خطبة عن ( الاستعداد للموت وللرحيل )
سبتمبر 15, 2016خطبة عن ( من أنت عند الله؟)
سبتمبر 16, 2016الخطبة الأولى ( الرحيل … الرحيل )
الحمد لله رب العالمين . اللهم لك الحمد على نعمة الإسلام والايمان .ولك الحمد أن جعلتنا من أمة محمد عليه الصلاة والسلام. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له . وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
أما بعد أيها المسلمون
روى الترمذي بسند حسن (عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- « أَكْثِرُوا ذِكْرَ هَاذِمِ اللَّذَّاتِ ». يَعْنِى الْمَوْتَ. ) ،وفي الصحيحين البخاري ومسلم :(عَنْ أَبِى قَتَادَةَ بْنِ رِبْعِيٍّ الأَنْصَارِيِّ أَنَّهُ كَانَ يُحَدِّثُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ – صلى الله عليه وسلم – مُرَّ عَلَيْهِ بِجِنَازَةٍ فَقَالَ « مُسْتَرِيحٌ ، وَمُسْتَرَاحٌ مِنْهُ » . قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا الْمُسْتَرِيحُ وَالْمُسْتَرَاحُ مِنْهُ قَالَ « الْعَبْدُ الْمُؤْمِنُ يَسْتَرِيحُ مِنْ نَصَبِ الدُّنْيَا وَأَذَاهَا إِلَى رَحْمَةِ اللَّهِ ، وَالْعَبْدُ الْفَاجِرُ يَسْتَرِيحُ مِنْهُ الْعِبَادُ وَالْبِلاَدُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ » . وجاء في كتاب ( الزهد لابن أبي الدنيا ) أَنَّ حُذَيْفَةَ، كَانَ يَقُولُ: مَا مِنْ صَبَاحٍ وَلَا مَسَاءٍ إِلَّا وَمُنَادٍ يُنَادِي: يَا أَيُّهَا النَّاسُ الرَّحِيلَ الرَّحِيلَ، وَإِنَّ تَصْدِيقَ ذَلِكَ فِي كِتَابِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ {إِنَّهَا لِإِحْدَى الْكُبَرِ نَذِيرًا لِلْبَشَرِ لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَقَدَّمَ} [المدثر: 36] قَالَ: فِي الْمَوْتِ {أَوْ يَتَأَخَرَ} [المدثر: 37] قَالَ: فِي الْمَوْتِ ”
إخوة الإسلام
الإنسان في هذه الحياة مسافر في رحلة حتمية، لا يملك إيقافها، ولا التراجع عنها، ورحيل الإنسان عن الدنيا حقيقة مُرَّة، يعلمها الأحياء علم اليقين وإن تجاهلوها، وسيذوقون مرارتها يوماً ما. ونهاية الأيام والشهور والأعوام وأفول شمسها،، إشارة واضحة إلى الزوال والرحيل والفراق من هذه الدنيا، ورحيلها يذكر لا محالة برحيل الجميع،
نعم ، يذكر لا محالة برحيل العافية عن الأبدان، ورحيل النور عن الأبصار، ورحيل الكلمات عن الألسن، ورحيل السمع عن الآذان، ورحيل النبض عن الأفئدة، ورحيل الخفقات عن القلوب، ورحيل الحركات عن الأطراف والجوارح، وقد روى الحاكم في المستدرك (عن سهل بن سعد قال : جاء جبريل عليه السلام إلى النبي صلى الله عليه و سلم فقال : يا محمد عش ما شئت فإنك ميت و احبب من أحببت فإنك مفارقه و اعمل ما شئت فإنك مجزي به ثم قال : يا محمد شرف المؤمن قيام الليل و عزه استغناؤه عن الناس)
أيها المسلمون
نعم إن الرحيل من هذه الدنيا أمرٌ محتومٌ لا مناص منه ولا محيد عنه، قال تعالى: ( كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ ) [الأنبياء:35] ،ويقول الله عز وجل: ( كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ ) [آل عمران:185] ،ويقول تعالى: ( أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ ) [النساء:78] ، ويقول تعالى:(حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لا يُفَرِّطُونَ ) [الأنعام:61] ،ويقول تعالى:( وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ ) [ق:19] ، ويقول تعالى: ( قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلاقِيكُمْ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ) [الجمعة:8] ،ويقول تعالى: ( أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ * ثُمَّ جَاءَهُمْ مَا كَانُوا يُوعَدُونَ * مَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يُمَتَّعُونَ ) [الشعراء:205-207].
