خطبة عن ( وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ)
سبتمبر 12, 2016خطبة عن ( الرحيل .. الرحيل )
سبتمبر 15, 2016الخطبة الأولى ( الاستعداد للموت وللرحيل )
الحمد لله رب العالمين . اللهم لك الحمد على نعمة الإسلام والايمان .ولك الحمد أن جعلتنا من أمة محمد عليه الصلاة والسلام. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له . وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
أما بعد أيها المسلمون
قال الله تعالى : ( قُلْ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ هَادُوا إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِيَاءُ لِلَّهِ مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (6) وَلَا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (7) قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلَاقِيكُمْ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) (8) الجمعة
إخوة الإسلام
جاء في كتاب التذكرة للقرطبي (كان بعض الصالحين ينادي بليل على سور المدينة : الرحيل الرحيل فلما توفي فقد صوته أمير المدينة فسأل عنه فقيل : إنه قد مات فقال : ( ما زال يلهج بالرحيل و ذكره حتى أناخ ببابه الجمال )
( فأصابه متيقظا متشمرا ذا أهبة لم تلهه الآمال ) فإن تذكر الرحيل وما بعده من سؤال القبر وظلمته، وضمته ووحشته، والبعث والحشر مما يوقظ النفس من نومها، ويوقظها من رقدتها، وينبهها من غفلتها، فتنشط وتتابع السير،
وخير وسيلة لتذكر الرحيل زيارة منازل الراحلين، زيارة القبور والاعتبار بأحوالها. أتيت القبور فناديتهـا أين المعظم والمحتقر ،انظر إلى قبر ملك من الملوك، وبجواره قبر فقير من الفقراء، ثم بعد ذلك قبر وزير من الوزراء، ثم قبر صعلوك من الصعاليك، ثم قبر مسكين من المساكين، ثم قبر فلان وعلان، هل ترى بينهم فرقاً؟ هل ترى لأحدهم مزية على أحد؟ وفي صحيح مسلم (عَنِ ابْنِ بُرَيْدَةَ عَنْ أَبِيهِ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- « نَهَيْتُكُمْ عَنْ زِيَارَةِ الْقُبُورِ فَزُورُوهَا )، وروى الحاكم قال صلى الله عليه وسلم: (كنت نهيتكم عن زيارة القبور ألا فزوروها، فإنها ترق القلب، وتدمع العين، وتذكر الآخرة، ولا تقل هجراً) ،وعَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ قَالَ : كُنْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فَجَاءَهُ رَجُلٌ مِنَ الأَنْصَارِ فَسَلَّمَ عَلَى النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- ثُمَّ قَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيُّ الْمُؤْمِنِينَ أَفْضَلُ قَالَ : « أَحْسَنُهُمْ خُلُقًا ». قَالَ فَأَيُّ الْمُؤْمِنِينَ أَكْيَسُ قَالَ : « أَكْثَرُهُمْ لِلْمَوْتِ ذِكْرًا وَأَحْسَنُهُمْ لِمَا بَعْدَهُ اسْتِعْدَادًا أُولَئِكَ الأَكْيَاسُ ». رواه ابن ماجة وغيره ، و الأكياس : جمع الكيس وهو العاقل). نعم ، إنها حسراتٌ عند الرحيل لأقوامٍ ضيعوا وفرطوا وأسرفوا، لأقوامٍ منعوا حقوق الله ،قال الله: ( وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ * وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْساً إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ) [المنافقون:10-11] ،قال ابن كثير : كل مفرطٍ يندم عند الاحتضار، ويسأل طول المدة ولو شيئاً يسيراً ليستعتب ويستدرك ما فاته، وهيهات كان ما كان وأتى ما هو آت، وكل بحسب تفريطه. وعند رحيل الفاجر يدعو على نفسه بالويل، ويدعو على نفسه حين تحمل جنازته، ويدعو على نفسه حين يتحرك به، فعَنْ سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيِّ عَنْ أَبِيهِ أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا سَعِيدٍ الْخُدْرِيَّ – رضى الله عنه – أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ – صلى الله عليه وسلم – قَالَ « إِذَا وُضِعَتِ الْجِنَازَةُ وَاحْتَمَلَهَا الرِّجَالُ عَلَى أَعْنَاقِهِمْ ، فَإِنْ كَانَتْ صَالِحَةً قَالَتْ قَدِّمُونِي . وَإِنْ كَانَتْ غَيْرَ صَالِحَةٍ قَالَتْ يَا وَيْلَهَا أَيْنَ يَذْهَبُونَ بِهَا يَسْمَعُ صَوْتَهَا كُلُّ شَيْءٍ إِلاَّ الإِنْسَانَ ، وَلَوْ سَمِعَهُ صَعِقَ » .رواه البخاري، ألا وإن الخوف من الرحيل المخزي، ألا وإن الخوف من سوء الرحيل قد أقض مضاجع الصالحين، ففي الصحيحين ، يقول صلى الله عليه وسلم ( وَلَكِنَّ الْمُؤْمِنَ إِذَا حَضَرَهُ الْمَوْتُ بُشِّرَ بِرِضْوَانِ اللَّهِ وَكَرَامَتِهِ ، فَلَيْسَ شَيْءٌ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِمَّا أَمَامَهُ ، فَأَحَبَّ لِقَاءَ اللَّهِ وَأَحَبَّ اللَّهُ لِقَاءَهُ ، وَإِنَّ الْكَافِرَ إِذَا حُضِرَ بُشِّرَ بِعَذَابِ اللَّهِ وَعُقُوبَتِهِ ، فَلَيْسَ شَيْءٌ أَكْرَهَ إِلَيْهِ مِمَّا أَمَامَهُ ، كَرِهَ لِقَاءَ اللَّهِ وَكَرِهَ اللَّهُ لِقَاءَهُ » .
أيها المسلمون
أفلا نستعد لهذا الرحيل؟ ألم يأمرنا ربنا بأن نستعد ونعمل؟ فقال وقوله الحق : ( وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ ) [آل عمران:133] ،ألم يأمرنا نبينا بالمبادرة؟ فقال فيما روي عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ « بَادِرُوا بِالأَعْمَالِ فِتَنًا كَقِطَعِ اللَّيْلِ الْمُظْلِمِ يُصْبِحُ الرَّجُلُ مُؤْمِنًا وَيُمْسِى كَافِرًا أَوْ يُمْسِى مُؤْمِنًا وَيُصْبِحُ كَافِرًا يَبِيعُ دِينَهُ بِعَرَضٍ مِنَ الدُّنْيَا ».رواه مسلم. ألا نعمل قبل الرحيل؟ ألا نعمل قبل حلول الخسارة؟ قال تعالى : ( فَاعْبُدُوا مَا شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ ) [الزمر:15] ويقول تعالى: ( وَقَالَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلا إِنَّ الظَّالِمِينَ فِي عَذَابٍ مُقِيمٍ ) [الشورى:45]. فمن خرج في سفرٍ من أسفار الدنيا بغير زاد، ندم حيث يحتاج إلى الزاد فلا ينفعه الندم، وربما هلك، فكيف بمن رحل في سفر الآخرة مع طوله ومشقته بغير الزاد، فقد كان علي بن أبي طالب رضي الله عنه يقول وهو يتهجد الليل: (آه من قلة الزاد، وبعد السفر، ووحشة الطريق، فإذا شكا من قلة الزاد مَنْ زاده كثير، فكيف يقول من لا زاد له؟ فأين العمل؟ وأين التزود للرحيل؟ يروي أحد أصحاب محمد بن واسع قال: لما ثقل محمد بن واسع وحضره الموت، كثر الناس عليه في العيادة، قال: فدخلت، فإذا قومٌ قيام وقومٌ قعود، وآخرون داخلون وخارجون، فأقبل عليَّ، وقال: أخبرني ما ينفعني هؤلاء عني إذا أخذ بناصيتي وقدمي غداً وألقيت في النار؟ سبحان الله العلي العظيم! ذلك دأبهم، وذاك تهجدهم وصيامهم وإخلاصهم واقتداؤهم وجهادهم، وبذلهم وإنفاقهم ودعوتهم، ومع ذلك يقول: ما يغني عني هؤلاء إذا أخذ بناصيتي وأخذ بقدمي غداً وألقيت في النار؟ ثم تلا هذه الآية ( يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيمَاهُمْ فَيُؤْخَذُ بِالنَّوَاصِي وَالْأَقْدَامِ ) [الرحمن:41]. وقال ابن المنذر: سمعت مالك بن دينار يقول لنفسه: ويحك بادري قبل أن يأتيك الأمر، ويحك بادري قبل أن يأتيك الأمر، قال: كرر ذلك ستين مرة، وكان في خلوة أسمعه ولا يراني. فيا أيها الموقنون بالرحيل! يا أيها الذين تعلمون أنكم قادمون على الرحيل! ( وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ ) [المنافقون:10].
