خطبة عن (عليكم بالثبات حتى الممات)
نوفمبر 30, 2016خطبة عن (لا تيأس) (إِنَّهُ لَا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ)
ديسمبر 4, 2016الخطبة الأولى ( أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ )
الحمد لله رب العالمين . اللهم لك الحمد على نعمة الإسلام والايمان .ولك الحمد أن جعلتنا من أمة محمد عليه الصلاة والسلام. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له . وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
أما بعد أيها المسلمون
يقول الله تعالى في محكم آياته : (وَلَا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ) (22) النور ،وقال تعالى (فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ) (40) الشورى ،وروى مسلم في صحيحه :(عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ « مَا نَقَصَتْ صَدَقَةٌ مِنْ مَالٍ وَمَا زَادَ اللَّهُ عَبْدًا بِعَفْوٍ إِلاَّ عِزًّا وَمَا تَوَاضَعَ أَحَدٌ لِلَّهِ إِلاَّ رَفَعَهُ اللَّهُ » . وفي سنن الترمذي (عَنْ سَهْلِ بْنِ مُعَاذِ بْنِ أَنَسٍ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ « مَنْ كَظَمَ غَيْظًا وَهُوَ يَقْدِرُ عَلَى أَنْ يُنَفِّذَهُ دَعَاهُ اللَّهُ عَلَى رُءُوسِ الْخَلاَئِقِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حَتَّى يُخَيِّرَهُ فِي أَيِّ الْحُورِ شَاءَ »
إخوة الإسلام
إن كلَّ عبد لا بُدَّ أن يذنب ويخطئ، ومع هذا فهو يحبُّ أن يغفر له ربُّه ويعفو عنه سيدُه، واعلموا أن العفو عن الناس لهو من أسباب عفو الله عن العبد ،فيا أيها المؤمنون العظماء: ألا تحبون أن يغفر الله لكم؟! ألا تتمنون أن يرحمكم الله؟! بل أعظم من هذه الأمنيات التي ذكرناها من المغفرة والرحمة؛ ألا ترجون من الله أجرا لا يعلم فضل هذا الأجر إلا الله وحده ، إنه العفو والصفح أيها الفضلاء. يقول الله سبحانه وتعالى: ﴿ وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾ [التغابن: 14]. ويقول سبحانه وتعالى: ﴿ فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ ﴾ [الشورى: 40] ،وقال تعالى : ﴿ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ ﴾ [النور: 22]. قال ابن كثير: (هذه الآية نزلت في الصدِّيق، حين حلف ألا ينفع مِسْطَح ابن أثاثة بنافعة بعدما قال في عائشة ما قال،… فلما أنزل الله براءةَ أمِّ المؤمنين عائشة، وطابت النفوس المؤمنة واستقرت، وتاب الله على مَن كان تكلَّم من المؤمنين في ذلك، وأُقيم الحدُّ على مَن أُقيم عليه، شَرَع تبارك وتعالى، وله الفضل والمنة، يُعطِّفُ الصدِّيق على قريبه ونسيبه، وهو مِسْطَح بن أثاثة، فإنَّه كان ابن خالة الصديق، وكان مسكينًا لا مال له إلا ما ينفق عليه أبو بكر، رضي الله عنه، وكان من المهاجرين في سبيل الله، وقد تاب الله عليه منها، وضُرب الحدَّ عليها. وكان الصديق رضي الله عنه معروفًا بالمعروف، له الفضل والأيادي على الأقارب والأجانب. فلما نزلت هذه الآية إلى قوله: ﴿ أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾ [النور: 22] أي: فإنَّ الجزاء من جنس العمل، فكما تغفر عن المذنب إليك نغفر لك، وكما تصفح نصفح عنك. فعند ذلك قال الصديق: بلى، والله إنَّا نحبُّ – يا ربنا – أن تغفر لنا. ثم رَجَع إلى مسطح ما كان يصله من النفقة، وقال: والله لا أنزعها منه أبدًا، في مقابلة ما كان قال: والله لا أنفعه بنافعة أبدًا، فلهذا كان الصديق هو الصديق رضي الله عنه وعن ابنته. فيالها من عظمة! أبوبكر يعفو عن شخص خاض في عرضه ، ونحن للأسف الشديد لأخطاء بسيطة من بعضنا ، ولا يعفو عن أخيه ولا يصفح ؟؟
