خطبة عن (إِنَّمَا الأَعْمَالُ بِالْخَوَاتِيمِ) وأسبَابُ التوفيقِ إلى حُسنِ الخاتمة)
نوفمبر 27, 2016خطبة عن حديث (لاَ دِينَ لِمَنْ لاَ أَمَانَةَ لَهُ)
نوفمبر 28, 2016الخطبة الأولى : ( إِنَّمَا الأَعْمَالُ بِالْخَوَاتِيمِ )
الحمد لله رب العالمين . اللهم لك الحمد على نعمة الإسلام والايمان .ولك الحمد أن جعلتنا من أمة محمد عليه الصلاة والسلام. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له . وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
أما بعد أيها المسلمون
روى البخاري في صحيحه : ( عَنْ سَهْلٍ أَنَّ رَجُلاً مِنْ أَعْظَمِ الْمُسْلِمِينَ غَنَاءً عَنِ الْمُسْلِمِينَ فِي غَزْوَةٍ غَزَاهَا مَعَ النَّبِيِّ – صلى الله عليه وسلم – فَنَظَرَ النَّبِيُّ – صلى الله عليه وسلم – فَقَالَ « مَنْ أَحَبَّ أَنْ يَنْظُرَ إِلَى الرَّجُلِ مِنْ أَهْلِ النَّارِ فَلْيَنْظُرْ إِلَى هَذَا » . فَاتَّبَعَهُ رَجُلٌ مِنَ الْقَوْمِ ، وَهْوَ عَلَى تِلْكَ الْحَالِ مِنْ أَشَدِّ النَّاسِ عَلَى الْمُشْرِكِينَ ، حَتَّى جُرِحَ فَاسْتَعْجَلَ الْمَوْتَ ، فَجَعَلَ ذُبَابَةَ سَيْفِهِ بَيْنَ ثَدْيَيْهِ حَتَّى خَرَجَ مِنْ بَيْنِ كَتِفَيْهِ فَأَقْبَلَ الرَّجُلُ إِلَى النَّبِيِّ – صلى الله عليه وسلم – مُسْرِعًا فَقَالَ أَشْهَدُ أَنَّكَ رَسُولُ اللَّهِ . فَقَالَ « وَمَا ذَاكَ » . قَالَ قُلْتَ لِفُلاَنٍ « مَنْ أَحَبَّ أَنْ يَنْظُرَ إِلَى رَجُلٍ مِنْ أَهْلِ النَّارِ فَلْيَنْظُرْ إِلَيْهِ » . وَكَانَ مِنْ أَعْظَمِنَا غَنَاءً عَنِ الْمُسْلِمِينَ ، فَعَرَفْتُ أَنَّهُ لاَ يَمُوتُ عَلَى ذَلِكَ فَلَمَّا جُرِحَ اسْتَعْجَلَ الْمَوْتَ فَقَتَلَ نَفْسَهُ . فَقَالَ النَّبِيُّ – صلى الله عليه وسلم – عِنْدَ ذَلِكَ « إِنَّ الْعَبْدَ لَيَعْمَلُ عَمَلَ أَهْلِ النَّارِ ، وَإِنَّهُ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ ، وَيَعْمَلُ عَمَلَ أَهْلِ الْجَنَّةِ ، وَإِنَّهُ مِنْ أَهْلِ النَّارِ ، وَإِنَّمَا الأَعْمَالُ بِالْخَوَاتِيمِ » ، وفي رواية للإمام أحمد : ( قال صلى الله عليه وسلم « إِنَّ الرَّجُلَ لَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ وَإِنَّهُ لَمِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ وَإِنَّ الرَّجُلَ لَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ الْجَنَّةِ وَإِنَّهُ لَمِنْ أَهْلِ النَّارِ وَإِنَّمَا الأَعْمَالُ بِالْخَوَاتِيمِ » ، وفي سنن الترمذي : (قال صلى الله عليه وسلم (….فَوَ الَّذِى لاَ إِلَهَ غَيْرُهُ إِنَّ أَحَدَكُمْ لَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ الْجَنَّةِ حَتَّى مَا يَكُونُ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا إِلاَّ ذِرَاعٌ ثُمَّ يَسْبِقُ عَلَيْهِ الْكِتَابُ فَيُخْتَمُ لَهُ بِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ فَيَدْخُلُهَا وَإِنَّ أَحَدَكُمْ لَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ حَتَّى مَا يَكُونُ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا إِلاَّ ذِرَاعٌ ثُمَّ يَسْبِقُ عَلَيْهِ الْكِتَابُ فَيُخْتَمُ لَهُ بِعَمَلِ أَهْلِ الْجَنَّةِ فَيَدْخُلُهَا ».