ويا أيها الموقنون بالرحيل ( وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ * أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَى عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ * أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ * أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذَابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ ) [الزمر:55-58]. فقد جهل أناسٌ حقيقة الدنيا وغاية وجودهم فيها، فتاهوا حيارى، وضاعوا في منحنيات الطريق، فلم يفيقوا إلا وملائكة الموت تسُل أرواحهم، عند ذلك تذكروا، والألم يعصر بالنفوس، والحسرة والندم تعصر القلوب، لقد تذكروا العمر المنقضي فيما لا يفيد ولا يجدي، فتأوهوا التأوه الذي لا يغني، وعلموا أنهم ضيعوا الحياة، قال تعالى ( حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحاً فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ ) [المؤمنون:99-100].
أقول قولي وأستغفر الله لي ولكم
الخطبة الثانية : الاستعداد للموت وللرحيل
الحمد لله رب العالمين . اللهم لك الحمد على نعمة الإسلام والايمان .ولك الحمد أن جعلتنا من أمة محمد عليه الصلاة والسلام. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له . وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
أما بعد أيها المسلمون
ومن كلام السلف عن زاد الآخر : قال مجاهد : خطب عثمان بن عفان ، فقال: ابن آدم! اعلم أن ملك الموت الذي وكِّل بك لم يزل يخلفك ويتخطى إلى غيرك مذ أتيت في الدنيا، وكأنه قد تخطى غيرك إليك وقصدك، فخذ حذرك واستعد له، ولا تغفل فإنه لا يُغفل عنك، واعلم يا ابن آدم أنك إن غفلت عن نفسك ولم تستعد لها، لن يستعد لها غيرك ولا بد من لقاء الله، فخذ لنفسك ولا تكل نفسك إلى غيرك والسلام. ويقول: أحمد بن إسحاق الحضرمي: سمعت صالحاً المري يتمثل بهذا البيت في قصصه: وغائب الموت لا ترجون رجعته إذا ذوو غيبةٍ من سفرة رجعوا قال: ثم يبكي ويقول: هو والله السفر البعيد فتزودوا لمراحله، فإن خير الزاد التقوى، واعلموا أنكم في مثل أمنيتهم، فبادروا الموت واعملوا قبل حلوله، ثم يبكي. هكذا كانوا يستعدون للرحيل؛ فعن أحمد بن عبد الله، قال: قيل لـحاتم الأصم: علام بنيت علمك؟ قال: بنيت علمي على أربع: على فرضٍ لا يؤديه غيري فأنا به مشغول، وعلمت أن رزقي لا يجاوزني إلى غيري فقد وثقت به، وعلمت أني لا أخلو من عين الله طرفة عين، فأنا منه مستح، وعلمت أن لي أجلاً يبادرني فأبادره. وهكذا كانوا يتزودون للرحيل، وكانت امرأة أبي محمد الفارس توقظه في الليل وتقول: قم يا حبيب ، فإن الطريق بعيد وزادنا قليل وقوافل الصالحين سارت من بين أيدينا ونحن هنا ماكثون. فتزودوا أيها الأحبة! ولنتزود أيها الأخ المحب! ويا أيتها الأخت الصالحة! أوصيكم ونفسي بتقوى الله عز وجل، فما أحوجنا إلى هذه التقوى التي هي نعم الزاد للراحلين!