أيها الراحلون
كان عمر بن عبد العزيز ذات يومٍ وهو فوق كرسي الخلافة يقرأ كلام الله عز وجل، فلما بلغ هذه الآية: ( أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ * ثُمَّ جَاءَهُمْ مَا كَانُوا يُوعَدُونَ * مَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يُمَتَّعُونَ ) [الشعراء:205-207] فنزل عن كرسي خلافته وقبض بيده على لحيته وأخذ يحرك ذقنه ويحرك لحيته ويقول: ( أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ * ثُمَّ جَاءَهُمْ مَا كَانُوا يُوعَدُونَ * مَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يُمَتَّعُونَ ) وأخذ يرددها وهو يبكي. ورحيل الساعات والأيام شاهدةٌ لنا أو علينا، شاهدةٌ لأقوامٍ بالحسنات وشاهدةٌ على آخرين بالسيئات، أقوامٌ مشغولون بالطاعة، وهم غداً في الجنة في شغلٍ فاكهون برحمة الله، وأقوامٌ مشغولون بلا مهمة ، مشغولون بالسهر ولكن في غير طاعة الله، ومشغولون بالجهد والمجاهدة، ولكن في معصية الله، مشغولون في متابعة الأفلام ،مشغولون باللهو الباطل، مشغولون بالغفلة والسهر، ثم النوم عن الصلاة مع الجماعة، فإن هذا الرحيل يذكرنا برحيلٍ نعيشه في كل يومٍ وليلة، أوليس الله عز وجل يقول: ( اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) [الزمر:42] فلا بد أن نتذكر الرحيل ولقد أمرنا نبينا صلى الله عليه وسلم أن نتذكر الرحيل قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- « أَكْثِرُوا ذِكْرَ هَاذِمِ اللَّذَّاتِ » رواه الإمام أحمد والترمذي والنسائي وابن ماجة، ولنعلم يقينا أن للرحيل سكرات، يلاقيها كل إنسان رجلٍ وامرأة وفتىً وفتاة حال الاحتضار، وهذه السكرات هي كربات وغمراتٌ حال الرحيل، وإنها لحقٌ، ولو نجى منها أحد أو سلم لنجى منها رسول الله صلى الله عليه وسلم، ففي صحيح البخاري (أَنَّ عَائِشَةَ – رضى الله عنها – كَانَتْ تَقُولُ إِنَّ رَسُولَ اللَّهَ – صلى الله عليه وسلم – كَانَ بَيْنَ يَدَيْهِ رَكْوَةٌ – أَوْ عُلْبَةٌ فِيهَا مَاءٌ ، يَشُكُّ عُمَرُ – فَجَعَلَ يُدْخِلُ يَدَيْهِ فِي الْمَاءِ ، فَيَمْسَحُ بِهِمَا وَجْهَهُ وَيَقُولُ « لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ ، إِنَّ لِلْمَوْتِ سَكَرَاتٍ » . ولكن قبل الرحيل يفاجأ أقوامٌ بغصص، ويفاجأ أقوامٌ بمفاجئاتٍ عجيبة، ومفاجئاتٍ مهولة، وأقوامٌ يرون سعادة وسروراً. كان أبو بكر الصديق رضي الله عنه يقرأ ذات يومٍ سورة الفجر، فلما بلغ قول الله عز وجل: ( يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً * فَادْخُلِي فِي عِبَادِي * وَادْخُلِي جَنَّتِي ) [الفجر:27-30]
لما تلاها أبو بكر رضي الله عنه قال: (يا رسول الله ما أطيب حظ من يقال له هذا! وما أحسن هذا! وما أجمل هذا!
