خطبة عن ( احذروا النفاق والمنافقين)
نوفمبر 15, 2016خطبة حول حديث ( اسْقِ حَدِيقَةَ فُلاَنٍ )
نوفمبر 16, 2016الخطبة الأولى (إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَواْ إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِّنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُواْ )
الحمد لله رب العالمين . اللهم لك الحمد على نعمة الإسلام والايمان .ولك الحمد أن جعلتنا من أمة محمد عليه الصلاة والسلام. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له . وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
أما بعد أيها المسلمون
يقول الله تعالى في محكم آياته وهو أصدق القائلين : {إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ (201) وَإِخْوَانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الْغَيِّ ثُمَّ لَا يُقْصِرُونَ } 201 ، 202 الأعراف
إخوة الإسلام
حول هذه الآية الكريمة سوف يكون لقاؤنا اليوم إن شاء الله ، وبداية تعالوا بنا نتعرف على ما جاء في تفسيرها :
قال سعيد بن جُبَيْر: هو الرجل يغضب الغَضْبَة، فيذكر اللّه، فيَكْظِم الغَيْظ. وقال لَيْثُ عن مجاهد: هو الرجل يَهِمُّ بالذنب، فيذكر اللّه، فيدعه. وقال آخر : المتقون تذكروا عقاب الله وجزيل ثوابه ووعده ووعيده فتابوا وأنابوا واستعاذوا بالله ورجعوا إليه من قريب “فإذا هم مبصرون”، وسواء أكان الطائف الذي مسهم هو الهم بالذنب أو هو الذنب نفسه فإنهم سرعان ما يرجعون إلى خالقهم، ويستيقظون مما كانوا فيه من غفلة، ويفيقوا من تلك الركضة وقال ( سيد طنطاوي في تفسيره الوسيط ) : إن الذين اتقوا الله تعالى ، وصانوا أنفسهم عن كل ما يغضبه ، إذا مسهم شيء من وسوسة الشيطان ونزغاته التي تلهيهم عن طاعه الله ومراقبته ، تذكروا أي : تذكروا أن المس إنما هو من عدوهم الشيطان ، فعادوا سريعا إلى طاعه الله ، وإلى خوف مقامه ، ونهوا أنفسهم عن اتباع همزات الشياطين ،واعلموا إخوة الإيمان أن الشهوة والغضب مبدأ السيئات، فإذا أبصر العبد رجع، ثم قال: {وَإِخْوَانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الْغَيِّ ثُمَّ لاَ يُقْصِرُونَ } [الأعراف:202] : أي: وإخوان الشياطين تمدهم الشياطين في الغي، ثم لا يقصرون. قال ابن عباس: لا الإنس تقصر عن السيئات. ولا الشياطين تمسك عنهم، فإذا لم يبصر بقي قلبه في غي، والشيطان يمده في غيه. وإن كان التصديق في قلبه لم يكذب.فذلك النور والإبصار. وتلك الخشية والخوف، يخرج من قلبه. وهذا : كما أن الإنسان يغمض عينيه فلا يرى شيئاً، وإن لم يكن أعمى، فكذلك القلب بما يغشاه من رَيْن الذنوب لا يبصر الحق. وإن لم يكن أعمى كعمى الكافر.
