خطبة عن (الباقيات الصالحات) (سُبْحَانَ الْلَّهِ ،وَالْحَمْدُ لِلَّهِ، وَلَا إِلَهَ إِلَّا الْلَّهُ، وَالْلَّهُ أَكْبَرُ)
سبتمبر 12, 2016خطبة عن ( الصبر على البلاء وما يعين عليه)
سبتمبر 12, 2016الخطبة الأولى ( الرفق بالحيوان في الإسلام )
الحمد لله رب العالمين . اللهم لك الحمد على نعمة الإسلام والايمان .ولك الحمد أن جعلتنا من أمة محمد عليه الصلاة والسلام. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له . وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
أما بعد أيها المسلمون
يقول الله تعالى في محكم آياته وهو أصدق القائلين : (وَالْأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ (5) وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ (6) وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بَالِغِيهِ إِلَّا بِشِقِّ الْأَنْفُسِ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ (7) وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً ) النحل ،وروى مسلم في صحيحه أنه صلى الله عليه وسلم سئل ( قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ وَإِنَّ لَنَا فِي هَذِهِ الْبَهَائِمِ لأَجْرًا فَقَالَ « فِي كُلِّ كَبِدٍ رَطْبَةٍ أَجْرٌ ». وفي سنن أبي داود : (عَنْ سَهْلِ ابْنِ الْحَنْظَلِيَّةِ قَالَ : مَرَّ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- بِبَعِيرٍ قَدْ لَحِقَ ظَهْرُهُ بِبَطْنِهِ فَقَالَ : « اتَّقُوا اللَّهَ فِي هَذِهِ الْبَهَائِمِ الْمُعْجَمَةِ فَارْكَبُوهَا وَكُلُوهَا صَالِحَةً ». وفي رواية أحمد : (خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فِي حَاجَةٍ فَمَرَّ بِبَعِيرٍ مُنَاخٍ عَلَى بَابِ الْمَسْجِدِ مِنْ أَوَّلِ النَّهَارِ ثُمَّ مَرَّ بِهِ آخِرَ النَّهَارِ وَهُوَ عَلَى حَالِهِ فَقَالَ « أَيْنَ صَاحِبُ هَذَا الْبَعِيرِ ». فَابْتُغِىَ فَلَمْ يُوجَدْ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- « اتَّقُوا اللَّهَ فِي هَذِه الْبَهَائِمِ ارْكَبُوهَا صِحَاحاً وَارْكَبُوهَا سِمَاناً »
إخوة الإسلام
عرف المسلمون مفهوم الرّفق بالحيوان وطبّقوه في حياتهم في زمان كانت تنتهك فيه حقوق الإنسان – فضلاً عن الحيوان – بأنواع شتى من الانتهاكات، كالاستعباد، والقهر، والوأد، وغير ذلك. وكان للمسلمين قصبُ السَّبْق بعشرات القرون لعملهم بتلك الأحكام، علماً بأنه لم يتنبَّه غيرهم لهذا الأمر إلا في أزمنة متأخرة، فأنشئت فيهم المؤسسات والهيئات والمنظّمات لحماية الحيوان ورعايته. وهكذا فأول ما تعلنه مبادئ حَضَارتنا الاسلامية في مجال الرِّفق بالحيوان ، أن تقرِّرَ أن عالَم الحيوان كعالَم الإنْسَان، له خصائصه وطبائعُه وشعوره؛ قال تعالى : { وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ } [الأنعام: 38]، فله حقُّ الرِّفق والرَّحمة كحقِّ الإنْسَان: ” « الرَّاحِمُونَ يَرْحَمُهُمُ الرَّحْمَنُ ارْحَمُوا أَهْلَ الأَرْضِ يَرْحَمْكُمْ أَهْلُ السَّمَاءِ ” رواه أحمد ، بل إن الرحمة بالحيوان قد تُدخِل صاحبها الجنة؛ كما في الصحيحين (عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ – صلى الله عليه وسلم – قَالَ « بَيْنَمَا رَجُلٌ يَمْشِى بِطَرِيقٍ اشْتَدَّ عَلَيْهِ الْعَطَشُ ، فَوَجَدَ بِئْرًا فَنَزَلَ فِيهَا فَشَرِبَ ثُمَّ خَرَجَ ، فَإِذَا كَلْبٌ يَلْهَثُ يَأْكُلُ الثَّرَى مِنَ الْعَطَشِ فَقَالَ الرَّجُلُ لَقَدْ بَلَغَ هَذَا الْكَلْبَ مِنَ الْعَطَشِ مِثْلُ الَّذِى كَانَ بَلَغَ بِي ، فَنَزَلَ الْبِئْرَ فَمَلأَ خُفَّهُ ، ثُمَّ أَمْسَكَهُ بِفِيهِ ، فَسَقَى الْكَلْبَ ، فَشَكَرَ اللَّهُ لَهُ فَغَفَرَ لَهُ » . قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ وَإِنَّ لَنَا فِى الْبَهَائِمِ أَجْرًا . فَقَالَ « فِي كُلِّ ذَاتِ كَبِدٍ رَطْبَةٍ أَجْرٌ » ، كما أن القسوة على الحيوان تُدخِل النار ، ففي الصحيحين (عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ – رضى الله عنهما – أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ – صلى الله عليه وسلم – قَالَ « عُذِّبَتِ امْرَأَةٌ فِي هِرَّةٍ سَجَنَتْهَا حَتَّى مَاتَتْ ، فَدَخَلَتْ فِيهَا النَّارَ ، لاَ هِيَ أَطْعَمَتْهَا وَلاَ سَقَتْهَا إِذْ حَبَسَتْهَا ، وَلاَ هِيَ تَرَكَتْهَا تَأْكُلُ مِنْ خَشَاشِ الأَرْضِ » ،ولم تقتصر النّصوص الشّرعية على الوصية بحيوان معيّن دون غيره، ولا على الوصية به في وقت خاص، وإنما هي شاملةٌ لكل الحيوانات غير المؤذية، عامّة في الأوقات،، وسأذكر لكم مجرّد أمثلة وإشارات تدلُّ على هذا الأصل الهامِّ في الإسلام ، فمن ذلك: وجوب القيام على الحيوان بما يصلحه: فعن سهل ابن الحنظلية قال: مرَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم ببعيرٍ قد لَحِقَ ظهرُه ببطنه، فقال: (( اتّقوا الله في هذه البهائم المُعْجَمة، فاركَبُوها صالحةً، وكُلُوها صالحةً )) رواه أبو داود . وقوله (( قد لَحِق ظهرُه ببطنه )) أي: من الجوع، ومعنى الحديث: خافوا الله في هذه البهائم التي لا تتكلم فتسأل ما بها من الجوع والعطش والتَّعب والمَشَقَّة . ومنها : وجوب نفقة الحيوان على مالكه، والإحسان إلى الحيوان بإطعامه وسقيه سبب لمغفرة الذنوب : فعن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النَّبي صلى الله عليه وسلم: (( أن امرأةً بَغِيّاً رأَتْ كلباً في يوم حارٍّ يُطِيفُ ببئر قد أَدْلَعَ لسانَه من العطش، فنَـزَعَتْ له بِمُوقِها، فغُفِر لها )) رواه مسلم . ومنها : الرحمة في استخدام الحيوان: عن عائشة رضي الله عنها أنها رَكِبَتْ بعيراً فكانت فيه صعوبةٌ، فجعلَتْ تُرَدِّدُه، فقال لها رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: ((عَلَيْكِ بِالرِّفْقِ…)) الحديث، رواه مسلم . ومعنى (تردِّدُه): تجعله يسير ثم تُوقِفُه بشدَّة، وتكرِّر ذلك عدَّة مرات، وفي ذلك من القسوة عليه ما لا يخفى، لذا جاء أمره صلى الله عليه وسلم بالرِّفق مع هذا الحيوان. وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: ((إذا سافَرْتُم في الخِصْب فأَعْطُوا الإبلَ حظَّها من الأرض، وإذا سافرْتُم في السَّنَةِ فأَسْرِعوا عليها السَّيرَ…)) الحديث، رواه مسلم ، قال النووي: ((معنى الحديث: الحثُّ على الرِّفق بالدّوابِّ ومُراعاةِ مصلحتها، فإن سافروا في الخِصْب قلَّلوا السيرَ، وتركوها ترعى في بعض النهار وفي أثناء السير، فتأخذ حظَّها من الأرض بما ترعاه ومنها : إن سافروا في القَحْط عجَّلوا السيرَ؛ ليصلوا المَقْصِدَ وفيها بقيَّةٌ من قوَّتِها، ولا يُقَلِّلوا السَّيْرَ فيَلْحَقُها الضَّررُ؛ لأنها لا تَجِدُ ما تَرْعَى فتَضْعُفُ…. ) ، ومنها : أن الاسلام يحَرِّم المكْث طويلاً على ظهره وهو واقف؛ فقد روى الإمام أحمد في مسنده (عَنْ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- أَنَّهُ مَرَّ عَلَى قَوْمٍ وَهُمْ وُقُوفٌ عَلَى دَوَابَّ لَهُمْ وَرَوَاحِلَ فَقَالَ لَهُمُ « ارْكَبُوهَا ساَلِمَةً وَدَعُوهَا سَالِمَةً وَلاَ تَتَّخِذُوهَا كَرَاسِيَّ لأَحَادِيثِكُمْ فِي الطُّرُقِ وَالأسْوَاقِ فَرُبَّ مَرْكُوبَةٍ خَيْرٌ مِنْ رَاكِبَهَا وَأَكْثَرُ ذِكْراً لِلَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى مِنْهُ » – كما تحرم إرهاقه بالعمل فوق ما يَتَحَمَّل ففي مسند أحمد وغيره (عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَعْفَرٍ قَالَ أَرْدَفَنِي رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- ذَاتَ يَوْمٍ خَلْفَهُ فَأَسَرَّ إِلَىَّ حَدِيثاً لاَ أُخْبِرُ بِهِ أَحَداً أَبَداً وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- أَحَبُّ مَا اسْتَتَرَ بِهِ فِي حَاجَتِهِ هَدَفٌ أَوْ حَائِشُ نَخْلٍ فَدَخَلَ يَوْماً حَائِطاً مِنْ حِيطَانِ الأَنْصَارِ فَإِذَا جَمَلٌ قَدْ أَتَاهُ فَجَرْجَرَ وَذَرَفَتْ عَيْنَاهُ – قَالَ بَهْزٌ وَعَفَّانُ فَلَمَّا رَأَى النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- حَنَّ وَذَرَفَتْ عَيْنَاهُ – فَمَسَحَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- سَرَاتَهُ وَذِفْرَاهُ فَسَكَنَ فَقَالَ « مَنْ صَاحِبُ الْجَمَلِ ».فَجَاءَ فَتًى مِنَ الأَنْصَارِ فَقَالَ هُوَ لِي يَا رَسُولَ اللَّهِ فَقَالَ « أَمَا تَتَّقِى اللَّهَ فِي هَذِهِ الْبَهِيمَةِ الَّتِي مَلَّكَكَهَا اللَّهُ إِنَّهُ شَكَا إِلَىَّ أَنَّكَ تُجِيعُهُ وَتُدْئِبُهُ ».أي: تُتْعِبُه بكثـرة استعماله. – كما يحرم التَّلَهِّي به في الصيد؛ ففي مسند أحمد وعند النسائي وابن حبان (عَنْ عَمْرِو بْنِ الشَّرِيدِ قَالَ سَمِعْتُ الشَّرِيدَ يَقُولُ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ « مَنْ قَتَلَ عُصْفُوراً عَبَثاً عَجَّ إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنْهُ يَقُولُ يَا رَبِّ إِنَّ فُلاَناً قَتَلَنِي عَبَثاً وَلَمْ يَقْتُلْنِي لِمَنْفَعَةٍ » وكذلك اتخاذه هدفًا لتعليم الإصابة؛ فقد لَعَن رسول الله صلى الله عليه وسلم مَنِ اتَّخَذ شيئًا فيه الرُّوح غرضًا كما في صحيح مسلم (إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- لَعَنَ مَنِ اتَّخَذَ شَيْئًا فِيهِ الرُّوحُ غَرَضًا. ) أي: هدفًا. ومنها :النَّهْي عن التحريش بين الحيوانات: عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: نهى رسولُ الله صلى الله عليه وسلم عن التحريش بين البهائم. رواه أبو داود والترمذي .
