل فيه بلقيس. واختار مكانا رائعا على البحر وأمر ببناء القصر بحيث يقع معظمه على مياه البحر، وأمر أن تصنع أرضية القصر من زجاج شديد الصلابة، وعظيم الشفافية في نفس الوقت، لكي يسير السائر في أرض القصر ويتأمل تحته الأسماك الملونة وهي تسبح، ويرى أعشاب البحر وهي تتحرك.
تم بناء القصر، ومن فرط نقاء الزجاج الذي صنعت منه أرض حجراته، لم يكن يبدو أن هناك زجاجا. تلاشت أرضية القصر في البحر وصارت ستارا زجاجيا خفيا فوقه.
ويتجاوز السياق القرآني استقبال سليمان لها إلى موقفين وقعا لها بتدبيره:
الأول موقفها أمام عرشها الذي سبقها بالمجيء، وقد تركته وراءها وعليه الحراس.
والثاني موقفها أمام أرضية القصر البلورية الشفافة التي تسبح تحتها الأسماك.
فلما اصطحب سليمان عليه السلام بلقيس إلى العرش، نظرت إليه فرأته كعرشها تماما.. وليس كعرشها تماما.. إذا كان عرشها فكيف سبقها في المجيء..؟ وإذا لم يكن عرشها فكيف أمكن تقليده بهذه الدقة ..؟ فقال لها سليمان وهو يراها تتأمل العرش: (أَهَكَذَا عَرْشُكِ؟)
قالت بلقيس بعد حيرة قصيرة: (كَأَنَّهُ هُوَ!) ، إنه رد ( دبلوماسي ) بلغة اليوم ، فلم تقل هو ، ولم تنكر أن يكون هو ، فردها يحتمل المعنيين قال سليمان: (وَأُوتِينَا الْعِلْمَ مِن قَبْلِهَا وَكُنَّا مُسْلِمِينَ). وتوحي عبارته الأخيرة إلى الملكة بلقيس أن تقارن بين عقيدتها وعلمها، وعقيدة سليمان المسلمة وحكمته. فإن عبادتها للشمس، ومبلغ العلم الذي هم عليه، يصابان بالخسوف الكلي أمام علم سليمان وإسلامه.
لقد سبقها سليمان إلى العلم بالإسلام، بعدها سار من السهل عليه أن يسبقها في العلوم الأخرى، هذا ما توحي به كلمة سليمان لبلقيس..
أدركت بلقيس أن هذا هو عرشها، لقد سبقها إلى المجيء، وأنكرت فيه أجزاء وهي لم تزل
تقطع الطريق لسليمان.. أي قدرة يملكها هذا النبي الملك سليمان؟!
انبهرت بلقيس بما شاهدته من إيمان سليمان وصلاته لله، مثلما انبهرت بما رأته من تقدمه في الصناعات والفنون والعلوم.. وأدهشها أكثر هذا الاتصال العميق بين إسلام سليمان وعلمه وحكمته.
انتهى الأمر واهتزت داخل عقلها آلاف الأشياء.. رأت عقيدة قومها تتهاوى هنا أمام سليمان، وأدركت أن الشمس التي يعبدها قومها ليست غير مخلوق خلقه الله تعالى وسخره لعباده، وانكسفت الشمس للمرة الأولى في قلبها، وأضاء القلب نور جديد لا يغرب مثلما تغرب الشمس. إنه نور الإيمان الذي لا يغيب ولا يغرب
ثم قيل لبلقيس ادخلي القصر..( قِيلَ لَهَا ادْخُلِي الصَّرْحَ فَلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً وَكَشَفَتْ عَنْ سَاقَيْهَا قَالَ إِنَّهُ صَرْحٌ مُمَرَّدٌ مِنْ قَوَارِيرَ )
فلما نظرت لم تر الزجاج، ورأت المياه، وحسبت أنها ستخوض البحر، (وَكَشَفَتْ عَن سَاقَيْهَا) حتى لا يبتل رداؤها.
وهنا نبهها سليمان – دون أن ينظر- ألا تخاف على ثيابها من البلل. فليست هناك مياه. (إِنَّهُ صَرْحٌ مُّمَرَّدٌ مِّن قَوَارِيرَ).. إنه زجاج ناعم لا يظهر من فرط نعومته..
فاختارت بلقيس هذه اللحظة لإعلان إسلامها..
( قَالَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ )
اعترفت بظلمها لنفسها وأسلمت (مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ). وتبعها قومها على الإسلام.
