خطبة عن (الرميصاء: (أم سليم بنت ملحان)
يوليو 23, 2016خطبة عن ( الإمام : أحمد بن حنبل )
يوليو 23, 2016الخطبة الأولى ( الحسن البصري )
الحمد لله رب العالمين . اللهم لك الحمد على نعمة الإسلام والايمان .ولك الحمد أن جعلتنا من أمة محمد عليه الصلاة والسلام. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له . وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
أما بعد أيها المسلمون
يقول الله تعالى في محكم آياته وهو أصدق القائلين : (إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ ) (28) فاطر ،وروى أبو داود في سننه (عَنْ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ « إِنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ لِهَذِهِ الأُمَّةِ عَلَى رَأْسِ كُلِّ مِائَةِ سَنَةٍ مَنْ يُجَدِّدُ لَهَا دِينَهَا ». وفي سنن الترمذي (رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ « مَنْ سَلَكَ طَرِيقًا يَبْتَغِى فِيهِ عِلْمًا سَلَكَ اللَّهُ بِهِ طَرِيقًا إِلَى الْجَنَّةِ وَإِنَّ الْمَلاَئِكَةَ لَتَضَعُ أَجْنِحَتَهَا رِضًا لِطَالِبِ الْعِلْمِ وَإِنَّ الْعَالِمَ لَيَسْتَغْفِرُ لَهُ مَنْ فِى السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِى الأَرْضِ حَتَّى الْحِيتَانُ فِى الْمَاءِ وَفَضْلُ الْعَالِمِ عَلَى الْعَابِدِ كَفَضْلِ الْقَمَرِ عَلَى سَائِرِ الْكَوَاكِبِ إِنَّ الْعُلَمَاءَ وَرَثَةُ الأَنْبِيَاءِ إِنَّ الأَنْبِيَاءَ لَمْ يُوَرِّثُوا دِينَارًا وَلاَ دِرْهَمًا إِنَّمَا وَرَّثُوا الْعِلْمَ فَمَنْ أَخَذَ بِهِ أَخَذَ بِحَظٍّ وَافِرٍ ».
إخوة الإسلام
حديثنا اليوم إن شاء الله عن عالم جليل ، وإمام فقيه زاهد ، إنه الإمام : ( الحسن البصري ) ،أما نسبه ومولده : فهو الحسن بن أبي الحسن يسار أبو سعيد مولى زيد بن ثابت الأنصاري ،ويقال مولى أبي اليسر كعب بن عمرو السلمي. وكان أبوه مولى جميل بن قطبة وهو من سبي ميسان، سكن المدينة وأُعتِق وتزوج بها في خلافة عمر بن الخطاب ، فولد له بها الحسن رحمة الله عليه لسنتين بقيتا من خلافة عمر. وأمة خيرة مولاة لأم سلمة أم المؤمنين كانت تخدمها، وربما أرسلتها في الحاجة فتشتغل عن ولدها الحسن وهو رضيع فتشاغله أم سلمة بثدييها فيدران عليه فيرضع منهما، فكانوا يرون أن تلك الحكمة والعلوم التي أوتيها الحسن من بركة تلك الرضاعة من الثدي المنسوب إلى رسول الله، ثم كان وهو صغير تخرجه أمه إلى الصحابة فيدعون له وكان في جملة من يدعو له عمر بن الخطاب ،قال: اللهم فقهه في الدين وحببه إلى الناس. وأصله من ميسان، ولد ونشأ بالمدينة بين الصحابة، وسافر إلى كابل، وكان كاتبًا للربيع بن زياد في خراسان في عهد سيدنا معاوية بن أبي سفيان وسكن بعد ذلك البصرة، وعرف بالحسن البصري. نشأ بين الصحابة رضوان الله عليهم، مما دفعه إلى التعلم من الصحابة، والرواية عنهم، ورأى الحسن البصري عدد من الصحابة وعاش بين الكبار كعثمان بن عفان وطلحة بن عبيد الله، وروى عن عمران بن حصين والمغيرة بن شعبة وعبد الرحمن بن سمرة وسمرة بن جندب وأبي بكرة الثقفي والنعمان بن بشير وجابر وجندب البجلي وابن عباس وعمرو بن تغلب ومعقل بن يسار والأسود ابن سريع وأنس بن مالك ، وكما كان للصحابة أثرًا في تربية الحسن بسبب نشأته بينهم، وتعلمه على أيديهم، فقد كان لبعض التابعين أثرًا كبيرًا في نفسه: فلقد روي أنه كان يقص في الحج فمر به علي بن الحسين رضي الله عنهما ،فقال له: يا شيخ، أترضى نفسك للموت؟ قال: لا قال: فلله في أرضه معاد غير هذا البيت، قال: لا قال: فثم دار للعمل غير هذه الدار، قال: لا قال: فعملك للحساب، قال: لا قال: فلم تشغل الناس عن طواف البيت قال: فما قص الحسن بعدها. وأما عن أثر الحسن البصري في الآخرين : فإن رجلاً تربى على يد الصحابة وأخذ عنهم وتعلم منهم تجد له آثارًا واضحة في الآخرين، فعن إياس بن أبي تميمة يقول: شهدت الحسن في جنازة أبي رجاء على بغلة والفرزدق إلى جنبه على بعير، فقال له الفرزدق: قد استشرفنا الناس يقولون: خير الناس، وشر الناس قال: يا أبا فراس، كم من أشعث أغبر ذي طمرين خير مني؟ وكم من شيخ مشرك أنت خير منه؟ ما أعددت للموت؟ قال: شهادة أن لا إله إلا الله قال: إن معها شروطًا فإياك وقذف المحصنة قال: هل من توبة؟ قال: نعم. وخرج الحسن من عند ابن هبيرة فإذا هو بالقراء على الباب فقال: ما يجلسكم ها هنا؟ تريدون الدخول على هؤلاء الخبثاء، أما والله ما مجالستهم مجالسة الأبرار، تفرقوا فرق الله بين أرواحكم وأجسادكم، قد فرطحتم نعالكم وشمرتم ثيابكم وجززتم شعوركم فضحتم القراء فضحكم الله، والله لو زهدتم فيما عندهم لرغبوا فيما عندكم، ولكنكم رغبتم فيما عندهم فزهدوا فيكم أبعد الله من أبعد. وكان بين الحسن البصري وبين محمد بن سيرين هجرة، فكان إذا ذكر ابن سيرين عند الحسن يقول: دعونا من ذكر الحاكة، وكان بعض أهل ابن سيرين حائكًا، فرأى الحسن في منامه كأنه عريان، وهو قائم على مزبلة يضرب بالعود، فأصبح مهموما برؤياه، فقال لبعض أصحابه: امض إلى ابن سيرين، فقص عليه رؤياي على أنك أنت رأيتها، فدخل على ابن سيرين وذكر له الرؤيا فقال ابن سيرين: قل لمن رأى هذه الرؤيا، لا تسأل الحاكة عن مثل هذا. فأخبر الرجل الحسن بمقالته، فعظم لديه، وقال: قوموا بنا إليه، فلما رآه ابن سيرين، قام إليه وتصافحا وسلم كل واحد منهما على صاحبه، وجلسا يتعاتبان، فقال الحسن: دعنا من هذا، فقد شغلت الرؤيا قلبي. فقال ابن سيرين: لا تشغل قلبك، فإن العري عري من الدنيا، ليس عليك منها علقة وأما المزبلة فهي الدنيا، وقد انكشفت لك أحوالها، فأنت تراها كما هي في ذاتها، وأما ضربك بالعود، فإنه الحكمة التي تتكلم بها وينتفع بها الناس. فقال له الحسن: فمن أين لك أني أنا رأيت هذه الرؤيا? ، قال ابن سيرين: لما قصها علي فكرت، فلم أر أحدًا يصلح أن يكون رآها غيرك. ومن مواقف الحسن البصري مع عمر بن عبد العزيز : فقد كتب الحسن بن أبي الحسن إلى عمر بن عبد العزيز: أما بعد: يا أمير المؤمنين، اعلم أن الدنيا ليست بدار إقامة وإنما أهبط آدم إليها عقوبة؛ فبحسب من لا يدري ثواب الله أنه ثواب، وبحسب من لا يدري عقاب الله أنه عقاب، ليست صرعتها كالصرعة تهين من أكرمها، وتذل من أعزها، وتفقر من جمعها، ولها في كل حين قتيل، فالزاد منها تركها والغنى فيها فقرها، هي والله يا أمير المؤمنين كالسم يأكله من لا يعرفه ليشفيه وهو حتفه؛ فكن فيها يا أمير المؤمنين كالمداوي جرحه يحتمي قليلاً مخافة ما يكره طويلاً، ويصبر على شدة الدواء مخافة البلاء، فأهل البصائر الفضائل فيها يا أمير المؤمنين مشيهم بالتواضع، وملبسهم بالاقتصاد، ومنطقهم بالصواب، ومطعمهم الطيب من الرزق، قد نفذت أبصارهم في الآجل كما نفذت أبصارهم في العاجل، فخوفهم في البر كخوفهم في البحر، ودعاؤهم في السراء كدعائهم في الضراء، ولولا الأجل الذي كتب عليهم لم تقر أرواحهم في أبدانهم إلا قليلاً خوفًا من العقاب وشوقًا إلى الثواب، عظم الخالق في أعينهم وصغر المخلوق عندهم فارض منها بالكفاف وليكفك ما بلغك المحل.