أيها المسلمون
والمتدبر لهذه الآية يجد أن فيها من الرسائل والإشارات ، والدروس والعبر الكثير والكثير ، ومنها : أولاً: هذه الآية تتحدث عن حالة معينة تحصل لأهل التقوى {إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَواْ}: إذن فهي ليست حديثاً عن أهل المخدرات والإجرام، وليست حديثاً عن الصف المنافق بين صفوف المؤمنين، وليست حديثاً عن اليهود ولا النصارى ولا العلمانيين،
إنما هي حديث عن المتقين؛ إنها حديث عن أولئك الذين يعملون بطاعة الله على نور من الله، يرجون ثواب الله، ويتركون معصية الله ،على نور من الله يخافون عقاب الله. إذا المرء لم يلبس ثيابا من التقى *** تقلب عريانا وإن كان كاسيا ، وخير لباس المرء طاعة ربه *** ولا خير فيمن كان لله عاصياً
إن هؤلاء المتقين، الذين يخافون من الجليل، ويعملون بالتنزيل، ويقنعون بالقليل، ويستعدون ليوم الرحيل، هؤلاء يقرر المولى – جل وتعالى- أنهم قد يمسهم طائف من الشيطان. وإن أهل التقوى قد يخدعون ، وقد يقعون في شراك الشيطان في بعض القضايا وبعض الجوانب، فإذا كان الأمر كذلك ، فها هنا أمران: الأول: فلا تغتر أيها لأخ الكريم بالتزامك، ولا تغتر يا عبد الله بمحافظتك على الصلوات كلها مع جماعة المسلمين، ولا تغتر أنك تعتمر في كل رمضان، ولا تغتر أيها الشاب بأنك من شباب الصحوة، أو بأن لك مساهمات ومشاركات في هذا المجال أو ذلك المجال، أو بأنك داعية إلى الله -عز وجل-، أو بغيرها من صالح الأعمال التي يقدمها المسلم، لاشك بأن هؤلاء إلى خير وهم أفضل من غيرهم، وقد يكونون في كثير من الأحيان هم صفوة المجتمع، لكن كل هذا لا يمنع أنهم قد يمسهم طائف من الشيطان؛
فالإنسان إذا كان على خير وهدى فإنه قد تأتيه فترات ضعف فيغلبه شيطانه ويوقعه في بعض ما لا يرضي الله، وهذا الذي قد وقع فيه قد لا يكون فعل محرم، بل قد يكون ترك واجب أو نحو ذلك، فتأمل يا عبد الله. الأمر الثاني: إنه إذا كان هذا المتقي الورع الداعية قد يمسه طائف من الشيطان فما بالنا بمن دونه؟ كيف يكون حال من لا يحضر الجماعات إلا الجمع؟ وما بالنا بمن لا يعرف صحبة الأخيار؟ وما بالنا بمن يقدم رجلاً ويؤخر أخرى في كثير من أعمال الخير؟ إن كل هؤلاء لا شك أنهم أقرب إلى الشيطان من غيرهم، فاحذر يا عبد الله فإنك على خطر عظيم.
ثانياً: {إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَواْ إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِّنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُواْ}: فإن شأن المتقين أنهم إذا مسهم طائف من الشيطان تذكروا، وهذا هو الفرق بينهم وبين غيرهم من عوام الناس ودهمائهم، الفرق هو أن المتقين إذا زلوا أو اخطئوا أو وقعوا تذكروا ورجعوا، إنهم لا يستمرون في المعصية والخطأ، بل بمجرد التذكر يكون الرجوع والإنابة والاستغفار،
أما غيرهم فالله المستعان يعبون من الحرام عبا، وكأنهم يشربون كأس الماء البارد في حر الصيف. فليس المتقي ذلك الذي لا يزل أبدا، ولا يخطأ ولا يقصر، ولكن المتقي من إذا زل رجع، وإذا أخطأ تذكر، وإذا أذنب أستغفر ،أما غيرهم فإنهم يأكلون ويشربون ويعصون ويسرقون ويظلمون وربما يخططون ويدبرون ويوقعون، ولا يرجعون ولا يعترفون ولا يرعوون، {وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ} [(227) الشعراء]. ثالثاً: {إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَواْ إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِّنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُواْ} فإن مس الشيطان يعمي القلب ، ويغلق البصيرة. وتأمل أخي المسلم في حال الكثيرين ممن لهم علاقة قوية مع الشيطان، تجد أن الشيطان قد أعماهم وطمس على بصائرهم، وأغلق قلوبهم، رابعاً: ما الذي يزيل العمى والطمس وإغلاق البصيرة؟ إنه لا مزيل له إلا التقوى، فعليك أخي المسلم أن تلتمس المواطن والأعمال والأشياء التي تزيدك تقوى، وترفع من نسبة التقوى لديك، من قراءة للقرآن وتعبد وتدرب على المراقبة، وصحبة للصالحين وغيرها من الأمور التي لا تخفى على مثلك، وكلما ازددت تقوى لم يجد الشيطان عليك مدخلاً، سُئل أحد الحكماء عن قول الله عن إبليس: {ثُمَّ لآتِيَنَّهُم مِّن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَن شَمَآئِلِهِمْ} [(17) سورة الأعراف] ،فقيل له: ما الحكمة في أن لم يعط إبليس اثنان من ابن آدم و أعطي أربع؟ أعطى من بين يديه ومن خلفه وعن يمينه وعن شماله، من الجهات الأربع ولم يعط إبليس أن يأتيه من فوق ولا من تحت؟ فقال: لأن الأربع جهات تدخلها المشاركة في الأعمال، وفوق هو موضع نظر الرب جل جلاله إلى قلوب عباده المؤمنين، وتحت هو موضع سجود الساجدين بين يدي رب العالمين. خامسا: {إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَواْ إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِّنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُواْ فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ}. نعم فإذا {فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ}. فإذا تذكروا أبصروا الحقيقة، وقبلها لم يكونوا مبصرين، وهذه هي مشكلة أغلب الناس، وكل واحد منا يعتقد بأن عقله أرجح من غيره، الكل مقتنع بتفكيره وأقول : إن الشعور الدائم بالتقصير هو الشعور الإيجابي المثمر، إن تغير ما بالنفس من مفاهيم وتصورات خاطئة عن طريق الآخرين أياً كانوا من شأنه أن يغير ما بنا من واقع: قال تعالى : {إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ} [(11) الرعد] فالحكمة ضالة المؤمن أنا وجدها فهو أحق بها، وفي المقابل ، فإن الشعور بالكمال شعور عاطفي خاطئ، لن ينفي عنا تقصيرنا، كما أنه لا ينفي عنا تحملنا لأية مسؤولية مترتبة عليه سواء كانت دينية أو دنيوية: قال تعالى {لَّيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَن يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ} 123) النساء] فالأمر إذن ليس بالأماني ولا بالعواطف ولا بالإحساس،، إنما هو الخضوع لسنة العمل والاجتهاد المنتج ضمن إطار المنهج الصحيح، وفق معتقد أهل السنة والجماعة. النقطة السادسة ضمن تأملات هذه الآية: {إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَواْ إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِّنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُواْ فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ}: إن مس الشيطان عمى، والتذكر والرجوع إلى الله إبصار، وإن مس الشيطان ظلمه، والاتجاه إلى الله نور، وإن مس الشيطان فتور ونكوص وقعود عن العمل، والتذكر عزم وجد واجتهاد وعمل. وإن مس الشيطان نهى عن المعروف وأمر بالمنكر، والتذكر أمر بمعروف ونهي عن منكر. وإن مس الشيطان إيذاء للمؤمنين، ومحاربة للأولياء المتقين، والتذكر نصرة للمؤمنين ودعوة وجهاد وبذل في سبيل رب العالمين. وإن مس الشيطان مقاومة لدينه، وملاحقة لأتباعه. والتذكر نشر لدينه ، وتحمل من أجله وانتظار لثوابه وغفرانه. إن مس الشيطان تخويف وتثبيط وتيئيس، والتذكر إقدام وشجاعة وثقة بالله. إن مس الشيطان بعد عن منهج الله، وتعطيل لكتاب الله، ومحاربة لسنة رسول الله، والتذكر دعوة إلى دين الله، ومطالبة بكتاب الله، واتباع لمنهج رسول الله. .. سابعاً: {إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَواْ إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِّنَ الشَّيْطَانِ} والطائف والطوف والطواف والطيف بالشيء هو الاستدارة والالتفاف حوله ، وفي هذا إشارة