فأيا أخيّ! وأيا أخيه! إن للعمر أيامه، وإن للحياة نهايتها، ولا ندري متى تنقضي أيام العمر ومتى تبلغ الحياة غايتها.
إن الموت حقيقة لا يكابر فيها مكابر ولا يجادل فيها ذو العقل؛ لأن الموت مشاهدٌ مكرور، وإن كان الناس عنه غافلون أو متغافلون، ومع ذلك فكل حيٍ سبيله الموت والرحيل عن هذه الحياة. يا أخيّ! ويا أخيه! نحن قومٌ مسافرون، والطريق طويل، والعقبات كثيرة،، فلنتزود لآخرتنا من دنيانا، ولا تلهنا هذه الدنيا عن غايةٍ، فنضل عن الطريق.
يا أخيّ! ويا أخيه! فلنتزود بتقوى الله، فإنه زادٌ سيصبح ثمنه غالياً، وترتفع سوقه، ويربح طالبه: ( وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ) [البقرة:197]. يا أخيّ! ويا أخيه! لا ألفينك أو تلفيني وقد انقضت حياتنا، وحان حيننا، وولت عنا الدنيا مدبرة، ونظرنا إلى ماضي أيامنا، فإذا بنا نشاهد ماضياً أليما، وأياماً سوداء قاتمة قضيناها في عصيان رب العالمين، وقد خدَعَنا من الحياة مظهرنا، وغرنا من الحياة زخارفها إذا أنت لم ترحل بزادٍ من التقى ولاقيت بعد الموت من قد تزودا ندمت على ألا تكـون كمثله وأنك لم ترصد كما كان أرصدا المبادرة لا بد منها قبل حلول الأجل، وإننا مهما لهثنا، ومهما ركضنا، ومهما جمعنا، ومهما أسرعنا، فلن تنتهي الأشغال، ولن نبلغ الآمال، وستموت النفوس بأناتها وحسراتها، ما لم تكن مشغولة في طاعة الله، أوصى الشريف المحدث الرحال أبو محمد جعفر بن محمد العباس الذي توفي في عام (598هـ) أوصى أن يكتب على قبره: (حوائج لم تقض، وآمالٌ لم تنل، وأنفسٌ ماتت بحسراتها ). إذاً فما الذي ينفعنا إلا عمل صالح ندخره للرحيل ونجعله الزاد، ونجعله سفينة النجاة في بحار الشهوات، وفي صحيح مسلم (عَنْ مُطَرِّفٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ أَتَيْتُ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- وَهُوَ يَقْرَأُ (أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ)
قَالَ « يَقُولُ ابْنُ آدَمَ مَالِي مَالِي – قَالَ – وَهَلْ لَكَ يَا ابْنَ آدَمَ مِنْ مَالِكَ إِلاَّ مَا أَكَلْتَ فَأَفْنَيْتَ أَوْ لَبِسْتَ فَأَبْلَيْتَ أَوْ تَصَدَّقْتَ فَأَمْضَيْتَ ». فلا ينفع أحدٌ من المال إلا ما قدم لنفسه وأنفقه في سبيل الله عز وجل، فأما ما أكله ولبسه فإنه لا له ولا عليه؛ إلا أن يكون فيه نية صالحة، وأما ما خلفه وتركه فهو لورثته لا له، وإنما هو خازن لورثته، فأما ما أنفقه في المعاصي فهو عليه لا له، وكذلك ما أمسكه ولم يؤد حق الله عز وجل فيه فهو عليه لا له.