إخوة الإسلام
إنها لحظة حاسمة في حياة الإنسان ، وكم يغفل عنها الغافلون ،إنها لحظة قد تقود المرء لسعادة سرمدية لا شقاء بعدها ، أو قد تقوده عياذاً بالله إلى شقاء ونار تلظى، أتدري ما هي تلك اللحظة؟: إنها لحظة ختام حياتك الدنيا، إنها اللحظة التي تفارق فيها مالك، وجاهك ،ومنصبك ، إلى فراق ليس بعده لقاء، نعم :((إِنَّ الْعَبْدَ لَيَعْمَلُ عَمَلَ أَهْلِ النَّارِ ،وَإِنَّهُ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ ،وَيَعْمَلُ عَمَلَ أَهْلِ الْجَنَّةِ ، وَإِنَّهُ مِنْ أَهْلِ النَّارِ ، وَإِنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالْخَوَاتِيمِ)) . فكَمْ مِنْ رَبِيعٍ نَوَّرَتْ أَشْجَارُهُ، وَتَفَتَّحَتْ أَزْهَارُهُ، وَزَهَتْ ثِمَارُهُ، فلَمْ يَلْبَثْ أَنْ أَصَابَتْهُ جَائِحَةٌ سَمَاوِيَّةٌ. فَصَارَ كَمَا قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ { حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا ،وَازَّيَّنَتْ ، وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا ،أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا ،فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} [يونس: 24]. فكما قيل : فلَيْسَ الْعَجَبُ مِمَّنْ هَلَكَ كَيْفَ هَلَكَ؟ إِنَّمَا الْعَجَبُ مِمَّنْ نَجَا كَيْفَ نَجَا؟ فربما سَلكَ الإنسانُ في أولِ أمرِهِ على الصراطِ المستقيم ،ثم يَنْحَرِفُ عَنه آخِرَ عُمُرِه ، فيسلكُ سُبُلَ الشيطانِ ،فينقطعُ عن الله فَيَهلكُ. فما أصْعَبَ الانتقالِ مِنَ البصرِ إلى العَمَى، ، وأصْعَبَ مِنْه الضلالةُ بعدَ الهُدَى، والمعصيةُ بعدَ التُّقَى. ، فكَمْ مِنْ وُجُوهٌ خَاشِعةٌ وَقَعَ على قَصَصِ أَعْمالِها ، كما قال تعالى : {عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ، تَصْلَى نَاراً حَامِيَةً} الغاشية 3 ،4، وكَمْ مِنْ شَارِفٍ مَركَبُهُ ساحِلَ النَّجاةِ، فلمَّا هَمَّ أنْ يَرْقَى لَعِبَ بِه مَوجُ الهَوى فَغَرِقَ. ، فالخَلْقُ كُلُّهم تَحتَ هذا الخَطرِ، وقُلوبُ العِبادِ بَينَ إصْبعينِ مِنْ أصَابِعِ الرحمنِ ، يُقلِبُها كيفَ يَشاءُ. فما أكثر من يرجع أثناء الطريق أو ينقطع، قال تعالى: {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ} [إبراهيم: 27]. وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رضى الله عنه-، أَنَّ رَسُولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-، قَالَ: ((إِنَّ الرَّجُلَ لَيَعْمَلُ الزَّمَنَ الطَّوِيلَ بِعَمَلِ أَهْلِ الْجَنَّةِ، ثُمَّ يُخْتَمُ لَهُ عَمَلُهُ بِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ، وَإِنَّ الرَّجُلَ لَيَعْمَلُ الزَّمَنَ الطَّوِيلَ بِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ، ثُمَّ يُخْتَمُ لَهُ عَمَلُهُ بِعَمَلِ أَهْلِ الْجَنَّةِ)) رواه مسلم