أيها المسلمون
ومن ملامح شخصية الحسن البصري عبادته وعلمه : فقد كان الحسن البصري صوامًا قوامًا، فكان يصوم الأشهر الحرم والاثنين والخميس. ويقول ابن سعد عن علمه: كان الحسن جامعًا عالمًا عاليًا رفيعًا ثقة مأمونًا عابدًا ناسكًا كبير العلم فصيحًا جميلاً وسيمًا وكان ما أسند من حديثه وروى عمن سمع منه فحسن حجة، وقدم مكة فأجلسوه على سرير واجتمع الناس إليه فحدثهم، وكان فيمن أتاه مجاهد وعطاء وطاووس وعمرو بن شعيب فقالوا أو قال بعضهم: لم نر مثل هذا قط. وكان أنس بن مالك يقول: سلوا الحسن فإنه حفظ ونسينا. وقال أبو سعيد بن الأعرابي في طبقات النساك: كان عامة من ذكرنا من النساك يأتون الحسن ويسمعون كلامه ويذعنون له بالفقه في هذه المعاني خاصة، وكان عمرو بن عبيد وعبد الواحد بن زيد من الملازمين له، وكان له مجلس خاص في منزله لا يكاد يتكلم فيه إلا في معاني الزهد والنسك وعلوم الباطن، فإن سأله إنسان غيرها تبرم به وقال: إنما خلونا مع إخواننا نتذاكر، فأما حلقته في المسجد فكان يمر فيها الحديث والفقه وعلم القرآن واللغة وسائر العلوم، وكان ربما يسأل عن التصوف فيجيب، وكان منهم من يصحبه للحديث، وكان منهم من يصحبه للقرآن والبيان، ومنهم من يصحبه للبلاغة، ومنهم من يصحبه للإخلاص وعلم الخصوص كعمرو بن عبيد وأبي جهير وعبد الواحد بن زيد وصالح المري وشميط وأبي عبيدة الناجي وكل واحد من هؤلاء اشتهر بحال يعني في العبادة. وعن بكر بن عبد الله المزني قال: من سره أن ينظر إلى أفقه من رأينا فلينظر إلى الحسن. وقال قتادة: كان الحسن من أعلم الناس بالحلال والحرام. ومما يعرف عن الحسن البصري شدة خوفه وخشيته لله ، ومن ذلك ما رواه حميد الطويل قال: خطب رجل إلى الحسن فكنت أنا السفير بينهما قال: فكأن قد رضيه، فذهبت يوما أثني عليه بين يديه فقلت: يا أبا سعيد، وأزيدك أن له خمسين ألف درهم قال: له خمسون ألفًا ما اجتمعت من حلال، قلت: يا أبا سعيد إنه ما علمت لورع مسلم، قال: إن كان جمعها من حلال فقد ضن بها عن حق، لا والله لا يجري بيننا وبينه صهر أبدا. وعن علقمة بن مرثد في ذكر الثمانية من التابعين قال: وأما الحسن فما رأينا أحدًا أطول حزنًا منه، ما كنا نراه إلا حديث عهد بمصيبة. ويقول يزيد بن حوشب: ما رأيت أخوف من الحسن وعمر بن عبد العزيز كأن النار لم تخلق إلا لهما. وعن حفص بن عمر قال: بكى الحسن فقيل له: ما يبكيك؟ فقال: أخاف أن يطرحني غدًا في النار ولا يبالي.
أقول قولي وأستغفر الله لي ولكم
الخطبة الثانية ( الحسن البصري )
الحمد لله رب العالمين . اللهم لك الحمد على نعمة الإسلام والايمان .ولك الحمد أن جعلتنا من أمة محمد عليه الصلاة والسلام. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له . وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
أما بعد أيها المسلمون
ومن ملامح شخصيته قوله الحق : فلما ولي عمر بن هبيرة الفزاري العراق وأضيفت إليه خراسان وذلك في أيام يزيد بن عبد الملك؛ استدعى الحسن البصري ومحمد بن سيرين والشعبي وذلك في سنة ثلاث ومائة فقال لهم: إن يزيد خليفة الله استخلفه على عباده، وأخذ عليهم الميثاق بطاعته، وأخذ عهدنا بالسمع والطاعة، وقد ولاني ما ترون فيكتب إلي بالأمر من أمره فأقلده ما تقلده من ذلك الأمر فما ترون؟ فقال ابن سيرين والشعبي قولاً فيه تقية، فقال ابن هبيرة: ما تقول يا حسن؟ فقال: يا ابن هبيرة، خف الله في يزيد، ولا تخف يزيد في الله، إن الله يمنعك من يزيد وإن يزيد لا يمنعك من الله، وأوشك أن يبعث إليك ملكًا فيزيلك عن سريرك ويخرجك من سعة قصرك إلى ضيق قبرك ثم لا ينجيك إلا عملك، يا ابن هبيرة، إن تعص الله فإنما جعل الله هذا السلطان ناصرًا لدين الله وعباده؛ فلا تركبن دين الله وعباده بسلطان الله فإنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق، فأجازهم ابن هبيرة وأضعف جائزة الحسن فقال الشعبي لابن سيرين سفسفنا له فسفسف لنا. وكان الحسن ناصحًا لله ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم، وكتب إليه عمر بن عبد العزيز: أنصحني فكتب إليه: إن الذي يصحبك لا ينصحك، والذي ينصحك لا يصحبك. ولما كانت فتنة بن الأشعث إذ قاتل الحجاج بن يوسف انطلق عقبة بن عبد الغافر وأبو الجوزاء وعبد الله بن غالب في نفر من نظرائهم فدخلوا على الحسن فقالوا: يا أبا سعيد، ما تقول في قتال هذا الطاغية الذي سفك الدم الحرام، وأخذ المال الحرام، وترك الصلاة وفعل وفعل؟ فقال الحسن: أرى أن لا تقاتلوه فإنها إن تكن عقوبة من الله فما أنتم برادي عقوبة الله بأسيافكم، وإن يكن بلاء فاصبروا حتى يحكم الله وهو خير الحاكمين، قال: فخرجوا من عنده وهم يقول نطيع هذا العلج، فخرجوا مع بن الأشعث؛ فقتلوا جميعًا. وعن حمزة الأعمى قال ذهبت بي أمي إلى الحسن فقالت يا أبا سعيد ابني هذا قد أحببت أن يلزمك فلعل الله أن ينفعه بك قال فكنت أختلف إليه فقال لي يوما يا بني أدم الحزن على خير الآخرة لعله أن يوصلك إليه وأبك في ساعات الخلوة لعل مولاك يطلع عليك فيرحم عبرتك فتكون من الفائزين ،قال : وكنت أدخل عليه منزله وهو يبكي وآتيه مع الناس وهو يبكي وربما جئت وهو يصلي فأسمع بكاءه ونحيبه قال فقلت له يوما يا أبا سعيد إنك لتكثر من البكاء قال فبكى ثم قال يا بني فما يصنع المؤمن إذا لم يبك يا بني إن البكاء داع إلى الرحمة فإن استطعت أن لا تكون عمرك إلا باكيا فافعل لعله يراك على حالة فيرحمك بها فإذا أنت قد نجوت من النار. روى عن الحسن بن أبي الحسن البصري أنه مر بقوم وهم يضحكون فقال إن الله جعل شهر رمضان مضمارا لخلقه يستبقون فيه لطاعته فسبق قوم ففازوا وتخلف أقوام فخابوا فالعجب كل العجب للضاحك اللاعب في اليوم الذي فاز فيه السابقون وخاب فيه المبطلون. وأما عن شجاعته: فقد كان الحسن البصري أشجع أهل زمانه كما يقول هشام بن حسان، وكان جعفر بن سليمان يقول: كان الحسن من أشد الناس، وكان المهلب إذا قاتل المشركين يقدمه. وكان الحسن البصري من الزاهدين حقاً فهو الذي زهد فيما عند الملوك فرغبوا فيه واستغنى عن الناس وما في أيديهم فأحبوه، فعن يونس بن عبيد قال: أخذ الحسن عطاءه فجعل يقسمه، فذكر أهله حاجة فقال لهم: دونكم بقية العطاء أما إنه لا خير فيه إلا أن يصنع به هذا. ولما وليَ الحجَّاجُ بن يوسف الثقفي العراقَ ، وطغى في ولايته وتجبَّر ، كان الحسنُ البصري أحدَ الرجال القلائل الذين تصدَّوا لطغيانه ، وجهروا بين الناس بسوء أفعاله ، وصدعوا بكلمة الحق في وجهه ، فعَلِمَ الحجَّاجُ أن الحسن البصري يتهجَّم عليه في مجلس عام ، فماذا فعل؟ دخل الحجَّاجُ إلى مجلسه ، وهو يتميَّز من الغيظ ، وقال لجلاَّسه : تبًّا لكم ، سُحقا ، يقوم عبدٌ من عبيد أهل البصرة ، و يقول فينا ما شاء أن يقول ، ثم لا يجد فيكم من يردُّه ، أو ينكر عليه ، واللهٍ لأسقينَّكم من دمه يا معشر الجبناء ، ثم أمر بالسيف والنطع – ثم أمر بالسيف والنطع فأُحضِر ، ودعا بالجلاد فمَثُل واقفا بين يديه ، ثم وجَّه إلى الحسن بعضَ جنده ، وأمرهم أن يأتوا به ، ويقطعوا رأسه ، وانتهى الأمرُ ، وما هو إلا قليل حتى جاء الحسنُ ، فشخصتْ نحوه الأبصارُ ، ووجفت عليه القلوبُ ، فلما رأى الحسنُ السيفَ والنطع والجلادَ حرَّك شفتيه ، ثم أقبل على الحجاج ، وعليه جلالُ المؤمن ، وعزة المسلم ، ووقارُ الداعية إلى الله ، فلما رآه الحجاجُ على حاله هذه هابه أشدَّ الهيبة ، وقال له : ها هنا يا أبا سعيد ، تعالَ اجلس هنا ، فما زال يوسع له و يقول : ها هنا ، والناس لا يصدَّقون ما يرون ، ولما أخذ الحسنُ مجلسه التفت إليه الحجَّاجُ ، وجعل يسأله عن بعض أمور الدين ، والحسنُ يجيبه عن كلِّ مسألة بجنان ثابت ، وبيان ساحر ، وعلم واسع ، فقال له الحجاج : أنت سيدُ العلماء يا أبا سعيد ، ثم دعا بغالية – نوع من أنواع الطيب – وطيَّب له بها لحيته ، وودَّعه ، ولما خرج الحسنُ من عنده تبعه حاجبُ الحجاج ، وقال له : يا أبا سعيد ، لقد دعاك الحجاجُ لغير ما فعل بك ، دعاك ليقتلك ، والذي حدث أنه أكرمك ، وإني رأيتك عندما أقبلت ، ورأيتَ السيفَ والنطعَ قد حرَّكتَ شفتيك ، فماذا قلت ؟ فقال الحسن : لقد قلت : يا وليَ نعمتي ، وملاذي عند كربتي ، اجعل نقمته بردا و سلاما عليَّ ، كما جعلت النارَ بردا وسلاما على إبراهيم ، وعن مطر قال: دخلنا على الحسن نعوده فما كان في البيت شيء لا فراش ولا بساط ولا وسادة ولا حصير إلا سرير مرمول هو عليه. ولقد كان الحسن البصري ممن يعرف للإخوة حقوقها، فعن معمر عن قتادة قال: دخلنا على الحسن وهو نائم وعند رأسه سلة فجذبناها فإذا خبز وفاكهه وجعلنا نأكل فانتبه فرآنا فسره فتبسم وهو يقرأ {أَوْ صَدِيقِكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ}. وعن جرير بن حازم قال: كنا عند الحسن وقد انتصف النهار وزاد فقال ابنه: خفوا عن الشيخ، فإنكم قد شققتم عليه فإنه لم يطعم طعامًا ولا شرابًا، قال: مه وانتهره، دعهم فوالله ما شيء أقر لعيني من رؤيتهم أو منهم، إن كان الرجل من المسلمين ليزور أخاه فيتحدثان ويذكران ويحمدان ربهما حتى يمنعه قائلته. ولقي الحسن بن أبي الحسن البصري بعض إخوانه فلما أراد أن يفارقه خلع عمامته فألبسه إياه وقال: إذا أتيت أهلك فبعها واستنفق ثمنها.
الخطبة الأولى ( من أقوال الحسن البصري )
الحمد لله رب العالمين . اللهم لك الحمد على نعمة الإسلام والايمان .ولك الحمد أن جعلتنا من أمة محمد عليه الصلاة والسلام. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له . وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
أما بعد أيها المسلمون
يقول الحسن: بئس الرفيقان الدينار والدرهم، لا ينفعانك حتى يفارقاك. وقال الحسن: أهينوا الدنيا فوالله لأهنأ ما تكون إذا أهنتها. وكان يقول: اصحب الناس بما شئت أن تصحبهم فإنهم سيصحبونك بمثله. ومن أقواله: فضح الموت الدنيا فلم يترك فيها لذي لب فرحا. وروى ثابت عنه قال: ضحك المؤمن غفلة من قلبه. وسأله رجل فقال له: يا أبا سعيد، ما الإيمان؟ قال: الصبر والسماحة فقال: يا أبا سعيد ما الصبر والسماحة؟ قال: الصبر عن معصية الله، والسماحة بأداء فرائض الله. يقول أبو طارق السعدي: شهدت الحسن عند موته يوصي فقال لكاتب: اكتب هذا ما يشهد به الحسن بن أبي الحسن يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله من شهد بها صادقًا عند موته دخل الجنة، ولما حضرته الوفاة جعل يسترجع فقام إليه ابنه فقال: يا أبت قد غممتنا، فهل رأيت شيئًا؟ قال: هي نفسي لم أصب بمثلها. وكان يقول: إن هذا الدين قويٌّ، وإن الحق ثقيل، وإن الإنسان ضعيف، فليأخذ أحدكم ما يطيق؛ فإن العبد إذا كلَّف نفسَه من العمل فوق طاقتها، خافَ عليها السآمة والتَّرْكَ. وكان يقول: المرض زكاة البدن، كما أن الصدقة زكاة المال، فكل جسم لا يشتكي كمثل مال لا يزكَّى. وكان يقول: أفضل العمل الفكرة والورع، فمن كانت حياته كذلك نجا، وإلا فليحتسب حياتَه. وكان يقول: الفكرة مرآةٌ تُريك حسنتك من سيئتك، ومن اعتمد عليها أفلح، ومن أغفلها افتضَح. وقال له رجل يومًا: يا أبا سعيد، كنت حدَّثتني بحديث فنسيتُه؟ فقال الحسن: لولا النسيانُ لَكثُر الفقهاء. وقال أبانُ : دخلت على الحسن المسجد، فقلت: هل صليت رحمك الله؟ فقال: لا! قلت: فإن أهل السوق قد صلَّوْا، فقال: ومن يأخذ عن أهل السوق دينَه؟! إن نفَقت سلعتهم أخَّروا الصلاة، وإن كسدت قدموها. وكان يقول: احذر ثلاثةً، لا تمكِّن الشيطانَ فيها من نفسك: لا تخلُونَّ بامرأة ولو قلت: أعلِّمها القرآن، ولا تدخل على السلطان، ولو قلت: آمره بالمعروف وأنهاه عن المنكر، ولا تجلس إلى صاحب بدعة؛ فإنه يُمرِضُ قلبك، ويُفسِدُ عليك دينَك. وكان يقول: تفقَّد الحلاوة في ثلاثة: في الصلاة، والقراءة، والذكر، فإن وجدت ذلك، فامضِ وأبشِر، وإلا فاعلم أن بابك مغلق، فعَالِجْ فتحَه. وكان يقول: لولا ثلاثة ما طأطأ ابن آدم رأسه: الموت، والمرض، والفقر، وإنه بعد ذلك لوثاب. وكان يقول: أيها الناس، إنا والله ما خُلقنا للفناء، ولكنا خُلقنا للبقاء، وإنما ننقل من دار إلى دار. وكان يقول: من وقَّر صاحب بدعة، فقد سعى في هدم الإسلام. وكان يقول: روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول: ((إذا مُدِح الفاسق، غضب الله تعالى)) . وكان يقول: احذروا العابد الجاهل، والعالم الفاسق؛ فإن فيهما فتنةً لكل مفتون. وكان يقول: ابنَ آدم، لا يغرنَّك أن تقول: المرءُ مع من أحب؛ فإنك لن تلحق الأبرارَ إلا بأعمالهم، وإن اليهود والنصارى لَيُحبُّون