أيها الراحلون
إن الذي ينفعنا بعد موتنا أن نعمل عملاً صالحاً، فقد قال صلى الله عليه وسلم فيما رواه مسلم عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ « إِذَا مَاتَ الإِنْسَانُ انْقَطَعَ عَنْهُ عَمَلُهُ إِلاَّ مِنْ ثَلاَثَةٍ إِلاَّ مِنْ صَدَقَةٍ جَارِيَةٍ أَوْ عِلْمٍ يُنْتَفَعُ بِهِ أَوْ وَلَدٍ صَالِحٍ يَدْعُو لَهُ ». وقال الإمام النووي: قال العلماء: معنى الحديث أن عمل الإنسان ينقطع بموته وينقطع تجدد الثواب له إلا في هذه الأشياء الثلاثة لكونه سبباً فيه، أي: الولد والصدقة والعلم، فإن الولد من كسبه، وكذلك العمل الذي خلفه من تعليمٍ وتصنيف، وكذلك الصدقة الجارية، وهي في الوقف، وإن مما ينفعك بعد موتك وما بعد الرحيل ما بينه الرسول صلى الله عليه وسلم كما في سنن ابن ماجة (عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِى قَتَادَةَ عَنْ أَبِيهِ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- « خَيْرُ مَا يُخَلِّفُ الرَّجُلُ مِنْ بَعْدِهِ ثَلاَثٌ وَلَدٌ صَالِحٌ يَدْعُو لَهُ وَصَدَقَةٌ تَجْرِى يَبْلُغُهُ أَجْرُهَا وَعِلْمٌ يُعْمَلُ بِهِ مِنْ بَعْدِهِ ». وَقَدْ زِيدَ عَلَى هَذِهِ الثَّلَاثَةِ مَا أَخْرَجَهُ ابْنُ مَاجَهْ بِلَفْظِ { أَنَّ مِمَّا يَلْحَقُ الْمُؤْمِنَ مِنْ عَمَلِهِ وَحَسَنَاتِهِ بَعْدَ مَوْتِهِ عِلْمًا نَشَرَهُ وَوَلَدًا صَالِحًا تَرَكَهُ أَوْ مُصْحَفًا وَرَّثَهُ أَوْ مَسْجِدًا بَنَاهُ أَوْ بَيْتًا لِابْنِ السَّبِيلِ بَنَاهُ أَوْ نَهْرًا أَجْرَاهُ أَوْ صَدَقَةً أَخْرَجَهَا مِنْ مَالِهِ فِي صِحَّتِهِ وَحَيَاتِهِ تَلْحَقُهُ بَعْدَ مَوْتِهِ} وَوَرَدَتْ خِصَالٌ أُخَرُ تُبْلِغُهَا عَشْرًا وَنَظَمَهَا الْحَافِظُ السُّيُوطِيّ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ قَالَ : إذَا مَاتَ ابْنُ آدَمَ لَيْسَ يَجْرِي عَلَيْهِ مِنْ فِعَالٍ غَيْرِ عَشْرِ عُلُومٌ بَثَّهَا وَدُعَاءُ نَجْلٍ وَغَرْسُ النَّخْلِ وَالصَّدَقَاتِ تَجْرِي وِرَاثَةُ مُصْحَفٍ وَرِبَاطُ ثَغْرٍ وَحَفْرُ الْبِئْرِ أَوْ إجْرَاءُ نَهْرِ وَبَيْتٌ لِلْغَرِيبِ بَنَاهُ يَأْوِي إلَيْهِ أَوْ بِنَاءُ مَحَلِّ ذِكْرِ
أيها الراحلون
وجاء في الصحيحين (عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِى بَكْرٍ قَالَ سَمِعْتُ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ يَقُولُ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-
« يَتْبَعُ الْمَيِّتَ ثَلاَثَةٌ فَيَرْجِعُ اثْنَانِ وَيَبْقَى وَاحِدٌ يَتْبَعُهُ أَهْلُهُ وَمَالُهُ وَعَمَلُهُ فَيَرْجِعُ أَهْلُهُ وَمَالُهُ وَيَبْقَى عَمَلُهُ ». فالرحيل ..الرحيل .. الرحيل ، ألا فلنبادر له بأن نقدم لهذه الأنفس عملاً صالحا قبل أن يأتي يومٌ لا يجزي والدٌ عن ولده،
قال تعالى : (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْمًا لَا يَجْزِي وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلَا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَنْ وَالِدِهِ شَيْئًا إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ) لقمان 33
الدعاء