وفي حديث أَنَسِ بن مالك -رضى الله عنه-، أَنَّ رَسُولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: ” لَا عَلَيْكُمْ أَنْ لَا تَعْجَبُوا بِأَحَدٍ، حَتَّى تَنْظُرُوا بِمَ يُخْتَمُ لَهُ، فَإِنَّ الْعَامِلَ يَعْمَلُ زَمَانًا مِنْ عُمْرِهِ، أَوْ بُرْهَةً مِنْ دَهْرِهِ، بِعَمَلٍ صَالِحٍ، لَوْ مَاتَ عَلَيْهِ دَخَلَ الْجَنَّةَ، ثُمَّ يَتَحَوَّلُ فَيَعْمَلُ عَمَلًا سَيِّئًا، وَإِنَّ الْعَبْدَ لَيَعْمَلُ الْبُرْهَةَ مِنْ دَهْرِهِ بِعَمَلٍ سَيِّئٍ، لَوْ مَاتَ عَلَيْهِ دَخَلَ النَّارَ، ثُمَّ يَتَحَوَّلُ فَيَعْمَلُ عَمَلًا صَالِحًا، وَإِذَا أَرَادَ اللهُ بِعَبْدٍ خَيْرًا اسْتَعْمَلَهُ قَبْلَ مَوْتِهِ “، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ وَكَيْفَ يَسْتَعْمِلُهُ؟ قَالَ ” يُوَفِّقُهُ لِعَمَلٍ صَالِحٍ، ثُمَّ يَقْبِضُهُ عَلَيْهِ ” رواه أحمد ،وفي الصحيحين :(عَنْ عَلِىٍّ – رضى الله عنه – قَالَ كُنَّا فِي جَنَازَةٍ فِي بَقِيعِ الْغَرْقَدِ ، فَأَتَانَا النَّبِيُّ – صلى الله عليه وسلم – فَقَعَدَ وَقَعَدْنَا حَوْلَهُ ، وَمَعَهُ مِخْصَرَةٌ فَنَكَّسَ ، فَجَعَلَ يَنْكُتُ بِمِخْصَرَتِهِ ثُمَّ قَالَ
« مَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ ، مَا مِنْ نَفْسٍ مَنْفُوسَةٍ إِلاَّ كُتِبَ مَكَانُهَا مِنَ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ ، وَإِلاَّ قَدْ كُتِبَ شَقِيَّةً أَوْ سَعِيدَةً » . فَقَالَ رَجُلٌ يَا رَسُولَ اللَّهِ ، أَفَلاَ نَتَّكِلُ عَلَى كِتَابِنَا وَنَدَعُ الْعَمَلَ ، فَمَنْ كَانَ مِنَّا مِنْ أَهْلِ السَّعَادَةِ فَسَيَصِيرُ إِلَى عَمَلِ أَهْلِ السَّعَادَةِ ، وَأَمَّا مَنْ كَانَ مِنَّا مِنْ أَهْلِ الشَّقَاوَةِ فَسَيَصِيرُ إِلَى عَمَلِ أَهْلِ الشَّقَاوَةِ قَالَ « أَمَّا أَهْلُ السَّعَادَةِ فَيُيَسَّرُونَ لِعَمَلِ السَّعَادَةِ ، وَأَمَّا أَهْلُ الشَّقَاوَةِ فَيُيَسَّرُونَ لِعَمَلِ الشَّقَاوَةِ » ، ثُمَّ قَرَأَ ( فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى ) الآيَةَ
أيها المؤمنون
واعلموا أن الخواتيم أربعة:ـ عبد استعمله الله عز وجل على طاعته, وفي طاعته, فقام بأمر الله عز وجل خير قيام, وكانت مباغضه هي ما يسخط ربنا تبارك وتعالى, لقد نشأ على الطاعة, فلما كان عند أخر اللحظات , وفي أخر مراحل الفوت, والخروج من هذه الحياة, بشره الله عز وجل بالرضا, ونال أعلى الدرجات, فتراه فرحاً مسروراً, والناس حوله يبكون,, فهم في شأن وهو في شأن آخر. فهذا أفضل الأصناف . وصنف آخر, عاشوا على الطاعة, ولكن تقلبت بهم الأيام, وخانتهم الأعمال, وغرهم بالله الغرور, فتقلبوا بين طاعات وبين معاصي وذنوب, فجاءت سكرة الموت ،فعاين الحقيقة, إنه بعد السير وقف, وبعد العمل تعطل, وبعد الجهد سار خاملاً, فإذا هو عاين الحقيقة, أو قارب من النهاية لمس الله عز وجل منه خير, ووفقه إلى توبة وإنابة في هذه اللحظات. فقيل أن بعضهم لما كان على فراش الموت, قال: أنزلوني فأنزلوه ، ولامس بخده التراب, ثم ظل يبكي ويقول: يا رب ارحم الشيخ العاصي, ذا القلب القاسي, يا رب جد علىّ بحلمك ومغفرتك, ليس لي سواك, وظل يصرخ ويستغيث ويناجي, حتى جاءه الفرج من الله عز وجل, فسرى عنه. وبعضهم كان على الطاعة وتقلب, ولكن جاوز الحد, فلما كان على فراش الموت, ما وفق إلى شيء قط, ، فكانت الطاعات كالخيال والسراب, وما بقي إلا اللذات, التي أعقبتها الحسرات, خانه الزمان والوقت, فإذا هو عند سكرات الموت يقال له: يا فلان قل لا إله إلا الله, فيقول: هو كافر بلا إله إلا الله, لأنه تقلبت به الحياة, ونسى أن له ربا بعد أن كان على الطاعات,, في هذه اللحظة ترك لنفسه, فقيل له: قل لا إله إلا الله, قال: هو كافر بلا إله إلا الله. وآخر نظر إلى المصحف, الذي كان يلازمه, فلما كان في أخر عمره ألقى به وراء ظهره, فنظر إلى المصحف, فقام أحد أبنائه