أنبياءهم، ولا والله ما يحشرون معهم، ولا يدخلون في زمرتهم، وإنهم لحصب جهنم هم لها واردون. وكان يقول: لا تزالُ هذه الأمة بخير، ولا تزال في كَنَفِ الله وستره، وتحت جناح ظلِّه ما لم يرفق خيارُهم بشرارهم، ويُعظِّم أبرارُهم فجَّارَهم، ويَمِلْ قراؤهم إلى أمرائهم، فإذا فعلوا ذلك، رفعت يد الله عنهم، وسُلِّط عليهم الجبابرة فساموهم سوء العذاب، ولعذابُ الآخرة أشقُّ وأبقى، وقذف في قلوبهم الرعب. وقيل: رأى الحسنُ نعيم بن رضوان يمشي مشيةَ المتكبر، فقال: انظروا إلى هذا، ليس فيه عضو إلا ولله تعالى فيه نعمةٌ، وللشيطان لعنة. وكان يقول: يحاسب الله سبحانه المؤمنين يومَ القيامة بالمنَّة والفضل، ويعذِّبُ الكافرين بالحُجة والعدل. وكان يقول: يا عجبًا لألسنة تصف، وقلوب تعرف، وأعمال تخالف! وكان يقول: مَن دخل مداخل التهمة، لم يكن له أجر الغِيبة. وكان يقول: مَن أحب أن يعلمَ ما هو فيه، فليعرض عملَه على القرآن؛ ليتبيَّن له الخسران من الرُّجحان. وكان يقول: رحم الله عبدًا عرض نفسه على كتاب الله، فإن وافق أمره، حمد الله، وسأله المزيد، وإن خالف، استعتَب ورجع من قريب. وكان يقول: يا عجبًا لابن آدم! حافظاه على رأسه، لسانه قلمهما، وريقُه مدادهما، وهو بين ذلك يتكلم بما لا يعنيه. وكان يقول: ابن آدم، تحبُّ أن تُذكر حسناتك، وتكره أن تذكر سيئاتك، وتؤاخِذُ غيرَك بالظن، وأنت مقيم على اليقين، مع علمك بأنك قد وُكِّل بك ملكان يحفظان عليك قولَك وعملك. ابن آدم، إن اللبيب لا يمنعه جدُّ الليل من جدِّ النهار، ولا جدُّ النهار من جدِّ الليل، قد لازم الخوف قلبه، إلى أن يرحمه ربه. وكان يقول: إياكم والمدح؛ فإنه الذبح. وكان يقول: ما أنصف ربَّه عبدٌ اتهمه في نفسه، واستبطأه في رزقه. وكان يقول: لا شيء أَوْلَى بأن تقيده من لسانك، ولا شيء أولى بألا تقبله من هواك. وكان يقول: ابن آدم، إنك لست بسابق أجلك، ولا بمغلوب على رزقك، ولا بمرزوق ما ليس لك، فلمَ تَكْدَحُ؟ وعلامَ تقتل نفسك؟ وكان يقول: ابن آدم بين ثلاثة أشياء: بليَّةٍ نازلة، ونعمة زائلة، ومَنيَّةٍ قاتلة. وقال: ابن آدم غرضٌ للبلايا، والرزايا، والمنايا، ثم ينتحب ويبكي ويقول: ﴿ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّار ﴾ [البقرة: 201]. ولما بلغ الحسنَ مصرعُ الحسين بن علي رضي الله عنهما، انتحَب وتأوَّه، وقال: واحسرتاه! ماذا لقيت هذه الأمة؟ قَتَلَ ابنُ دعيها ابنَ نبيِّها! اللهم كن له بالمرصاد ﴿ وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ ﴾ [الشعراء: 227]. وكان يقول: ابن آدم، قدِّم ما شئت من عمل صالح أو غيره؛ فإنك قادم عليه، وأخِّر ما شئت أن تؤخِّر؛ فإنك راجع إليه. وكان يقول: إذا أظهر الناس العلم، وضيعوا العمل، وتحابُّوا بالألسن، وتباغضوا بالقلوب، وتقاطعوا في الأرحام، لعنهم الله جل ثناؤه، فأصمَّهم وأعمى أبصارهم. وسأله رجل عن الغِيبةِ: ما هي، وما يوجبها؟ فقال: هي والله عقوبة الله عز وجل يُحلها بالعباد إذا عصَوه، وتأخروا عن طاعته. وكان يقول: هِجران الأحمق قربةٌ إلى الله، ومواصلةُ العاقل إقامةٌ لدين الله، وإكرامُ المؤمن خدمةٌ لله، ومصارمةُ الفاسق عون من الله. وكان يقول: روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((لم يؤت الناس في الدنيا خيرًا من اليقين والعافية، فاسألوهما الله عز وجل)) ، ثم يقول الحسن: صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم، باليقين طلبت الجنة، وباليقين هرب من النار، وباليقين صبر على المكروه، وباليقين أُدِّيت الفرائض، وفي المعافاة خير كثير. وكان يقول: من لم تنهه صلاته عن الفحشاء والمنكر، لم تزده صلاته من الله عز وجل إلا بعدًا، ولم تزده عنده – جل ثناؤه – إلا مقتًا. وكان يقول: ابن آدم، تَستحِلُّ المحارم، وتأتي الجرائم، وتركب العظائم، وتتمنى على الله الأماني! ستعلم – أي فاجر – حين لا ينفع مال ولا بنون، إلا من أتى الله بقلب سليم. وكان يقول: تركُ الخطيئة أهونُ من معالجة التوبة، فسمع ذلك محمدُ بن واسع، فقال: رحم الله الحسنَ، صدق واللهِ، لو وافق قلبًا للطاعة فارغًا، وعقلاً من غلبة الشهوة سالمـًا.
