خطبة عن ( القناعة كنز لا يفنى)
يوليو 24, 2016خطبة عن ( فضائل يوم الجمعة ومستحباته)
يوليو 24, 2016الخطبة الأولى ( الإمام مسلم بن الحجاج )
الحمد لله رب العالمين .. اللهم لك الحمد على نعمة الإسلام والإيمان. ولك الحمد أن جعلتنا من أمة محمد عليه الصلاة والسلام.. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له . وأشهد أن محمدا عبده ورسوله.. نشهد أنه بلغ الرسالة وأدى الأمانة ونصح الأمة اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
أيها المسلمون
يقول الله تعالى في محكم آياته وهو أصدق القائلين : (إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ ) (28) ) فاطر ،وروى أبو داود في سننه (عَنْ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ « إِنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ لِهَذِهِ الأُمَّةِ عَلَى رَأْسِ كُلِّ مِائَةِ سَنَةٍ مَنْ يُجَدِّدُ لَهَا دِينَهَا ». وفي سنن الترمذي (رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ « مَنْ سَلَكَ طَرِيقًا يَبْتَغِى فِيهِ عِلْمًا سَلَكَ اللَّهُ بِهِ طَرِيقًا إِلَى الْجَنَّةِ وَإِنَّ الْمَلاَئِكَةَ لَتَضَعُ أَجْنِحَتَهَا رِضًا لِطَالِبِ الْعِلْمِ وَإِنَّ الْعَالِمَ لَيَسْتَغْفِرُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ حَتَّى الْحِيتَانُ فِي الْمَاءِ وَفَضْلُ الْعَالِمِ عَلَى الْعَابِدِ كَفَضْلِ الْقَمَرِ عَلَى سَائِرِ الْكَوَاكِبِ إِنَّ الْعُلَمَاءَ وَرَثَةُ الأَنْبِيَاءِ إِنَّ الأَنْبِيَاءَ لَمْ يُوَرِّثُوا دِينَارًا وَلاَ دِرْهَمًا إِنَّمَا وَرَّثُوا الْعِلْمَ فَمَنْ أَخَذَ بِهِ أَخَذَ بِحَظٍّ وَافِرٍ ».
إخوة الإسلام
موعدنا اليوم -إن شاء الله- مع علم من أعلام السنة النبوية ،مع شيخ تام القامة ،أبيض الرأس واللحية ،يرخي طرف عمامته بين كتفيه ؛ زاده العلم والتقوى والورع مهابةً ووقاراً. أعرفتم من هو..؟،إنه الثقة الحافظ أمير المؤمنين في الحديث، أنه صاحب أصح كتاب في السنة النبوية بعد صحيح الإمام البخاري ،إنه أبو الحسين الإمام (مسلم بن الحجاج القشيري النيسابوري)، والقُشيري نسبة إلى قُشير قبيلة من العرب معروفة سميت باسم جدها قُشير بن كعب بن ربيعة بن عامر بن صعصعة ،قال عنه الإمام النووي رحمه الله “القشيري نسباً، النيسابوري وطناً ،عربي صليبة ،وهو أحد الأعلام في هذا الشأن-يعني في علم الحديث-” . وقد ولد هذا العلم في السنة الواحدة والستين بعد المائتين للهجرة النبوية على أرجح أقوال أهل العلم ، ونشأ الإمام مسلم في بيت علمٍ وجاهٍ؛ فقد كان أبوه من الصالحين وكان متصدراً لتربية الناس وتعليمهم، فانظروا أحبتي إلى أهمية صلاح الأب وكونه قدوة في صلاح الأبناء وحفظهم من بعده ويكفينا في ذلك قول الحق جل في علاه:{..وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا ..}(الكهف:80). نعم نشأ الإمام مسلم في بيت تقوى وصلاح وعلم، فقد كان والده حجاج بن مسلم القشيري أحد محبي العلم، وأحد من يعشقون حلقات العلماء، فتربى الإمام وترعرع في هذا الجوِّ الإيماني الرائع. وقد بدأ الإمام مسلم (رحمه الله) رحلته في طلب العلم مبكرًا، فلم يكن قد تجاوز الثانية عشرة من عمره حين بدأ في سماع الحديث؛ قال الذهبي: “وأول سماعه في سنة ثماني عشرة من يحيى بن يحيى التميمي، وحج في سنة عشرين وهو أمرد”. وتعاهده أبوه بحسن التربية ودفعه لحلق العلم؛ فكان ثمرة جهده ذلك العالم الجهبذ ؛ بدأ الإمام مسلم طلب العلم وسماع الحديث وهو في الثانية عشرة من عمره ،وقد تأثر بأبرز مشايخه الإمام البخاري رحمه الله؛ فَشُغِفَ بحب العلم وكان حريصاً على تمييز الأحاديث الصحيحة من غيرها، ومعرفة علل الحديث والاطلاع على أحوال الرواة ومعرفة عدالتهم وضبطهم وأمانتهم وصدقهم ومعيشتهم ومسكنهم ومولدهم ووفياتهم ولقائهم فيما بينهم ،ومقارنة الأسانيد بعضها ببعض ومعرفة اتصالها وانقطاعها وغير ذلك من فنون العلم، كل ذلك بدأ به في سن الثانية عشرة من عمره فأين شباب أمة الإسلام العظيمة اليوم..؟. وكان الإمام مسلم ذا همة عالية فلم يكتف بطلب العلم في مدينته بل رحل كعادة العلماء في تلك الأزمان في طلب العلم ؛فرحل لمصر والشام والحجاز وعدة مدن من العراق، وكان رحمه الله قد يرحل للبلد أكثر من مرة ليلتقي بها علماء الحديث، تلك الهمة العالية وذلك الجد في طلب العلم جعله أحد حفاظ الدنيا ، يقول عنه شيخه محمد بن بشار: “حفاظ الدنيا أربعة: أبو زُرعة الرازي في الري ،ومسلم بنيسابور، وعبدالله الدارمي بسمرقند ،ومحمد بن إسماعيل البخاري” ومع ذلك كله لم يكن الإمام مسلم عالة على أحد بل كان يشتغل بتجارة القماش التي درت عليه أرباحاً طائلة؛ حتى كانت له أملاك وضياع يعيش منها ، فما أجمل أن يجمع المرء بين العلم والثروة والزهد ؛هكذا هو إسلامنا علم غزير في عزة وشموخ؛ فالإمام مسلم فهم وطبق عملياً ما أخرجه في صحيحه عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ وَهُوَ عَلَى الْمِنْبَرِ وَهُوَ يَذْكُرُ الصَّدَقَةَ وَالتَّعَفُّفَ عَنْ الْمَسْأَلَةِ:(( الْيَدُ الْعُلْيَا خَيْرٌ مِنْ الْيَدِ السُّفْلَى..)) ،تخلق الإمام مسلم رحمه الله بكثير من الخُلق الحسن فكان كثير الإحسان للناس ،يتسم بالورع والعبادة والعلم الواسع والاحتياط لدينه؛ لذلك عَظُمَ في أعين الناس وعلت منزلته وسمت مكانته وكان إلى جانب ذلك شجاعاً صدوقاً وفياً يقف إلى جانب الحق وأهله لا ترهبه قوة ومكانة الشخص المقابل؛ ومن شواهد ذلك أنه سمع شيخاً له يُعَرِّضُ بالإمام البخاري فأخذ الإمام مسلم الرداء فوق عمامته ،وقام على رؤوس الناس ،وخرج من مجلسه وجمع كل ما كتب منه، وبعث بها على ظهر حمال إلى باب الشيخ . الله أكبر ها هو إمام من أمة الجرح والتعديل لا يرضى بالتعريض بشيخ فكيف حاله مع الغيبة.؟ .