أيها المسلمون
إنها النفوس المؤمنة الطاهرة التي استنارت بنور الصدق والتصديق، ووجدت من برد اليقين بالأجر ما أطفأ لهيب غضبها، إنهم كرام الناس، يقبلون العذر ويُقِيلون العثرة، ويتجاوزون عن الخطأ ويدفنون الزلَّة، ويطوون الماضي طيَّ الكريم المسامح، ينزِّهون أنفسهم عن توبيخ مَن اعتذر أو الإثقال عليه، بل لا يلومونه ولا يعاتبونه، إنهم يفعلون ذلك ابتغاء الأجر، وطلبًا للثواب، وطمعًا في الرحمة، فيا مَن يريد أن يُقِيل الله عثرته ويتجاوز عن زلَّته، أَقِلْ عثرات إخوانك وتجاوز عن زلاَّتهم، واعلم أنه – سبحانه – رحيم يحبُّ الرحماء، كريم يحبُّ الكرماء؛ فلا تكن قاسيَ القلب، غليظ الطبع، متبعًا لهواك، اطلب الأجر من ربك، واسأله أن يشرح صدرك، واحذر قسوة القلب بعد أن علمت والتمادي في الضلال بعد الذكرى؛ فقد قال – سبحانه -: ﴿ أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلإِسْلاَمِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ أُولَئِكَ فِي ضَلاَلٍ مُبِينٍ ﴾ [الزمر: 22]. فربُّوا نفوسكم على العفو والصفح، وروِّضوها على التسامح والرقَّة، وعوِّدوها على الرحمة والرأفة، وتذكَّروا أن هذا من صفات أهل الجنة؛ قال – صلى الله عليه وسلم -: ((قَالَ وَأَهْلُ الْجَنَّةِ ثَلاَثَةٌ ذُو سُلْطَانٍ مُقْسِطٌ مُتَصَدِّقٌ مُوَفَّقٌ وَرَجُلٌ رَحِيمٌ رَقِيقُ الْقَلْبِ لِكُلِّ ذِى قُرْبَى وَمُسْلِمٍ وَعَفِيفٌ مُتَعَفِّفٌ ذُو عِيَالٍ)) رواه مسلم . فإن ديننا ليس أقوالاً نردِّدها، أو شعارات نعلنها ثم لا نطبق منها في الواقع إلا ما تمليه علينا أهواؤنا وتشتهيه أنفسنا، لا وألف لا، إن ديننا قِيَمٌ نعتنقها قولاً وعملاً، ومبادئ نتمسَّك بها سرًّا وعلنًا، وأصول ننطلق منها لإصلاح أنفسنا، ومنهج متكامِل نعامِل به مَن حولنا، وما شرعت الشرائع إلا لتُطبَّق ويُلتَزم بها، ولا أنزل الدين إلا لتطهير الباطن وتغيير الظاهر، وفي الحديث: « إِنَّ اللَّهَ لاَ يَنْظُرُ إِلَى صُوَرِكُمْ وَأَمْوَالِكُمْ وَلَكِنْ يَنْظُرُ إِلَى قُلُوبِكُمْ وَأَعْمَالِكُمْ ». رواه مسلم.
أيها المسلمون
فالعفو أيها المؤمنون بابٌ رفيع للفوز بالجنان ونيل رضا الرب الرحمن؛ قال الله تعالى: ﴿ وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ ﴾ [آل عمران: 133، 134]. ويقول رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «مَنْ كَظَمَ غَيْظًا وَهُوَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يُنْفِذَهُ، دَعَاهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ عَلَى رُؤوسِ الْخَلَائِقِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ؛ حَتَّى يُخَيِّرَهُ اللَّهُ مِنَ الْحُورِ الْعِينِ مَا شَاءَ» رواه أبو داود والترمذي وحسنه. وأهل العفو – عباد الله – هم الأقرب لتحقيق تقوى الله جل وعلا؛ قال الله تعالى: ﴿ وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى ﴾ [البقرة:237].وقال ابن عباس: أقربهما للتقوى الذي يعفو، العفو والصفح باب عظيم من أبواب الإحسان؛ وقال الله تعالى: ﴿ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ ﴾ [المائدة:13]. هذه هي العزة يا باغي العزة ،وهذه هي الرفعة يامن تنشدها، لأنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: « مَا نَقَصَتْ صَدَقَةٌ مِنْ مَالٍ وَمَا زَادَ اللَّهُ عَبْدًا بِعَفْوٍ إِلاَّ عِزًّا وَمَا تَوَاضَعَ أَحَدٌ لِلَّهِ إِلاَّ رَفَعَهُ اللَّهُ ». رواه مسلم.