إنها لم تسلم لسليمان ، ولكنها أسلمت مع سليمان لله رب العالمين
وأدركت أنها تواجه أعظم ملوك الأرض، وأحد أنبياء الله الكرام. ويسكت السياق القرآني عن قصة بلقيس بعد إسلامها.. ويقول بعض المفسرين أنها تزوجت سليمان بعد ذلك.. ويقال أنها تزوجت أحد رجاله.. أحبته وتزوجته، وثبت أن بعض ملوك الحبشة من نسل هذا الزواج.. ونحن لا ندري حقيقة هذا كله.. لقد سكت القرآن الكريم عن ذكر هذه التفاصيل التي لا تخدم قصة سليمان.. ولا نرى نحن داعيا للخوض فيما لا يعرفه أحد..
ومن الأعمال التي قام بها سليمان –عليه السلام- إعادة بناء المسجد الأقصى الذي بناه يعقوب من قبل. وبنى بجانب المسجد الأقصى هيكلا عظيما كان مقدسا عند اليهود – ولا زالوا يبحثون عنه إلى اليوم. وقد ورد في الهدي النبوي الكريم أن سليمان لما بنى بيت المقدس سأل ربه عز وجل ثلاثا، فأعطاه الله اثنتين ونحن نرجو أن تكون لنا الثالثة: سأله حكما يصادف حكمه –أي أحكاما عادلة كأحكام الله تعالى- فأعطاه إياه، وسأله ملكا لا ينبغي لأحد من بعده فأعطاه إياه، وسأله أيما رجل خرج من بيته لا يريد إلا الصلاة في هذا المسجد خرج من خطيئته مثل يوم ولدته أمه، وأسأل الله أن تكون لنا. وامتدت يد الخراب إلى الهيكل مرات عديدة، إذ كان هدفا دائما للغزاة والطامعين ينهبون ما به من كنوز، ثم يشيعون فيه الدمار،
عاش سليمان وسط مجد دانت له فيه الأرض.. ثم قدر الله تعالى عليه الموت فمات.. ومثلما كانت حياة سليمان قمة في المجد الذي يمتلئ بالعجائب والخوارق.. كان موته أيضا آية من آيات الله تمتلئ بالعجائب والخوارق..
وهكذا جاء موته منسجما مع حياته، متسقا مع مجده، جاء نهاية فريدة لحياة فريدة وحافلة.
لقد قدر الله تعالى أن يكون موت سليمان عليه الصلاة والسلام بشكل ينسف فكرة معرفة الجن للغيب.. تلك الفكرة التي فتن الناس بها فاستقرت في أذهان بعض البشر والجن..
كان الجن يعملون لسليمان طالما هو حي.. فلما مات انكسر تسخيرهم له، وأعفوا من تبعة العمل معه..
وقد مات سليمان دون أن يعلم الجن، فظلوا يعملون له، وظلوا مسخرين لخدمته، ولو أنهم كانوا يعلمون الغيب ما لبثوا في العذاب المهين.
كان سليمان متكئا على عصاه يراقب الجن وهم يعملون. فمات وهو على وضعه متكئا على العصا.. ورآه الجن فظنوا أنه يصلي واستمروا في عملهم. ومرت أيام طويلة.. ثم جاءت دابة الأرض، وهي نملة تأكل الخشب.. وبدأت تأكل عصا سليمان.. كانت جائعة فأكلت جزء من العصا.. استمرت النملة تأكل العصا أياما.. كانت تأكل الجزء الملامس للأرض، فلما ازداد ما أكلته منها اختلت العصا وسقطت من يد سليمان.. واختل بعدها توازن الجسد العظيم فهوى إلى الأرض.. ارتطم الجسد العظيم بالأرض فهرع الناس إليه.. قال تعالى : (فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ الْمَوْتَ مَا دَلَّهُمْ عَلَى مَوْتِهِ إِلَّا دَابَّةُ الْأَرْضِ تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَنْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ مَا لَبِثُوا فِي الْعَذَابِ الْمُهِينِ ) سبأ 14 ، فقد أدركوا أنه مات من زمن.. وتبينت الجن أنهم لا يعلمون الغيب.. وعرف الناس هذه الحقيقة أيضا.. لو كان الجن يعلمون الغيب ما لبثوا في العذاب المهين، ما لبثوا يعملون وهم يظنون أن سليمان حي، بينما هو ميت منذ فترة..
وهكذا مات نبي الله سليمان ، وهو يصلي ويذكر الله في محرابه وشيعت الناس والطيور والوحوش جنازة الملك سليمان ، فأظلت نعشه آلاف الطيور الباكية ، وسارت في جنازته الوحوش حزينة ، ولكنها نهاية كل حي ، لينتقل من دار البوار إلى دار القرار ، ومن دار الشقاء إلى دار السعادة ، ومن دار النصب والتعب إلى دار الراحة والمتعة والسعادة