إلى أن الشيطان سواء أكان من شياطين الجن أو من شياطين الإنس يدور ويطوف حول هذا المتقي، وحول هذا المؤمن سواء أكان فرداً أو كان مجتمعاً، ليجد منسماً ينفذ من خلا له؛ لأن المؤمن فرداً كان أو مجتمعاً أبوابه ليست كلها مفتحة بل الأغلب عليها الأقفال؛ لأنه مؤمن ومتقي، لكن الشيطان يشم قلب المؤمن، ويتعرف على مواطن الضعف فيه ويطوف حوله، ويدرس جميع الجهات والجوانب، حتى يجد مدخلاً ولو صغيراً فيدخل، فإذا دخل صار أيضاً يطوف في قلب المؤمن، وأيضاً في قلب المجتمع الذي يمكن أن نسميه، دراسة لأحوال لمجتمع فينظر أو قل فينظرون ماذا يناسب من وسائل الشر والفساد والرذيلة فينشر في وقته المناسب. بدءوا بنشر الدخان وانتهى بالمخدرات، ولا ندري ماذا يكون بعده. بدءوا بالشاشة الصغيرة، واغلبه كما يقال برامج دينية أو علمية، وانتهينا بعده بالدشوش التي يعرض فيها الزنا علانية أمام الصغار والكبار والنساء، وقل مثل ذلك في النواحي الاجتماعية والعادات، والأخلاق، والتعاملات المالية وغيرها،
هكذا تبدأ باليسير حتى تصل إلى العظائم، إذن هي عملية -طائف من الشيطان- ودوران حول الفرد والمجتمع، ودراسة وتخطيط، ثم تنفيذ وعمل… ثامنا: طائف من الشيطان لا ينحصر في لون، فقد يكون فعل معصية، وقد يكون ترك واجب، وقد يكون عداوات بين المسلمين، وقد يكون بتزيين الشيطان لأصحاب الملل والنحل لتحقير المخالفين،
تاسعا: {إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَواْ إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِّنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُواْ} تذكروا ماذا؟ قيل: تذكروا أن هذا من عدوهم الشيطان،
وقيل: تذكروا ما أمر الله به وما نهى عنه، وقيل: تذكروا عقاب الله لمن عصاه، وثوابه لمن أطاعه، وقيل: تذكروا وعده ووعيده، والصحيح: أن الآية تعمها كلها وغيرها،.. عاشرا: {إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَواْ إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِّنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُواْ فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ}: فالآية واضحة الدلالة على تنازع دواعي الخير والشر في نفس الإنسان، وانك أخي المسلم دائماً في صراع مع نفسك ومع الشيطان سواء أكان جنيا أو إنسياً، وأن هذه المعركة لا تنتهي إلا بموت أحدكما، والشيطان قد كتب له الخلود إلى يوم يبعثون فما بقي إلا أنت. فتأهب أخي المسلم لهذه المعركة، وكن على استعداد وحذر، وابحث عن جنود صالحين يصفون تحت رايتك في هذه المعركة، ويعينونك على نفسك وعلى شيطانك، قال تعالى :(لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ وَإِنَّ اللَّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ ) (42) الانفال
أقول قولي وأستغفر الله لي ولكم
الخطبة الثانية (إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَواْ إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِّنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُواْ )
الحمد لله رب العالمين . اللهم لك الحمد على نعمة الإسلام والايمان .ولك الحمد أن جعلتنا من أمة محمد عليه الصلاة والسلام. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له . وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
أما بعد أيها المسلمون