أيها المسلمون
وللإمام مسلم رحمه الله شيوخ كثيرون، بلغ عددهم مائتين وعشرين رجلاً، وقد سمع بمكة من عبد الله بن مسلمة القعنبي، فهو أكبر شيخ له، وسمع بالكوفة والعراق والحرمين ومصر. ومن أبرز هؤلاء الأئمة: يحيى بن يحيى النيسابوري، وقتيبة بن سعيد، وسعيد بن منصور، وأحمد بن حنبل، وإسحاق بن راهويه، وأبو خيثمة زهير بن حرب، وأبو كريب محمد بن العلاء، وأبو موسى محمد بن المثنى، وهناد بن السري، ومحمد بن يحيى بن أبي عمر، ومحمد بن يحيى الذهلي، والبخاري، وعبد الله الدَّارِمِي، وإسحاق الكوسج، وخلق سواهم. ولقد كان الإمام مسلم من النبل بمكان، وكان لشيخه البخاري غاية في الشكر والعرفان، بحيث كان إذا وقع بين البخاري وبين شيوخ مسلم ما يقع بين الأقران؛ كان يختار جانب البخاري حيث كان يراه دائما على حق؛ مما يتسبب في أن يجد شيوخ مسلم عليه بعض الحنق؛ فيناله بعض الأذى منهم؛ فما يكون من هذا النبيل إلا أن يبعث إليهم بما كتب عنهم حتى وإن كتب عنهم الزمان الطويل؛ فلله دره من محدث نبيل، وكأنه يقول لهم: لن أحمل عنكم الكثير ولا القليل؛ ما دمتم تقعون في أستاذي الجليل !!
أيها المسلمون
أما عن حبه لشيخه الإمام البخاري رحمة الله عليه: قال أبو بكر الخطيب: «كان مسلم يناضل عن البخاري؛ حتى أوحش ما بينه وبين محمد بن يحيى الذهلي بسببه» ـ رفعة قدره ورئاسته في الحديث رحمة الله عليه قال أبو عبد الرحمن السلمي رحمة الله عليه: «رأيت شيخا حسن الوجه والثياب، عليه رداء حسن، وعمامة قد أرخاها بين كتفيه؛ فقيل هذا مسلم، فتقدم أصحاب السلطان فقالوا: قد أمر أمير المؤمنين: أن يكون مسلم بن الحجاج إمام المسلمين؛ فقدموه في الجامع؛ فكبر وصلى بالناس» ، وأما عن دقته في كتابة الصحيح رحمة الله عليه: قال الإمام مسلم رحمة الله عليه :«ما وضعت في هذا المسند شيئا إلا بحجة، ولا أسقطت شيئا منه إلا بحجة» ، وقال الإمام مسلم رحمة الله عليه: «عرضت كتابي هذا المسند على أبي زرعة، فكل ما أشار علي في هذا الكتاب أن له علة وسببا تركته، وكل ما قال إنه صحيح ليس له علة فهو الذي أخرجت» ،وقال الإمام مسلم رحمه الله: «صنفت هذا المسند الصحيح من ثلاثمائة ألف حديث مسموعة» ، وقال أحمد بن سلمة رحمه الله: «كنت مع مسلم في تأليف صحيحه خمس عشرة سنة، وهو اثنا عشر ألف حديث» ، ومن تلاميذ الإمام مسلم رحمه الله : علي بن الحسن بن أبي عيسى الهلالي، وهو أكبر منه، ومحمد بن عبد الوهاب الفرَّاء شيخه، ولكن ما أخرج عنه في (صحيحه)، والحسين بن محمد القباني ، وغيرهم
أقول قولي وأستغفر الله لي ولكم
الخطبة الثانية ( الإمام مسلم بن الحجاج )
الحمد لله رب العالمين .. اللهم لك الحمد على نعمة الإسلام والإيمان. ولك الحمد أن جعلتنا من أمة محمد عليه الصلاة والسلام.. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له . وأشهد أن محمدا عبده ورسوله.. نشهد أنه بلغ الرسالة وأدى الأمانة ونصح الأمة اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
أيها المسلمون