ظناً منه أن أباه يريد أن يقرأ آيات قبل الموت, فأسرع الولد إلى المصحف, وأعطاه إياه, فلما أمسك بالمصحف, قال: هو كافر بهذا الكتاب, ثم مات, والأعمال بالخواتيم. وشخص آخر ما استطاع أن يغلب شهوته, وظل يسعى ويلهث خلف الشهوات, ذكر ابن القيم, رجلا واقفاً على باب بيته, فرأى امرأة صبيحة, فقالت له أين الطريق إلى حمام منجاب (حمام يذهبن إليه النساء), وقد حرم ذلك النبي صلي الله عليه وسلم, فقالت: أين الطريق إلى حمام منجاب, فوقعت في نفسه, فقال هنا, ثم ساقها إلى بيته, ودخل وأغلق عليها الباب, وخلى بها ، ونسى أن هناك ربا يراه, ويعلم خائنة الأعين, وما تخفي الصدور,, فلما أراد أن يراودها, قالت: يا هذا لا يصلح الود إلا بطعام وشراب, فظن أنها سكنت له, فخرج مسرعاً ،وترك الباب مفتوحاً, فلما خرج خرجت خلفه واختفت, فعاد بالطعام والشراب, فرأى البيت خاويا فجن, جن جنونه ترك الطعام وترك الشراب, ثم هجم عليه الموت, وهو في سكرات الموت, لا يقول لا إله إلا الله
أيها المسلمون
وإَنَّ مِنْ شَأْنِ الْمُؤْمِنِينَ وَصِفَاتِهِمْ وُجُودَ الْإِيمَانِ فِيهِمْ، وَدَوَامَ الْإِشْفَاقِ عَلَى إِيمَانِهِمْ، وَشِدَّةَ الْحَذَرِ عَلَى أَدْيَانِهِمْ، فَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ مِنْ خَوْفِ السَّلْبِ، قَدْ أَحَاطَ بِهِمُ الْوَجَلُ، لَا يَدْرُونَ مَا اللَّهُ صَانِعٌ بِهِمْ فِي بَقِيَّةِ أَعْمَارِهِمْ، خَائِفِينَ مِنْ حُلُولِ مَكْرِ اللَّهِ بِهِمْ فِي سُوءِ الْخَاتِمَةِ، لَا يَدْرُونَ عَلَى مَا يُصْبِحُونَ وَيُمْسُونَ، قَدْ أَوْرَثَهُمْ مَا حَذَّرَهُمْ تَبَارَكَ وَتَعَالَى الْوَجَلَ فِي كُلِّ قَدَمٍ حِينَ يَقُولُ الله تعالى : {وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ} [لقمان: 34]. هُمْ بِالْحَالِ الَّتِي وَصَفَهُمْ بِهَا عَزَّ وَجَلَّ حَيْثُ يَقُولُ: {وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ} [المؤمنون: 60]. فَهُمْ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ، وَيَخَافُونَ سَلْبَهَا وَالرُّجُوعَ عَنْهَا، وَيُجَانِبُونَ الْفَوَاحِشَ وَالْمُنْكَرَاتِ، وَهُمْ وَجِلُونَ مِنْ مُوَاقِعَتِهَا. ولقد كَانَ يَشْتَدُّ خَوْفُ السَّلَفِ مِنْ سُوءِ الْخَوَاتِيمِ، فمِنْهُمْ مَنْ كَانَ يَقْلَقُ مِنْ ذِكْرِ السَّوَابِقِ. وَقَدْ قِيلَ: إِنَّ قُلُوبَ الْأَبْرَارِ مُعَلَّقَةٌ بِالْخَوَاتِيمِ، يَقُولُونَ: بِمَاذَا يُخْتَمُ لَنَا؟ وَقُلُوبُ الْمُقَرَّبِينَ مُعَلَّقَةٌ بِالسَّوَابِقِ، يَقُولُونَ: مَاذَا سَبَقَ لَنَا. وَبَكَى بَعْضُ الصَّحَابَةِ عِنْدَ مَوْتِهِ، فَسُئِلَ عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ: ” ((إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَبَضَ خَلْقَهُ قَبْضَتَيْنِ، فَقَالَ: هَؤُلَاءِ فِي الْجَنَّةِ، وَهَؤُلَاءِ فِي النَّارِ)) ” وَلَا أَدْرِي فِي أَيِّ الْقَبْضَتَيْنِ كُنْتُ؟. وَقَالَ سُفْيَانُ لِبَعْضِ الصَّالِحِينَ : هَلْ أَبْكَاكَ قَطُّ عِلْمُ اللَّهِ فِيكَ؟ فَقَالَ لَهُ ذَلِكَ الرَّجُلُ: تَرَكَنِي لَا أَفْرَحُ أَبَدًا. وَكَانَ سُفْيَانُ يَشْتَدُّ قَلَقُهُ مِنَ السَّوَابِقِ وَالْخَوَاتِيمِ، فَكَانَ يَبْكِي وَيَقُولُ: أَخَافُ أَنْ أَكُونَ فِي أُمِّ الْكِتَابِ شَقِيًّا، وَيَبْكِي، وَيَقُولُ: أَخَافُ أَنْ أُسْلَبَ الْإِيمَانَ عِنْدَ الْمَوْتِ.