أيها المسلمون
ولكن أتدرون ما هو أكبر عائق للعفو في دنيانا؟ أتعلمون ما العقبة الكؤود التي لو تجاوزناها لعفونا عن كلِّ مَن أساء إلينا؟ ، إنه اعتقاد كثيرٍ منَّا أن العفو مُرادِف للضعف، وأنه لا يتنازل عن حقِّه إلا العاجز الضعيف. لقد ترسَّب في أذهاننا من أخلاق الجاهلية أنه إن لم تكن ذئبًا أكلتْك الذئاب، ومن ثَمَّ فنحن نعتقد أن من الواجب على كل مَن أُسِيء إليه أن يردَّ الصاع بصاعَين، وأن يضاعف الكيل لِمَن أخطأ عليه ليردعه بذلك ويمنعه، وإنه وإن كان ذلك المنهج الجاهلي مؤثرًا في بعض النفوس الجاهلية الخبيثة، ولا خروج من بعض المواقف معها إلا به، إلا أنه يبقى منهجًا شاذًّا،
أمَّا الرفعة الحقيقية والقوَّة الفعلية، فإنما هي لِمَن عفا وتجاوز طلبًا لما عند الله، وترك الانتقام والانتصار لوجه الله، وفي الصحيحين (عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ – رضى الله عنه – أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ – صلى الله عليه وسلم – قَالَ « لَيْسَ الشَّدِيدُ بِالصُّرَعَةِ ، إِنَّمَا الشَّدِيدُ الَّذِى يَمْلِكُ نَفْسَهُ عِنْدَ الْغَضَبِ » فإن الإسلام يريد أن يكون مجتمع المسلمين مجتمعًا راقيًا فاضلاً، يجمع مَن فيه الحب والود والإخاء، وتسود فيه المروءة والفضل والصفاء، ويكثر فيه الخير والإحسان والعطاء، يريد له أن يكون مجتمعًا قويَّ الأركان متماسك البنيان، متوحد الصفوف، متَّفقة أهدافه، متَّحدة غاياته، غير مختلفة رؤاه. وإن قلَّة الحلم وكثرة الغضب وإرادة الانتقام، إنها لأخلاق دنيئة وصفات ممقوتة، بل آفات سيئة وأمراض معضلة، إذا استَشْرَتْ في مجتمع قوَّضت بنيانه وهدَّمت أركانه، وقادتْه إلى هوَّة عميقة وحفرة سحيقة، وقطعت أواصر المحبة التي بين أفراده، واجتثتْ جذور الألفة من قلوبهم، ومن ثَمَّ فقد أوصى – عليه الصلاة والسلام – بترك الغضب؛ ففي البخاري عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ – رضى الله عنه – أَنَّ رَجُلاً قَالَ لِلنَّبِيِّ – صلى الله عليه وسلم – أَوْصِنِي . قَالَ « لاَ تَغْضَبْ » . فَرَدَّدَ مِرَارًا ، قَالَ « لاَ تَغْضَبْ » وإن في ضمن هذا النهي المتكرِّر عن الغضب لأمرًا بالحلم والأناة ومدحًا لهما، وقد جاء ذلك عند مسلم قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- لِلأَشَجِّ أَشَجِّ عَبْدِ الْقَيْسِ « إِنَّ فِيكَ خَصْلَتَيْنِ يُحِبُّهُمَا اللَّهُ الْحِلْمُ وَالأَنَاةُ ». وهكذا فإن مقام العفو والصفح في رؤية كثير من الناس ذلٌّ ومهانة؛ فتقول له نفسه الأمارة بالسوء: كيف تعفو وكيف تصفح وقد فعل بك ما فعل وأساء إليك بكيت وكيت، أين العز! أين القوة! أين الشهامة! فتحدِّثه نفسه أن العزة في الانتقام. ولا والله فالعز إنما هو في العفو والصفح لا كما يظنه كثير من الناس، فإن العفو لا يزيد صاحبه إلا عزاً ورفعةً وسموَّ قدرٍ في الدنيا والآخرة. فهذا عمر بن عبد العزيز – رضي الله – يقول: ” أحب الأمور إلى الله ثلاثة: “العفو في القدرة، والقصد في الجدة، والرفق في العبادة، وما رفق أحد بأحد في الدنيا إلا رفق الله به يوم القيامة”.