أما عن منهج الإمام مسلم في الحديث : فقد كتب الإمام مالك رحمه الله كتاب الموطأ، وأودعه أصول الأحكام من الصحيح المتفق عليه، ورتبه على أبواب الفقه، ثم عُني الحفاظ بمعرفة طرق الأحاديث وأسانيده المختلفة، وربما يقع إسناد الحديث من طرق متعددة عن رواة مختلفين، وقد يقع الحديث أيضًا في أبواب متعددة باختلاف المعاني التي اشتمل عليها. وجاء محمد بن إسماعيل البخاري إمام المحدثين في عصره، فخرَّج أحاديث السنة على أبوابها في مسنده الصحيح بجميع الطرق التي للحجازيين والعراقيين والشاميين، واعتمد منها ما أجمعوا عليه دون ما اختلفوا فيه، وكرَّر الأحاديث يسوقها في كل باب بمعنى ذلك الباب الذي تضمنه الحديث، فتكررت لذلك أحاديثه حتى يقال: إنه اشتمل على تسعة آلاف حديث ومائتين، منها ثلاثة آلاف متكررة، وفرَّق الطرق والأسانيد عليها مختلفة في كل باب. ثم جاء الإمام مسلم بن الحجاج القشيري (رحمه الله)، فألَّف مسنده الصحيح، حذا فيه حذو البخاري في نقل المجمع عليه، وحذف المتكرر منها، وجمع الطرق والأسانيد، وبوَّبه على أبواب الفقه وتراجمه، ومع ذلك فلم يستوعب الصحيح كله، وقد استدرك الناس عليه وعلى البخاري في ذلك. قال الحسين بن محمد الماسرجسي: سمعت أبي يقول: سمعت مسلمًا يقول: “صنَّفت هذا – المسند الصحيح – من ثلاثمائة ألف حديث مسموعة”.وقد استغرقت مدة تأليفه لهذا الكتاب خمسة عشر عامًا، وأما عن ثناء العلماء على الإمام مسلم : قال أبو قريش الحافظ : سمعت محمد بن بشار يقول: “حُفَّاظ الدنيا أربعة: أبو زرعة بالري، ومسلم بنيسابور، وعبد الله الدَّارِمِي بسمرقند، ومحمد بن إسماعيل ببخارى”. ونقل أبو عبد الله الحاكم أن محمد بن عبد الوهاب الفراء قال: “كان مسلم بن الحجاج من علماء الناس، ومن أوعية العلم”. وقال الحافظ أبو علي النيسابوري: “ما تحت أديم السماء أصحُّ من كتاب مسلم في علم الحديث”. وقال عنه صاحب أبجد العلوم (صديق بن حسن القنوجي): “والإمام مسلم بن الحجاج القشيري البغدادي أحد الأئمة الحفاظ، وأعلم المحدثين، إمام خراسان في الحديث بعد البخاري”. ومن كلمات الإمام مسلم الخالدة :- قوله للإمام البخاري:”دعني أُقبِّلْ رجليك يا أستاذ الأُسْتَاذِينَ، وسيِّد المحدثين، وطبيب الحديث في علله”. وأما عن مؤلفات الإمام مسلم : فللإمام مسلم رحمه الله مؤلفات كثيرة، منها : ما وُجد، ومنها ما فُقد؛ ومن هذه المؤلفات:- كتابه الصحيح، وهو أشهر كتبه.- كتاب التمييز.- كتاب العلل.- كتاب الوُحْدَان.- كتاب الأفراد.- كتاب الأَقْران. وغيره وغيرها من الكتب والمصنفات
أيها المسلمون
وظل هذا الإمام يطلب العلم حتى أخر لحظة من حياته ، ذكر ابن الصلاح بسنده عن أحمد بن سلمه قوله: ” عُقِد لأبي الحسين مسلم بن الحجاج مجلس للمذاكرة فَذُكِرَ له حديث لم يعرفه ،فانصرف إلى منزله، وأوقد السراج ،وقال لمن في الدار :لا يدخلن أحد منكم هذا البيت ، فقيل له: أهديت لنا سلة فيها تمر ،فقال: قدموها إليَّ، فقدموها ،فكان يطلب الحديث ويأخذ تمرة تمرة، يمضغها، فأصبح وقد فني التمر ،ووجد الحديث ،لكنه مرض منها ومات . فتوفي رحمه الله سنة واحد وستين ومائتين للهجرة وعمره خمسة وخمسون عاماً وخلف خمسة عشر كتاباً مطبوعاً من أبرزها كتابه الصحيح ،وثلاثة وعشرين كتاباً مفقوداً ، فرحم الله الإمام مسلم وجمعنا به في دار كرامته في جنة الخلد : {جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدَ الرَّحْمَنُ عِبَادَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّهُ كَانَ وَعْدُهُ مَأْتِيًّ}(مريم:61). عاش الإمام مسلم 55 سنة، وتُوفِّي ودفن في مدينة نيسابور سنةَ 261هـ/ 875م. رحمه الله رحمة واسعة، وجزاه عن المسلمين خير الجزاء.
الدعاء