وقوله تعالى : {إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَواْ إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِّنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُواْ فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ}: تخبرنا الآية الكريمة بأن وسوسة الشيطان إنما تأخذ الغافلين عن أنفسهم ، لا يحاسبونها على خواطرها، فالغافلون عن ربهم، لا يراقبونه في أهوائها وأعمالها. وأنه لا شيء أقوى على طرد الشيطان ودحره من ذكر الله تعالى، ومراقبته في السر والجهر، فذكر الله تعالى بأي نوع من أنواعه يقوي في النفس حب الحق ودواعي الخير، ويضعف فيها الميل إلى الباطل والشر، حتى لا يكون للشيطان مدخل إليها، فهو إنما يزين لها بالباطل والشر بقدر استعدادها لأي نوع منهما. فإن وجد بالغفلة مدخلاً إلى قلب المؤمن المتقي، لا يلبث أن يشعر به; لأنه غريب عن نفسه، ومتى شعر ذكر فأبصر، فخنس الشيطان، وابتعد عنه، وإن أصاب منه غرة قبل تذكره، تاب من قريب. وقال النبي صلى الله عليه وسلم في هذا: (إن للشيطان لِمَّة بابن آدم، وللمَلَك لِمَّة: فأما لِمَّة الشيطان فإيعاد بالشر وتكذيب بالحق، وأما لِمَّة المَلَك فإيعاد بالخير وتصديق بالحق، فمن وجد ذلك فليعلم أنه من الله، فليحمد الله على ذلك، ومن وجد الأخرى، فليتعوذ من الشيطان) ثم قرأ: {الشيطان يعدكم الفقر ويأمركم بالفحشاء} (البقرة:268) رواه الترمذي، والنسائي في “السنن الكبرى”. وذكر الحافظ ابن عساكر في تاريخه في ترجمة عمرو بن جامع: (أن شابا كان يتعبد في المسجد فهوته امرأة فدعته إلى نفسها فما زالت به حتى كاد يدخل معها المنزل فذكر هذه الآية “إن الذين اتقوا إذا مسهم طائف من الشيطان تذكروا فإذا هم مبصرون” فخر مغشيا عليه ثم أفاق فأعادها فمات فجاء عمر فعزى فيه أباه وكان قد دفن ليلا فذهب فصلى على قبره بمن معه ثم ناداه عمر فقال يا فتى “ولمن خاف مقام ربه جنتان” فأجابه الفتى من داخل القبر: يا عمر قد أعطانيهما ربي عز وجل في الجنة مرتين. وهذا هو جزاء المتقين ) .
أيها المسلمون
في قولِهِ تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَواْ إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِّنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُواْ فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ ﴾ والمُرادُ بِطائفِ الشيطان: هو وَسْوَسَتُه, أو تثبيطُهُ عن الخير, أو حَثُّه على الشرِّ وإيعازُه إليه. فيدْخُلُ في ذلك: أولاً: إفساد عقيدتِه أو عبادتِه. فإذا عرض له شيء من ذلك, فإنه لا ينساقُ وراءه ولا يسْتَحسِنُه, بل يتذكَّر أن ذلك من الشيطان الذي أقسم بِعِزَّةِ الله لَيُغوِيَنَّ بني آدم, فَبَادَرَ هذا الهُجومَ من الشيطان بالإستعاذة بالله من شره, والتوكل على الله, والتسلح بالعلم الذي يحتمي به من هذا الخطر. ومن ذلك: أنه إذا عَرَضَ له ذنْبٌ أو شَهوةٌ, تَذَكَّر رَقابةَ الله, وحُكْمَ اللهِ فيها, وعُقُوبتَها, وأنها لَذَةٌ أو شهوةٌ مُؤَقَّتَة, سُرْعانَ ما تنتهي, فتَبْقى الحَسْرةُ ويَثْبُتُ الذنْبُ في صحيفَتِه, فإذا هو مُبْصِر, فَيَمْتَنِعُ عن الذنب, كما في حديثِ السبعة الذين يُظِلُّهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله: ( وَرَجُلٌ دَعَتْهُ امرأةٌ ذاتُ منصِبٍ وجَمال فقال: إني أخاف الله ).
ومن ذلك: حينما يُثَقِّلُ الشيطانُ عليه العبادة, كما في صحيح البخاري (عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ – رضى الله عنه – أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ – صلى الله عليه وسلم – قَالَ « يَعْقِدُ الشَّيْطَانُ عَلَى قَافِيَةِ رَأْسِ أَحَدِكُمْ إِذَا هُوَ نَامَ ثَلاَثَ عُقَدٍ ، يَضْرِبُ كُلَّ عُقْدَةٍ عَلَيْكَ لَيْلٌ طَوِيلٌ فَارْقُدْ ، فَإِنِ اسْتَيْقَظَ فَذَكَرَ اللَّهَ انْحَلَّتْ عُقْدَةٌ ، فَإِنْ تَوَضَّأَ انْحَلَّتْ عُقْدَةٌ ، فَإِنْ صَلَّى انْحَلَّتْ عُقْدَةٌ فَأَصْبَحَ نَشِيطًا طَيِّبَ النَّفْسِ ، وَإِلاَّ أَصْبَحَ خَبِيثَ النَّفْسِ كَسْلاَنَ » وكثير من الناسِ اليوم قد وقَعوا في مَصْيَدَةِ هذه العُقَد, إلا من رحم الله.