أيها المؤمنون
يامن تبحثون عن السعادة، يامن تبحثون عن راحة البال وطمأنينة النفس، يامن تشكون من القلق والهم والاضطرابات اسمع إلى هذا الشاعر وهو يقول:
لما عفوت، ولم أحقد على أحدٍ أرحت قلبي من غم العداوات
إني أحي عدوي عند رؤيته لأدفع الشر عني بالتحيات
وأظهر البشر للإنسان أبغضه كأنما قد حشى قلبي محبات.
فهل تريد الراحة والسعادة ؟؟ فعليك بتطبيق هذه الوصية العظيمة من الله سبحانه. ﴿ وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ ﴾ [فصلت: 34]. فلقد أمر الله المؤمنين بالصبر عند الغضب، والحِلم عند الجهل، والعفْو عند الإساءة، فلا يَستوي الإحسان إلى الخَلق ولا الإساءة إليهم، لا في ذاتها، ولا في وصفها، ولا في جزائها، فإذا أساء إليك مسيء من الخَلق، خصوصًا مَن له حقٌّ كبير عليك؛ كالأقارب والأصحاب ونحوهم، إساءة بالقول أو بالفعل، فقابِلْه بالإحسان إليه، فإنْ قطَعك فصِلْهُ، وإن ظلمك فاعفُ عنه، وإن هجَرَك فطيِّب له الكلام، وابذُلْ له السلام، وكذلك لا يستوي الإيمان بالله وطاعته والشرك بالله ومعصيته، ولا تستوي دعوة الرسول صلى الله عليه وسلم إلى دين الحق ودعوة الكفار إلى الضلال البعيد، ولا تستوي الحسنة التي يرضى الله بها ويُثيب عليها ولا السيئة التي يكرهها الله ويعاقِب عليها، فالحسنة لا يستوي أثرها، كما لا تستوي قيمتها مع السيئة.مَن أساء إليك، فادفعه عنك بالإحسان، فادفع بالحلم جهل الجاهل، وبالعفو إساءة المسيء، وإذا اعترضتك سيئة، فادفعها بالحسنة، كذلك كما لو أساء إليك رجلٌ إساءةً، فالحسنة أن تعفو عنه؛ مثل أن يذمك فتَمدَحه، فإذا فعل المسلم ذلك عصَمَه الله من الشيطان، وخضع له عدوُّه كأنه وليٌّ قريب إليه مِن الشفقة عليه والإحسان إليه، ويصير المسيء الذي بينك وبينه عداوة كأنه من ملاطفته وبره صديقٌ قريب، وكذلك إذا قابل المسلم إساءةَ عدوِّه بالإحسان، انقلب من العداوة إلى المحبة، ومن البغضة إلى المودَّة، ثم بعد ذلك يَصير العدو كالصديق، والبعيد عنه كالقريب. فتلك السماحة تحتاج إلى قلب كبير يَعطف ويسامح وهو قادر على الإساءة والردِّ إذًا، وهذه القدرة ضرورية لتُؤتي السماحةُ أثَرَها، وما يوفَّق لهذه الأخلاق وهذه الخصال الحميدة إلا الذين صبروا نفوسهم على ما تكرَه، وأجبروها على ما يُحبُّ الله؛ فإنَّ النفوس مجبولة على مُقابلة المسيء بإساءته وعدم العفو عنه، فكيف بالإحسان؟! فإذا صبر الإنسان نفسه، وامتثَلَ أمْرَ ربه، وعرَف جزيل الثواب، وعلِم أن مقابلته للمسيء بجنس عمله لا يُفيد شيئًا، ولا يَزيد العداوة إلا شدةً، وأن إحسانه إليه ليس بواضعٍ قدرَه، بل مَن تواضَعَ لله رفَعَه؛ هان عليه الأمر مُتلذذًا مستحليًا له؛ لكونه من خصال خواص الخلق التي يَنال بها العبد الرِّفعة في الدنيا والآخرة، التي هي مِن أكبر خصال مكارم الأخلاق، وعن عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَمْرٍو يَقُولُ جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ كَمْ نَعْفُو عَنِ الْخَادِمِ فَصَمَتَ ثُمَّ أَعَادَ عَلَيْهِ الْكَلاَمَ فَصَمَتَ فَلَمَّا كَانَ فِي الثَّالِثَةِ قَالَ « اعْفُوا عَنْهُ فِي كُلِّ يَوْمٍ سَبْعِينَ مَرَّةً ». رواه ابو داوود وعن عمر بن عبد العزيز قال: (أحبُّ الأمور إلى الله ثلاثة: العفو في القدرة، والقصد في الجدة، والرفق في العبادة، وما رفق أحد بأحد في الدنيا إلا رفق الله به يوم القيامة.