فقال صلى الله عليه وسلم: وإنك يا أبا بكر ممن يقال له هذا) ،وإنك يا أبا بكر ممن يُقال له: يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً * فَادْخُلِي فِي عِبَادِي * وَادْخُلِي جَنَّتِي ) [الفجر:27-30] ،لمثل هذه الحال يطيب الرحيل، ويسعد الرحيل، ويجملُ الرحيل، ويفرح صاحب الرحيل برحيله، ومع أن هؤلاء قد لقوا البشرى من النبي صلى الله عليه وسلم إلا أن ذلك ما غرهم، بل زادهم من ربهم خوفاً ووجلاً وإشفاقا، فلقد دخلت عائشة رضي الله عنها على أبيها أبي بكر رضي الله عنه في مرض موته، فلما ثقل عليه الأمر واشتدت به السكرات، قالت عائشة رضي الله عنها: لعمرك ما يغني الثراء عن الفتى إذا حشرجت يوماً وضاق بها الصدر ،فكشف أبو بكر رضي الله عنه وجهه، وقال رضي الله عنه: [ليس كذلك يا ابنتي، ولكن قولي: (وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ ) [ق:19]] رواه ابن حبان في صحيحه ،هكذا يرحل الصالحون، يلهجون بكلام الله وذكره، هكذا يرحلون لأن الملائكة تبشرهم برضوانٍ وروحٍ وريحان ،قال تعالى : ( إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ * نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ) [فصلت:30-31] ،فهذه الولاية الحقيقية لهؤلاء في الدنيا ولهم في الآخرة، وماذا بعد لهم في الآخرة؟ ولهم فيها ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين.
أقول قولي وأستغفر الله لي ولكم
الخطبة الثانية ( الرحيل … الرحيل )
الحمد لله رب العالمين . اللهم لك الحمد على نعمة الإسلام والايمان .ولك الحمد أن جعلتنا من أمة محمد عليه الصلاة والسلام. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له . وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
أما بعد أيها المسلمون
لقد كان رحيل الصالحين عن الدنيا شوقا إلى لقاء الله عز وجل، واستعدادا ومسابقة ومبادرة، فلقد روى الإمام أحمد في مسنده عَنْ أُمِّ سَلْمَى قَالَتِ اشْتَكَتْ فَاطِمَةُ شَكْوَاهَا الَّتِي قُبِضَتْ فِيهِ فَكُنْتُ أُمَرِّضُهَا فَأَصْبَحَتْ يَوْماً كَأَمْثَلِ مَا رَأَيْتُهَا فِي شَكْوَاهَا تِلْكَ . قَالَتْ وَخَرَجَ عَلِىٌّ لِبَعْضِ حَاجَتِهِ فَقَالَتْ يَا أُمَّهِ اسْكُبِي لِي غُسْلاً. فَسَكَبْتُ لَهَا غُسْلاً فَاغْتَسَلَتْ كَأَحْسَنِ مَا رَأَيْتُهَا تَغْتَسِلُ ثُمَّ قَالَتْ يَا أُمَّهْ أَعْطِينِي ثِيَابِيَ الْجُدُدَ. فَأَعْطَيْتُهَا فَلَبِسَتْهَا ثُمَّ قَالَتْ يَا أُمَّهْ قَدِّمِي لِي فِرَاشِي وَسَطَ الْبَيْتِ. فَفَعَلْتُ
وَاضْطَجَعَتْ وَاسْتَقْبَلَتِ الْقِبْلَةَ وَجَعَلَتْ يَدَهَا تَحْتَ خَدِّهَا ثُمَّ قَالَتْ يَا أُمَّهْ إِنِّي مَقْبُوضَةٌ الآنَ وَقَدْ تَطَهَّرْتُ فَلاَ يَكْشِفُنِي أَحَدٌ. فَقُبِضَتْ مَكَانَهَا. قَالَتْ فَجَاءَ عَلِىٌّ فَأَخْبَرْتُهُ ) . انظروا إلى هذا الاستعداد، انظروا إلى هذا الاطمئنان، انظروا إلى هذه اللذة التي يجدونها عند رحيلهم، فليت شعري على أي حال يكون رحيلنا. وأما رحيل الكافرين الفاجرين فهو رحيلٌ في أسوأ حالٍ وأخبث خاتمة، قال تعالى: ( وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلائِكَةُ بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنْتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ ) [الأنعام:93]