أقول قولي وأستغفر الله لي ولكم
الخطبة الثانية ( من أقوال الحسن البصري )
الحمد لله رب العالمين . اللهم لك الحمد على نعمة الإسلام والايمان .ولك الحمد أن جعلتنا من أمة محمد عليه الصلاة والسلام. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له . وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
أما بعد أيها المسلمون
وكان يقول: ابن آدم، ما لك وللشر، وهذا الخير صافٍ؟! ابن آدم، اتقِ الكبائرَ؛ فإنك لا تزال بخير ما لم تُصِبْ كبيرةً تغير عليك قلبك، وتهدم صالح عملك. وكان يقول: لله درُّ أهل الحق، كانت دِرةُ عمرَ رضي الله عنه أهيبَ من سيف الحجاج . وقيل: يا أبا سعيد، مَن أشدُّ الناس صراخًا يوم القيامة؟ فقال: رجل سنَّ سنةَ ضلالةٍ، فاتُّبِعَ عليها، ورجل يُسيء المـَلَكةَ ، ورجل رُزِق نعمةً فاستعان بها على معصية الله عز وجل. وكان يقول: المؤمن يلقاه الزمان بعد الزمان بأمر واحد، ووجه واحد، ونصيحة واحدة، وإنما يتبدَّل المنافق؛ ليستأكل كلَّ قوم، ويسعى بكل ربح. وكان يقول: المؤمن صدَّقَ قوله فِعله، وسره علانيته، ومشهده مغيبه، والمنافق كذَّب قوله فِعله، وسره علانيته، ومشهده مغيبه. وقال له رجل: أَيحسُدُ المؤمن؟ فقال: لا أبا لك ! من أنساك إخوة يوسف، وما فعل بهم الحسد؟ قال حميد خادم الحسن: قلت له يومًا: يا أبا سعيد، أصلحك الله، أما ترى ما الناس فيه من الاختلاط؟ قال: يا أبا الخير، أصلَحَ أمرَ الناس أربعةٌ، وأفسدَهم اثنان، فأما الذين أصلحوا أمرَ الناس، فعمر بن الخطاب رضي الله عنه يوم السقيفة، حين قالت الأنصار: منا أميرٌ ومنكم أمير، فقام عمر فقال: ألستم تعلمون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((الأئمة من قريش)) ؟ قالوا: بلى! قال: أولستم تعلمون أنه قدَّم في الصلاة أبا بكر؟ قالوا: بلى، قال: فأيُّكم يتقدم على أبي بكر؟ قالوا: لا أحد، فسلَّمت الأنصار، ولولا فِعلةُ عمر لتنازع الناس الخلافة، وادَّعتها كل طائفة إلى يوم القيامة. ثم الذي فعله أبو بكر الصديق رضي الله عنه حين شاور الناس في شأن أهل الردة، فكلهم أشار عليه بأن يقبل منهم ما أطاعوا به من الصلاة، ويدع لهم الزكاة، فقال رضي الله عنه: “والله لو منعوني عِقالاً كانوا يعطونه رسول الله صلى الله عليه وسلم، لجاهدتهم عليه”، ولولا الذي فعله أبو بكر رضي الله عنه لألْحَد الناس في الزكاة إلى يوم القيامة. ثم الذي فعله عثمان رضي الله عنه حين جمع الناس على مصحف جمَعَ القرآن فيه، وكانوا يقرؤونه على حروف، فيقول قوم: قراءتنا أفضل من قراءتكم، حتى كاد بعضهم يُكَفِّر بعضًا، ولولا الذي فعله عثمان رضي الله عنه لألحَدَ الناس في القرآن إلى يوم القيامة. ثم الذي فعله عليٌّ رضي الله عنه حين قاتل أهل البصرة، فلما فرغ القتال، قسَّم بين أصحابه ما حوى العسكر من أموالهم، فقالوا: يا أمير المؤمنين، هلاَّ تُقسِّمُ علينا أبناءَهم ونساءَهم؟ فأنكر عليهم ما طلبوه من ذلك، وقال: فمن يأخُذُ أمَّ المؤمنين في سهمه؟ إنكارًا لما ذهبوا إليه، وطالبوه به. ثم قال: أرأيتم هؤلاء يكن [الموالي هل] أبناؤهن ورجالهن، أتلزمُوهنَّ العِدةَ، فيَرثْنَ الربع، والثلث، والسدس؟ فقالوا: نعم! لو كن إماءً، لما كان لهن ميراث، ولا عليهن عدة، فعلموا صوابَ ما ذهب إليه، وسلَّموا لأمره، ورضوا بحكمه، ولولا ما فعله علي رضوان الله عليه ما علم الناس كيف تكون مُقاتلة أهل القِبلة. وأما الأميران اللذان أفسدا أمر الناس: فما فعله عمرو بن العاص، من رفعه المصاحفَ ، وقوله ما قال حتى حكمت الخوارج ، فلا يزال هذا التحكيم إلى يوم القيامة، وقد كان عليٌّ رضي الله عنه فهم ما أراده عمرو، وقال: كلمة حق أريد بها باطل. والأمر الثاني: ما فعله المغيرة بن شعبة ، حين كتب إليه معاوية رحمه الله: أَقْدِمْ إليَّ مغيرةُ؛ لأعلمك، فتأخَّر عنه أيامًا، ثم ورد عليه، فقال معاوية: ما أبطَأَ بك؟ قال المغيرة: أمرٌ بدأته كرهتُ أن آتي قبل إحكامه، قال: ما هو؟ قال: أخذت البيعة ليزيدَ على أهل الكوفة، قال: أوَفعلت ذلك؟ قال: بلى، قال: فارجع إلى عملك، وتمِّم ما بدأته، فلما خرج قال له أصحابه: ما وراءك؟ قال: وضعت واللهِ رجل معاوية غرزي ، لا تزال فيه إلى يوم القيامة. قال الحسن: فمن أجل ذلك بايع هؤلاء لأبنائهم، وصارت الخلافة تتوارث، ولولا ذلك لكانت شورى، لا يليها إلا من اتُّفِقَ على فضله، واستحقاقه الإمامة إلى يوم القيامة. وكان يقول: روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((يأتي على الناس زمان، لا تنال المعيشة فيه إلا بركوب المعصية، فإذا كان ذلك الزمان قبح التزويج، وحَلَّت العزبة)) . وكان يقول: لقد مضى بين أيديكم أقوام، لو أنفق أحدهم عددَ الحصى، لخشي ألا يُقبَلَ منه ولا ينجو؛ لعِظَمِ الأمر في نفسه. وسئل عن عليٍّ رضي الله عنه فقال: كان – والله – سهمًا صائبًا من مرامي الله تعالى، وكان ربانيَّ هذه الأمة، في ذروة فضلها وشرفها، كان ذا قرابةٍ قريبة من رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ أبا الحسن والحسين رضي الله عنهما، وزوجَ فاطمة الزهراء، لم يكن بالسروقة لمال الله، ولا بالبرومة في أمرِ الله، ولا بالملولة في حق الله، أعطى القرآنَ عزائمَه، وعلم ما له فيه وما عليه رضي الله تعالى عنه.
أيها المسلمون
وأما عن وفاة الحسن البصري : فقد قال رجل لابن سيرين: رأيت كأن طائرًا آخذًا الحسن حصاه في المسجد فقال ابن سيرين: إن صدقت رؤياك مات الحسن قال: فلم يلبث إلا قليلا حتى مات. ومات الحسن ليلة الجمعة، وغسله أيوب وحميد، وأخرج حين انصرف الناس وازدحموا عليه، حتى فاتت الناس صلاة العصر، لم تصل في جامع البصرة. وكان مماته سنة عشر ومائة، وعمره تسع وثمانون سنة، وقيل ست وتسعون سنة. وقال هشام بن حسان: كنا عند محمد بن سيرين عشية يوم الخميس فدخل عليه رجل بعد العصر فقال: مات الحسن فترحم عليه محمد وتغير لونه وأمسك عن الكلام فما تكلم حتى غربت الشمس، وأمسك القوم عنه مما رأوا من وجده عليه، وما عاش محمد بن سيرين بعد الحسن إلا مئة يوم. قال ابن علية: مات الحسن في رجب سنة عشر ومائة. وقال عبد الله بن الحسن إن أباه عاش نحوا من ثمان وثمانين سنة. وقد مات في أول رجب، وكانت جنازته مشهودة صلوا عليه عقيب الجمعة بالبصرة فشيعه الخلق وازدحموا عليه حتى إن صلاة العصر لم تقم في الجامع ويروى أنه أغمي عليه ثم أفاق إفاقة فقال لقد نبهتموني من جنات وعيون ومقام كريم.
الدعاء