أقول قولي وأستغفر الله لي ولكم
الخطبة الثانية ( أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ )
الحمد لله رب العالمين . اللهم لك الحمد على نعمة الإسلام والايمان .ولك الحمد أن جعلتنا من أمة محمد عليه الصلاة والسلام. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له . وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
أما بعد أيها المسلمون
واعلموا أن الآيات الكريمة، والأحاديث الشريفة الصحيحة، التي تحضُّ على العفو – هذه ملاحظة مهمة جداً – لا تعني، ولا تريد أن يكون العفو مرتعاً للمجرمين يسرحون ويمرحون في رحابه، ولا تعني ولا تريد أن يكون العفو حصناً لهم يحميهم من حكم العدالة فيهم، ولا تعني ولا تريد أن يكون العفو منطلقاً جديداً للعدوان على دماء المسلمين وأموالهم وأعراضهم قال تعالى: ﴿وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ﴾[سورة البقرة:179].
وفي سنن البيهقي (عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ قَالَ : أَمَّنَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- مِنَ الأُسَارَى يَوْمَ بَدْرٍ أَبَا عَزَّةَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَمْرِو بْنِ عُمَيْرٍ الْجُمَحِيَّ وَكَانَ شَاعِرًا وَكَانَ قَالَ لِلنَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- يَا مُحَمَّدُ إِنَّ لِي خَمْسَ بَنَاتٍ لَيْسَ لَهُنَّ شَيْءٌ فَتَصَدَّقْ بِي عَلَيْهِنَّ فَفَعَلَ وَقَالَ أَبُو عَزَّةَ : أُعْطِيكَ مَوْثِقًا أَنْ لاَ أُقَاتِلَكَ وَلاَ أُكَثِّرَ عَلَيْكَ أَبَدًا فَأَرْسَلَهُ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فَلَمَّا خَرَجَتْ قُرَيْشٌ إِلَى أُحُدٍ جَاءَهُ صَفْوَانُ بْنُ أُمَيَّةَ فَقَالَ : اخْرُجْ مَعَنَا. فَقَالَ : إِنِّي قَدْ أَعْطَيْتُ مُحَمَّدًا مَوْثِقًا أَنْ لاَ أُقَاتِلَهُ. فَضَمِنَ صَفْوَانُ أَنْ يَجْعَلَ بَنَاتِهِ مَعَ بَنَاتِهِ إِنْ قُتِلَ وَإِنْ عَاشَ أَعْطَاهُ مَالاً كَثِيرًا فَلَمْ يَزَلْ بِهِ حَتَّى خَرَجَ مَعَ قُرَيْشٍ يَوْمَ أُحُدٍ فَأُسِرَ وَلَمْ يُؤْسَرْ غَيْرُهُ مِنْ قُرَيْشٍ فَقَالَ : يَا مُحَمَّدُ إِنَّمَا أُخْرِجْتُ كَرْهًا وَلِى بَنَاتٌ فَامْنُنْ عَلَىَّ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- :« أَيْنَ مَا أَعْطَيْتَنِي مِنَ الْعَهْدِ وَالْمِيثَاقِ لاَ وَاللَّهِ لاَ تَمْسَحُ عَارِضَيْكَ بِمَكَّةَ تَقُولُ سَخِرْتُ بِمُحَمَّدٍ مَرَّتَيْنَ ». قَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ فَقَالَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- :« إِنَّ الْمُؤْمِنَ لاَ يُلْدَغُ مِنْ جُحْرٍ مَرَّتَيْنَ يَا عَاصِمُ بْنُ ثَابِتٍ قَدِّمْهُ فَاضْرِبْ عُنُقَهُ ». فَقَدَّمَهُ فَضَرَبَ عُنُقَهُ. ولهذا ليس من العفو أن نستسلم لعدو غاصب، سلب الأرض، وانتهك الحرمات، وأفسد العقائد، وأفرغ القيم، وزور التاريخ، فالمؤمنون الصادقون إذا أصابهم البغي هم ينتصرون.