والتَّحْريش بين الحيوانات مُجانِبٌ للرِّفق بها، لأن معناه الإغراء، وتهييجُ بعضِها على بعض، كما يفعل بين الجِمال، والكِباش، والدُّيوك، وغيرها، ووجْهُ النَّهْيِ أنَّه إيلامٌ للحيوانات، وإتعابٌ لها بدون فائدة، بل مجرَّد عَبَث
أيها المسلمون
أمَّا إذا كان الحيوان مما يُؤْكل، فإنَّ الرحمة به أن تُحدَّ الشَّفرة، ويُسقَى الماء، ويُراحَ بعد الذبح قبل السلخ ، ففي سنن الترمذي (عَنْ شَدَّادِ بْنِ أَوْسٍ أَنَّ النَّبِىَّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ « إِنَّ اللَّهَ كَتَبَ الإِحْسَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ فَإِذَا قَتَلْتُمْ فَأَحْسِنُوا الْقِتْلَةَ وَإِذَا ذَبَحْتُمْ فَأَحْسِنُوا الذِّبْحَةَ وَلْيُحِدَّ أَحَدُكُمْ شَفْرَتَهُ وَلْيُرِحْ ذَبِيحَتَهُ »
بل إنَّ إضجاع الحيوان للذبح قبل إحداد الشفرة قسوةٌ لا تجوز؛ أضجع رجل شاة للذبح، وهو يحد شفرته، فقال له عليه السلام: “أتريد أن تميتها موتتان؟! هلاَّ أحددت شفرتك قبل أن تضجعها” رواه الحاكم في المستدرك .واسمعوا ما أروَع هذه الرَّحمةَ بالحيوان وأبلغ دلالتها على روح حَضَارتنا؛ ففي سنن أبي داود: (عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ أَبِيهِ قَالَ كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فِي سَفَرٍ فَانْطَلَقَ لِحَاجَتِهِ فَرَأَيْنَا حُمَّرَةً مَعَهَا فَرْخَانِ فَأَخَذْنَا فَرْخَيْهَا فَجَاءَتِ الْحُمَّرَةُ فَجَعَلَتْ تُعَرِّشُ فَجَاءَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- فَقَالَ « مَنْ فَجَعَ هَذِهِ بِوَلَدِهَا رُدُّوا وَلَدَهَا إِلَيْهَا ». وَرَأَى قَرْيَةَ نَمْلٍ قَدْ حَرَّقْنَاهَا فَقَالَ « مَنْ حَرَّقَ هَذِهِ ». قُلْنَا نَحْنُ. قَالَ « إِنَّهُ لاَ يَنْبَغِي أَنْ يُعَذِّبَ بِالنَّارِ إِلاَّ رَبُّ النَّارِ ». وعلى ضوء هذه التعاليم يُقَرِّر الفقهاء المسلمون من أحكام الرحمة بالحيوان ما لا يخطر على البال؛ فهم يُقَرِّرون أن النفقة على الحيوان واجبةٌ على مالكه، فإنِ امتنع أُجبِر على بيعه أو الإنفاق عليه، أو تسيِيبه إلى مكانٍ يجِد فيه رزقه ومأمَنه، أو ذبحه إذا كان مما يُؤكَل. هذه هي مبادئ الرِّفق بالحيوان في حَضَارتنا وتشريعنا، فكيف كان الواقع التطبيقي لها؟
ففي صحيح مسلم (عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ قَالَ بَيْنَمَا رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فِي بَعْضِ أَسْفَارِهِ وَامْرَأَةٌ مِنَ الأَنْصَارِ عَلَى نَاقَةٍ فَضَجِرَتْ فَلَعَنَتْهَا فَسَمِعَ ذَلِكَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فَقَالَ « خُذُوا مَا عَلَيْهَا وَدَعُوهَا فَإِنَّهَا مَلْعُونَةٌ ». قَالَ عِمْرَانُ فَكَأَنِّى أَرَاهَا الآنَ تَمْشِى فِى النَّاسِ مَا يَعْرِضُ لَهَا أَحَدٌ. ) ،ومرَّ عمرُ برجل يسحَب شاةً برجلها ليذبحها، فقال له: “ويلك، قُدْها إلى الموت قودًا جميلاً”. وهكذا كان طابَع حَضَارتنا: رفقًا بالحيوان، وعناية به من قبل الدولة والمؤسسات الاجتماعية.