وَكَانَ مَالِكُ بْنُ دِينَارٍ يَقُومُ طُولَ لَيْلِهِ قَابِضًا عَلَى لِحْيَتِهِ، وَيَقُولُ: يَا رَبِّ، قَدْ عَلِمْتَ سَاكِنَ الْجَنَّةِ مِنْ سَاكِنِ النَّارِ، فَفِي أَيِّ الدَّارَيْنِ مَنْزِلُ مَالِكِ بن دينار؟. وَقَالَ حَاتِمٌ الْأَصَمُّ: مَنْ خَلَا قَلْبُهُ مِنْ ذِكْرِ أَرْبَعَةِ أَخْطَارٍ، فَهُوَ مُغْتَرٌّ، فَلَا يَأْمَنُ الشَّقَاءَ: الْأَوَّلُ: خَطَرُ يَوْمِ الْمِيثَاقِ حِينَ قَالَ: هَؤُلَاءِ فِي الْجَنَّةِ وَلَا أُبَالِي، وَهَؤُلَاءِ فِي النَّارِ وَلَا أُبَالِي، فَلَا يُعْلَمُ فِي أَيِّ الْفَرِيقَيْنِ كَانَ، وَالثَّانِي: حِينَ خُلِقَ فِي ظُلُمَاتٍ ثَلَاثٍ، فَنُودِيَ الْمَلَكُ بِالسَّعَادَةِ وَالشَّقَاوَةِ، وَلَا يَدْرِي: أَمِنَ الْأَشْقِيَاءِ هُوَ أَمْ مِنَ السُّعَدَاءِ؟ وَالثَّالِثُ: ذِكْرُ هَوْلِ الْمَطْلَعِ، وَلَا يَدْرِي أَيُبَشَّرُ بِرِضَا اللَّهِ أَوْ بِسُخْطِهِ؟ وَالرَّابِعُ: يَوْمَ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتًا، وَلَا يَدْرِي، أَيُّ الطَّرِيقَيْنِ يُسْلَكُ بِهِ. وَمِنْ هُنَا كَانَ الصَّحَابَةُ وَمَنْ بَعْدَهُمْ مِنَ السَّلَفِ الصَّالِحِ يَخَافُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمُ النِّفَاقَ وَيَشْتَدُّ قَلَقُهُمْ وَجَزَعُهُمْ مِنْهُ، قَالَ ابْنُ أَبِي مُلَيْكَةَ: ” أَدْرَكْتُ ثَلاَثِينَ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم-، كُلُّهُمْ يَخَافُ النِّفَاقَ عَلَى نَفْسِهِ، مَا مِنْهُمْ أَحَدٌ يَقُولُ: إِنَّهُ عَلَى إِيمَانِ جِبْرِيلَ وَمِيكَائِيلَ. وَكَانَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ يَقُولُ لِحُذَيْفَةَ: أَنْشُدُكَ اللَّهَ هَلْ سَمَّانِي لَكَ رَسُولُ اللَّهِ – -صلى الله عليه وسلم- -، يَعْنِي فِي الْمُنَافِقِينَ، فَيَقُولُ: لَا، وَلَا أُزَكِّي بَعْدَكَ أَحَدًا. وَسُئِلَ أَبُو رَجَاءٍ الْعُطَارِدِيُّ: هَلْ أَدْرَكْتَ مَنْ أَدْرَكْتَ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ – -صلى الله عليه وسلم- – يَخْشَوْنَ النِّفَاقَ؟ فَقَالَ: نَعَمْ.