أيها المسلمون
وفي العفو رحمة بالمسيء، وتقدير لجانب ضعفه البشري، وامتثال لأمر الله، وطلب لعفوه وغفرانه. وتوثيق للروابط الاجتماعية التي تتعرض إلى الوهن والانفصام بسبب إساءة بعضهم إلى بعض، وجناية بعضهم على بعض وسبب لنيل مرضات الله سبحانه وتعالى، وسبب للتقوى وبالعفو تُنال العزة، والعفو والصفح سبيل إلى الألفة والمودة بين أفراد المجتمع في العفو والصفح الطمأنينة، والسكينة، وشرف النفس. بالعفو تكتسب الرفعة والمحبة عند الله وعند الناس. وما أجمل قول القائل :
كن قابل العذر واغفر زلة الناس ولا تطع يا لبيباً أمر وسواس
فالله يكره جبارا يشاركه ويكره الله عبدا قلبه قاس
هلا تذكرت يوما انت مدركه يوما ستخرج فيه كل أنفاس
يوم الرحيل عن الدنيا وزينتها يوم الوداع شديد البطش والباس
ويوم وضعك في القبر المخيف وقد ردوا التراب بأيديهم وبالفاس
ويوم يبعثنا والارض هائجةَ والشمس محرقة تدنو من الراس
والناس في منتهى جوع و في ظمإ وفي شقاء وفي هم وافلاس
يفر كل امرئ من غيره فرقا هل انت ذاكر هذا اليوم ام ناس؟!
سيرسل الله أملاكاً منادية هيا تعالوا لرب مطعم.. كاس
هيا تعالوا الى فوز ومغفرة هيا تعالوا إلى بشر وإيناس
أين الذين على الرحمن اجرهم فلا يقوم سوى العافي عن الناس
والعفو والصّفح – عباد الله – هما خلُقُ النبيّ صلى الله عليه وسلم، فأين المشمِّرون المقتَدون؟! أين من يغالِبهم حبُّ الانتصار والانتقام؟! أين هم من خلُق سيِّد المرسَلين؟! . (أَبَا عَبْدِ اللَّهِ الْجَدَلِيَّ يَقُولُ سَأَلْتُ عَائِشَةَ عَنْ خُلُقِ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فَقَالَتْ لَمْ يَكُنْ فَاحِشًا وَلاَ مُتَفَحِّشًا وَلاَ صَخَّابًا فِي الأَسْوَاقِ وَلاَ يَجْزِى بِالسَّيِّئَةِ السَّيِّئَةَ وَلَكِنْ يَعْفُو وَيَصْفَحُ )رواه أحمد والترمذي وفي البخاري (وَلاَ يَدْفَعُ السَّيِّئَةَ بِالسَّيِّئَةِ وَلَكِنْ يَعْفُو وَيَصْفَحُ ) ،وقال تعالى : ﴿ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى لِلَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ * وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ ﴾ [الشورى: 36، 37].
الدعاء