أقول قولي وأستغفر الله لي ولكم
الخطبة الثانية ( الرفق بالحيوان في الإسلام )
الحمد لله رب العالمين . اللهم لك الحمد على نعمة الإسلام والايمان .ولك الحمد أن جعلتنا من أمة محمد عليه الصلاة والسلام. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له . وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
أما بعد أيها المسلمون
أما عناية الدولة، فليس أدلُّ على ذلك من أن خلفاءها كانوا يُذيعون البلاغات العامة على الشَّعب يُوصونهم فيها بالرِّفق بالحيوان، ومنع الأذى عنه، والإضرار به؛ فقد أذاع عمَر بن عبدالعزيز في إحدى رسائله إلى الولاة أن ينهوا الناس عن ركض الفرس في غير حقٍّ، وكتب إلى صاحب السكك وهي وظيفة تشبه مصلحة السير والطرق ( ألاَّ يسمحوا لأحدٍ بإلجام دابَّته بلجام ثقيل، أو أن ينخسَها بمقرعة في أسفلها حديدة ). وكان مِن وظيفة المحتسِب – وهي وظيفة تشبه في بعض صلاحياتها وظيفةَ الشرطي في عصرنا الحاضر-: أن يمنعَ الناس من تحميل الدوابِّ فوق ما تطيق، أو تعذيبها وضَرْبها أثناء السَّيْر، فمَن رآه يفعل ذلك أدَّبه وعاقَبه. وأمَّا المؤسسات الاجتماعية، فقد كان للحيوان منها نصيبٌ كبيرٌ، وحسبنا أن نجدَ في ثبت الأوقاف القديمة أوقافًا خاصَّة لتطبيب الحيوانات المريضة، وأوقافًا لرَعْي الحيوانات المُسِنَّة العاجِزة. وهذا كلُّه يدلُّكَ على رُوح الشَّعب الذي بلغ منَ الرِّفق بالحيوان إلى هذا الحدِّ، وهو ما لا تجد له مثيلاً، ولعل أصدق مثالٍ عن رُوح الشَّعب في ظل حَضَارتنا، أن ترى صحابيًّا جليلاً كأبي الدَّرداء يكون له بعيرٌ، فيقول له عند الموت : “يا أيها البعير، لا تخاصمني إلى ربِّك؛ فإنِّي لم أكن أحملك فوق طاقتكَ”، وأن صحابيًّا كعدي بن حاتم كان يفتُّ الخبز للنمل، ويقول: “إنهن جارات لنا، ولهنَّ علينا حقٌّ”، وأن إمامًا كبيرًا كأبي إسحاق الشِّيرازي كان يمشي في طريق ومعه بعض أصحابه، فعرض له كلب فزجره صاحبه، فنَهاه الشيخ، وقال له: “أما علمت أنَّ الطريق مشترك بيننا وبينه؟!”.
أيها المسلمون
ولا نستطيع أن نُقَدِّرَ هذه الظاهرة البارزة في حَضَارتنا وموقفها الإنْسَاني الكريم مع الحيوان، إلا إذا عَلِمنا: كيف كان يعامَل الحيوان في العصور القديمة والوُسْطى؟ وكيف كان موقف الأمم منه، من جناياته وتعذيبه؟ وأول ما يلفتُ النظر في ذلك أنك لا تجد في تعاليم تلك الشعوب ما يحمل على الرِّفق بالحيوان، ووجوب الرحمة به، ومِن ثَمَّ فلا تجد له حقوقًا على صاحبه من نفقة ورعاية. ويلفت النظر بعد ذلك أخذ الحيوان بجنايته إذا جنى أو جنى صاحبه، ومعاملته في المسؤولية كمُعامَلة الإنْسَان العاقل المُفَكِّر، وهذا أغرب ما تضمَّنه تاريخ العصور القديمة والوُسطى حتى القرن التاسع عشر؛ فقد كان الحيوان يحاكَم فيها كما يحاكم الإنْسَان، ويُحْكَم عليه بالسجن والتشريد والموت، كما يحكم على الإنْسَان الجاني تمامًا.
أيها المسلمون
وبعدُ، فهذا هو موقف حَضَارتنا منَ الحيوان، وموقف غيرنا منَ الأمم منه، ومنها يتضح أن حَضَارتنا امتازتْ بأمرين لا مثيل لهما عند الأمم القديمة وبعض الأمم الحديثة اليوم: أولهما: إقامة مؤسسات اجتماعية للعناية بالحيوان وتطبيبه، وتأمين معيشته عند العجز والمرض والشيخوخة. وثانيهما: أنَّ حَضَارتنا خلتْ من محاكمة الحيوان؛ لأنها نادتْ برفع المسؤولية الجنائيَّة عنه قبل ثلاثة عشر قرنًا من مناداة الحَضَارة الحديثة بذلك، كما أن حَضَارتنا خلتْ من مظاهر القسوة والتحريش بين الحيوانات، وهي التي كان معترفًا بها رسميًّا لدى اليونان والرومان، ولا تزال معترفًا بها في إسبانيا؛ حيث تُقام الحفلات الكبرى لمصارَعة الثيران، وهي بلا شك وحشيةٌ من بقايا وحشية الغَربيين القدماء وفي العصور الوسطى، وقد تَنَزَّهَتْ عنها حَضَارتنا.
الدعاء