وَيُذْكَرُ عَنِ الحَسَنِ: ” مَا خَافَهُ إِلَّا مُؤْمِنٌ وَلاَ أَمِنَهُ إِلَّا مُنَافِقٌ. وسَمِعَ حُذَيْفَةُ -رضى الله عنه- رَجُلًا يَقُولُ: اللَّهُمَّ أَهْلِكِ الْمُنَافِقِينَ، فَقَالَ: يَا ابْنَ أَخِي، لَوْ هَلَكَ الْمُنَافِقُونَ لَاسْتَوْحَشْتُمْ فِي طُرُقَاتِكُمْ مِنْ قِلَّةِ السَّالِكِ. وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ التَّيْمِيُّ: مَا عَرَضْتُ قَوْلِي عَلَى عَمَلِي إِلَّا خَشِيتُ أَنْ أَكُونَ مُكَذِّبًا. تَاللَّهِ لَقَدْ قَطَّعَ خَوْفُ النِّفَاقِ قُلُوبَ السَّابِقِينَ الْأَوَّلِينَ، لِعِلْمِهِمْ بِدِقِّهِ وَجِلِّهِ وَتَفَاصِيلِهِ وَجُمَلِهِ، سَاءَتْ ظُنُونُهُمْ بِنُفُوسِهِمْ حَتَّى خَشَوْا أَنْ يَكُونُوا مِنْ جُمْلَةِ الْمُنَافِقِينَ. ولما نزل الْمَوْت بِسُلَيْمَان التَّيْمِيّ قيل لَهُ: أبشر فقد كنت مُجْتَهدا فِي طَاعَة الله تَعَالَى فَقَالَ: لَا تَقولُوا هَكَذَا فَإِنِّي لَا أَدْرِي مَا يَبْدُو لي من الله عز وَجل فَإِنَّهُ يَقُول سُبْحَانَهُ : {وبدا لَهُم من الله مَا لم يَكُونُوا يحتسبون} الزمر 47 ، قَالَ بَعضهم أولئك: عمِلُوا أعمالا كَانُوا يظنون أَنَّهَا حَسَنَات فوجدوها سيئات. وعن محمد بن المنكدر: أنه بينا هو ذات ليلة يصلي بكى، وكثر بكاؤه ففزع أهله فتمادى في البكاء، فأرسلوا إلى أبي حازم فجاء، فإذا هو يبكي، فقال: يا أخي ما الذي أبكاك قد روعت أهلك؟ فقال: مرت بي آية من كتاب الله عز وجل. قال: وما هي؟ قال: قول الله عز وجل: {وَبَدَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ} الزمر 47 ، فبكى أبو حازم معه واشتد بكاؤهما. فقال بعض أهله لأبي حازم: جئنا بك لتفرّج عنه فزدته. قال: فأخبرهم ما الذي أبكاهما. وقال الفضيل بن عياض: في قول الله عَزَّ وَجَلَّ: {وَبَدَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ} الزمر 47 قال: أتوا بأعمال ظنوها حسنات، فإذا هي سيئات.
أقول قولي وأستغفر الله لي ولكم
الخطبة الثانية ( إِنَّمَا الأَعْمَالُ بِالْخَوَاتِيمِ )
الحمد لله رب العالمين . اللهم لك الحمد على نعمة الإسلام والايمان .ولك الحمد أن جعلتنا من أمة محمد عليه الصلاة والسلام. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له . وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
أما بعد أيها المسلمون
إياك ثم إياك أن تثق في عملك وتأمن مكر الله: فقد كَانَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- يُكْثِرُ أَنْ يَقُولَ فِي دُعَائِهِ: ((يَا مُقَلِّبَ القُلُوبِ ثَبِّتْ قَلْبِي عَلَى دِينِكَ)) ،فعَنْ أَنَسِ بن مالك -رضى الله عنه- قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يُكْثِرُ أَنْ يَقُولَ: ((يَا مُقَلِّبَ القُلُوبِ ثَبِّتْ قَلْبِي عَلَى دِينِكَ))، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، آمَنَّا بِكَ وَبِمَا جِئْتَ بِهِ فَهَلْ تَخَافُ عَلَيْنَا؟ قَالَ: ((نَعَمْ، إِنَّ القُلُوبَ بَيْنَ أُصْبُعَيْنِ مِنْ أَصَابِعِ اللَّهِ يُقَلِّبُهَا كَيْفَ يَشَاءُ)) رواه الترمذي ،فكيف يأمنُ المرء من سوء الخاتمة وقد ورد في الحديث، أَنَّ أُمَّ العَلاَءِ الأَنْصَارِ ية -رضى الله عنها- دخلت على عُثْمَان بْن مَظْعُونٍ -رضى الله عنه- حين توفي، فقالت: رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْكَ أَبَا السَّائِبِ، فَشَهَادَتِي عَلَيْكَ: لَقَدْ أَكْرَمَكَ اللَّهُ، فَقَالَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم-: ((وَمَا يُدْرِيكِ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَكْرَمَهُ؟ )) فَقُلْتُ: بِأَبِي أَنْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَمَنْ يُكْرِمُهُ اللَّهُ؟ فَقَالَ: ((أَمَّا هُوَ فَقَدْ جَاءَهُ اليَقِينُ، وَاللَّهِ إِنِّي لَأَرْجُو لَهُ الخَيْرَ، وَاللَّهِ مَا أَدْرِي، وَأَنَا رَسُولُ اللَّهِ، مَا يُفْعَلُ بِي)) قَالَتْ: فَوَ اللَّهِ لاَ أُزَكِّي أَحَدًا بَعْدَهُ أَبَدًا ) رواه البخاري . فالذي يقول ذلك رسول الله-صلى الله عليه وسلم-، فماذا نقول نحن؟! وقَالَ سعيد بْن جُبَير: إِن العَبْد ليعْمَل الْحَسَنَة فَيدْخل بهَا النَّار وَإِن العَبْد ليعْمَل السَّيئَة فَيدْخل بهَا الْجنَّة وَذَلِكَ أَنه يعْمل الْحَسَنَة فَتكون نصب عينة ويعجب بهَا وَيعْمل السَّيئَة فَتكون نصب عينة فيستغفر الله وَيَتُوب إِلَيْهِ مِنْهَا. وقَالَ رَجُلٌ لِعَبْدِ اللَّهِ ابْن الْمُبَارَكِ: رَأَيْتُ رَجُلا يُقَبِّلُ شَابًّا فَظَنَنْتُ فِي نَفْسِي أَنِّي خَيْرٌ مِنْهُ. فَقَالَ: أَمْنُكَ عَلَى نَفْسِكَ أَشَدُّ مِنْ ذَنْبِهِ. قَالَ الطَّبَرِيُّ: لِأَنَّهُ لَا يدْرِي مَا يؤول إِلَيْهِ الْأَمْرُ لَعَلَّ صاحبه يَتُوبُ فَتُقْبَلُ تَوْبَتُهُ وَلَعَلَّ الَّذِي أَنْكَرَ عَلَيْهِ يُخْتَمُ لَهُ بِخَاتِمَةِ السوء. وعَنْ أَبِي أَيُّوبَ الْأَنْصَارِيِّ -رضى الله عنه- قَالَ: إِنَّ الرَّجُلَ لَيَعْمَلُ الْحَسَنَةَ فَيَثِقُ بِهَا وَيَنْسَى الْمُحَقَّرَاتِ فَيَلْقَى اللَّهَ وَقَدْ أَحَاطَتْ بِهِ وَإِنَّ الرَّجُلَ لَيَعْمَلُ السَّيِّئَةَ فَلَا يَزَالُ مِنْهَا مُشْفِقًا حَتَّى يلقى الله آمنا. وقال ابن القيم: وأما إن كان {أي العبد}مستقيماً مع الله، فخوفه يكون مع جريان الأنفاس، لعلمه بأن الله مقلب القلوب، وما من قلب إلا وهو بين إصبعين من أصابع الرحمن عَزَّ وجَلَّ، فإن شاءَ أن يقيمه أقامه، وإِن شاءَ أن يزيغه أزاغه. وقال ابن حجر: فَالْعَبْدُ إِنْ كَانَ مُسْتَقِيمًا فَخَوْفُهُ مِنْ سُوءِ الْعَاقِبَةِ لقَوْله تَعَالَى
{ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} الأنفال (24). وكَانَ إِبْرَاهِيمُ التَّيْمِيُّ – رحمه الله-، يَقُصُّ، وَيَقُولُ فِي قَصَصِهِ: ” مَنْ يَأْمَنُ مِنَ الْبَلَاءِ بَعْدَ خَلِيلِ اللَّهِ إِبْرَاهِيمَ عليه السلام، حِينَ يَقُولُ: {وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ} [إبراهيم: 35] وقال حَاتِمٌ الْأَصَمُّ: لَا تَغْتَرَّ بِمَكَانٍ صَالِحٍ، فَلَا مَكَانَ أَصْلَحُ مِنَ الْجَنَّةِ، وَلَقِيَ فِيهَا آدَمُ مَا لَقِيَ،