وما ذكرته الآية يحدث أنه إذا بشر ملائكة العذاب الكافر بالعذاب والنكال والأغلال، والسلاسل والجحيم وغضب الرحمن، من شدة الفزع والخوف والهلع تتفرق روح الفاجر في جسده وتتعصى وتأبى الخروج، فتضربهم الملائكة حتى تخرج أرواحهم من أجسادهم، ويقول الإمام ابن القيم رحمه الله في كتاب الفوائد : الناس منذ خلقوا لم يزالوا مسافرين، وليس لهم حطٌ عن رحالهم إلا في الجنة أو النار، ويقول أيضاً: الناس على هذه الدار على جناح سفرٍ كلهم، وكل مسافرٍ فهو ظاعنٌ إلى مقصده، ونازلٌ على من يسر بالنزول عليه، وطالب الله والدار الآخرة، إنما هو ظاعنٌ إلى الله تعالى في حال سفره، ونازلٌ عليه عند القدوم عليه، فهذه همته في سفره وفي انقضائه، قال تعالى 🙁 يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً * فَادْخُلِي فِي عِبَادِي * وَادْخُلِي جَنَّتِي ) [الفجر:27-30]. وقال أبو بكر الصديق رضي الله عنه في خطبة له: تفكروا يا عباد الله! فيمن قبلكم أين كانوا أمس؟ وأين هم اليوم؟ أين الملوك الذين أثاروا الأرض وعمروها؟ قد نسوا ونسي ذكرهم، فهم اليوم كلا شيء، فتلك بيوتهم خاوية، وهم في ظلمات القبور، هل تحس منهم من أحدٍ أو تسمع لهم ركزاً. وأين من تعرفون من أصحابكم وإخوانكم، وقد وردوا على ما قدموا فحلوا الشقاوة والسعادة؟ إن الله ليس بينه وبين أحدٍ من خلقه نسبٌ يعطيه به خيراً، ولا يصرف عنه به سوءاً إلا بطاعته، واتباع أمره، وإنه لا خير في خير بعده النار، ولا شر في شر بعده الجنة. وقال عبد الله بن المفضل التميمي: آخر خطبة خطبها عمر بن عبد العزيز أن صعد المنبر فحمد الله فأثنى عليه، ثم قال: أما بعد: فإنما في أيديكم أسلاب الهالكين، وسيتركها الباقون كما تركها الماضون، ألا ترون أنكم في كل يومٍ وليلة تشيعون غادياً أو رائحاً إلى الله تعالى، وتضعونه في صدعٍ من الأرض، ثم في بطن الصدع غير ممهدٍ ولا موسد، قد خلع الأسلاب، وفارق الأحباب، وأسكن التراب، وواجه الحساب، فقيرٌ إلى ما قدم أمامه، غنيٌ عما ترك بعده، وعن مجاهد قال: مررت مع عبد الله بن عمر فقال: يا مجاهد ! يا خربة أين أهلك؟ قال: فناديت يا خربة! أين أهلك؟ ما فعل أهلك؟ فلم يجبني أحد قال: ثم تكلم ابن عمر وقال: ذهبوا وبقيت أعمالهم، وعن شرحبيل بن مسلم عن أبي مسلم الخولاني أنه كان إذا وقف على خربة أي: على الأطلال، قال: يا خربة! أين أهلك؟ ذهبوا وبقيت أعمالهم، وانقطعت الشهوات وبقيت الخطيئة، يا بن آدم ترك الخطيئة أهون من طلب التوبة.
أيها المسلمون
إن الرحيل حقيقةٌ مرةٌ قاسيةٌ رهيبة، تواجه كل حيٍ فلا يملك لها رداً، ولا يستطيع لها أحدٌ دفعاً، وهي تتكرر كل لحظة، يواجهها الكبار والصغار، الأغنياء والفقراء، الأقوياء والضعفاء، الملوك والوزراء، الأمراء والفقراء، يقف الجميع منها موقفاً واحداً، لا حيلة لا وسيلة لا قوة لا شفاعة، لا دفع ولا تأجيل، الكل مرجعهم إلى الله، فما لهم مرجعٌ سوى هذا المرجع، وما لهم مصير سوى هذا المصير، والتفاوت إذاً يكون في العمل والنية، وفي الاتجاه والاهتمام، أما النهاية فواحدة، الموت في الموعد المحتوم والأجل المقسوم، قال الضحاك بن مزاحم : قال عبد الله بن مسعود : ما منكم إلا ضيف، وماله عارية، والضيف مرتحلٌ، والعارية مردودة إلى أهلها. وذكر أن عمر بن عبد العزيز يكون في فراشه مع زوجته، ثم يتذكر الرحيل فيقوم عنها ويبكي، يتذكر رحيله في تلك اللحظات التي يغفل فيها الغافلون، فذكر الرحيل من أهم الأمور التي تلين بها القلوب القاسية، إن تذكر الرحيل يردع الإنسان عن ارتكاب المعاصي، ويجعله يترك الفرح بالدنيا ويهول المصائب فيها. وماذا عن الرحيل ؟؟ نستكمل الموضوع في لقاء قادم إن شاء الله
الدعاء