ومن ذلك: أنه إذا ترك شيئاً من الواجبات, أو ارتكب شيئا من المحرمات, فإن الشيطان يستغل مثل هذا الموقف, فَيُسارِعُ في تقنيطِ العبد, وإِشعارِهِ بأنه قد لَطَّخَ صحيفتَه بالذَّنْب, وتَخَلَّفَ عن رَكْبِ المؤمنين, وتَشَبَّهَ بالمنافقين الذين يفعلون الخير أمامَ الناس, ويستخفون عنهم عند فعل المحرمات والتخلف عن الطاعات, فربما ضَعُفَ هذا العبدُ المُذنِب واستجابَ لِمِثْلِ هذه الوَساوِس. لكنه حينما يعلم بِسَعَةِ رحمةِ الله, وفَرَحِ الله بتوبة عبده وسُرْعَةِ رُجوعِهِ إليه, فإنه يُبادر إلى التوبة وإصلاحِ ما أفسد, مهما بَلَغَ الذنبُ وكَثُر. ويكفي في ذلك قولُه صلى الله عليه وسلم: كما في صحيح مسلم « لَلَّهُ أَشَدُّ فَرَحًا بِتَوْبَةِ عَبْدِهِ الْمُؤْمِنِ مِنْ رَجُلٍ فِي أَرْضٍ دَوِيَّةٍ مَهْلَكَةٍ مَعَهُ رَاحِلَتُهُ عَلَيْهَا طَعَامُهُ وَشَرَابُهُ فَنَامَ فَاسْتَيْقَظَ وَقَدْ ذَهَبَتْ فَطَلَبَهَا حَتَّى أَدْرَكَهُ الْعَطَشُ ثُمَّ قَالَ أَرْجِعُ إِلَى مَكَانِي الَّذِى كُنْتُ فِيهِ فَأَنَامُ حَتَّى أَمُوتَ. فَوَضَعَ رَأْسَهُ عَلَى سَاعِدِهِ لِيَمُوتَ فَاسْتَيْقَظَ وَعِنْدَهُ رَاحِلَتُهُ وَعَلَيْهَا زَادُهُ وَطَعَامُهُ وَشَرَابُهُ فَاللَّهُ أَشَدُّ فَرَحًا بِتَوْبَةِ الْعَبْدِ الْمُؤْمِنِ مِنْ هَذَا بِرَاحِلَتِهِ وَزَادِهِ ».
عباد الله
ومن الأحوال التي يستغلها الشيطان مع العبد, حالةُ الغضب, لكنه يفشل عندما يكونُ هذا الأمرُ مع أهلِ التقوى, فإن العبدَ التقيَّ إذا غَضِبَ في موقِفٍ من المواقف, سواء أكان في بيتِهِ معَ أهلِه وأولادِه, أو مع خادِمه, أو جُلَسائِه, أو مع مسؤولِه في العمل, أو طُلاَّبِه في المدرسة أو موظَّفيه. فإنه لا يجعل للشيطان سبيلا عليه, بل يعلم أن الغضب بابٌ من أبواب الشيطان يدخل معه إليه ليُفسِدَ عليه قَراراتِه, فَيلجأُ مباشرة إلى الله فيستعيذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم, كي لا يَحْمِلُهُ الغضَبُ على أمرٍ يندم عليه. فإن أَكْثَرَ الناسِ نَدَما, مَنْ يَنْدَفِعُون مع الغضب ويستجيبون لانْفِعالاتِهِم. فالطلاق غالباً ما يكون مع الغضب, وَظُلْمُ الأولادِ الصِّغار بالضرب المُؤْلِم إنما هو نتيجةُ الغَضَب, واتِّخاذُ القراراتِ الخاطِئَةُ غالبا ما تكون نتيجةَ الغضب, والتلَفُّظُ مَعَ الجُلَساء والأصحابِ بما لا ينبغي, غالِباً ما يكون نتيجةَ الغَضَبِ والانفعال ،ونختم حديثنا بهذه الآية التي تعتبر علاجا لكثير من أمراضنا ومشكلاتنا :{إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَواْ إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِّنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُواْ فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ}.
الدعاء