وَلَا تَغْتَرَّ بِكَثْرَةِ الْعِبَادَةِ، فَإِنَّ إِبْلِيسَ بَعْدَ طُولِ الْعِبَادَةِ لَقِيَ مَا لَقِيَ، وَلَا تَغْتَرَّ بِكَثْرَةِ الْعِلْمِ، فَإِنَّ بَلْعَامَ بْنَ بَاعُورَا لَقِيَ مَا لَقِيَ وَكَانَ يَعْرِفُ الِاسْمَ الْأَعْظَمَ، وَلَا تَغْتَرَّ بِلِقَاءِ الصَّالِحِينَ وَرُؤْيَتِهِمْ، فَلَا شَخْصَ أَصْلَحُ مِنَ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم-، وَلَمْ يَنْتَفِعْ بِلِقَائِهِ أَعْدَاؤُهُ وَالْمُنَافِقُونَ. وقال الحسن البصري: إِنَّ الْمُؤْمِنَ أَسِيرٌ فِي الدُّنْيَا يَسْعَى فِي فِكَاكِ رَقَبَتِهِ لَا يَأْمَنُ شَيْئًا حَتَّى يَلْقَى اللَّهَ يَعْلَمُ أَنَّهُ مَأْخُوذٌ عَلَيْهِ فِي سَمْعِهِ، وَفِي بَصَرِهِ، وَفِي لِسَانِهِ، وَفِي جَوَارِحِهِ، مَأْخُوذٌ عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ ”
وَكَانَ أَبُو الدَّرْدَاءِ-رضى الله عنه- صَاحِبُ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يَحْلِفُ بِاَللَّهِ إنَّ مَنْ أَمِنَ السَّلْبَ عِنْدَ مَوْتِهِ سُلِبَ عِنْدَ مَوْتِهِ: أَيْ جَزَاءً لِأَمْنِهِ مَكْرَ اللَّهِ. وَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَهْدِيٍّ: بكى سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ، فَلَمَّا اشْتَدَّ البكاءُ، قَالَ لَهُ رَجُلٌ: يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ أَتُرَاكَ كَثِيرَ الذُّنُوبِ؟ فَرَفَعَ رَأْسَهُ وَأَخَذَ عُوداً مِنْ تِبْنِ الْأَرْضِ فَقَالَ: وَاَللَّهِ لَذُنُوبِي أَهْوَنُ عِنْدِي مِنْ هَذَا، إنِّي أَخَافُ أَنْ أُسْلَبَ الْإِيمَانَ قَبْلَ أَنْ أَمُوتَ. وقال ابن كثير -رحمه الله- تعالى: وسوء الخاتمة أعاذنا الله منها لا يقع فيها من صلح ظاهره وباطنه مع الله، وصدق في أقواله وأعماله، فإن هذا لم يُسمع به، وإنما يقع سوء الخاتمة لمن فسد باطنه عقداً، وظاهره عملاً، ولمن له جرأة على الكبائر، وإقدام على الجرائم، فربما غلب ذلك عليه حتى ينزل به الموت قبل التوبة.
أيها المسلمون
قال عز وجل: {وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ}. [ق/19]. نعم ، كنت في غفلة, وكنت في لهو, وكنت في شغل, ومرت الأيام وما لك رصيد. {لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ} ق 22. أتدري أيها الحبيب, متى يكشف عنك الغطاء؟ وترى عمرك لحظة بلحظة, وترى أيامك قد ولت, وترى ساعاتك قد انقضت. عند الفراق، قال تعالى : {كَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيد}.[ق/22]. هنالك ترى الأمور على حقيقتها, فبعد أن كنت تراها زائفة, وبعد أن كانت تمنيك الأماني, وتشغلك المشاغل, وتقعدك الدنيا, فإذا بالحقيقة ظهرت واضحة. {كَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيد}.[ق/22]. فترى ، كم رصيدك الذي تدخره لهذه اللحظات, لهذه الساعة ؟.
انظروا سعيد بن المسيب, لما كان على فراش الموت بكي من حوله, ولكن كان عنده رصيد, قد أعد لهذه الساعة وانشغل بها, بكى وضج من في البيت, فقال رحمه الله: ابكوا أو لا تبكوا, فما تخلفت عن تكبيرة الإحرام أربعين سنة, أربعون سنة متربص, مترصد على ثغر الطاعة, لا يتخلف, ما تخلف مرة, لأنه كان يعد العدة, لهذه اللحظة, ولهذه الساعة. وللموضوع بقية في لقاء قادم إن شاء الله
الدعاء