خطبة عن (الصحابي: أنس بن مالك)
يوليو 20, 2016خطبة عن (الصحابي: ثوبان مولى الرسول)
يوليو 20, 2016الخطبة الأولى (الصحابي: بلال بن رباح)
الحمد لله رب العالمين .. اللهم لك الحمد على نعمة الإسلام والإيمان. ولك الحمد أن جعلتنا من أمة محمد عليه الصلاة والسلام.. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له . وأشهد أن محمدا عبده ورسوله.. نشهد أنه بلغ الرسالة وأدى الأمانة ونصح الأمة اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
أما بعد أيها المسلمون
يقول الله تعالى في محكم آياته وهو أصدق القائلين : {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا} [الفتح:29]، وروى مسلم في صحيحه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم « النُّجُومُ أَمَنَةٌ لِلسَّمَاءِ فَإِذَا ذَهَبَتِ النُّجُومُ أَتَى السَّمَاءَ مَا تُوعَدُ وَأَنَا أَمَنَةٌ لأَصْحَابِي فَإِذَا ذَهَبْتُ أَتَى أَصْحَابِي مَا يُوعَدُونَ وَأَصْحَابِي أَمَنَةٌ لأُمَّتِي فَإِذَا ذَهَبَ أَصْحَابِي أَتَى أُمَّتِى مَا يُوعَدُونَ ».
إخوة الاسلام
إن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، هم – أبر الناس قلوباً، وأعمقهم علماً ،وأحسنهم خلقاً ،واليوم إن شاء الله نريد أن نقترب من أولئك الرجال الأبرار ، لنستقبل فيهم أروع نماذج البشرية ، ولنرى في سيرتهم اسمى ما عرفت البشرية من عظمة ونبل ورشاد، نقترب منهم لنرى إيمانهم ، وثباتهم ، وبطولاتهم ، وولاءهم لله ورسوله لنرى البذل الذي بذلوا ، والهول الذي احتملوا ، والفوز الذي أحرزوا ،نرى الدور الجليل الذي نهضوا به لتحرير البشرية كلها من وثنية الضمير ، وضياع المصير ،حقا ، إنهم فتية آمنوا بربهم ، فزادهم الله هدى ، واليوم إن شاء الله موعدنا مع صحابي جليل إنه الصحابي: ( بلال بن رباح )، أما نسبه ومولده : فهو بلال بن رباح الحبشي المؤذن، مولى أبي بكر الصديق ، اشتراه ثم أعتقه، وكان له خازنًا، ولرسول الله مؤذنًا، وكان صادق الإسلام، طاهر القلب. واسم أبيه رباح، واسم أمه حمامة. وقد ولد بعد حادث الفيل بثلاث سنين أو أقل، وكان رجلاً شديد الأدمة (شديد السمرة)، نحيفًا، طوالاً، أجنأ ، له شعر كثير، خفيف العارضين. ولم يكن يسمع كلمات المدح والثناء توجه إليه, وتغدق عليه, إلا ويحني رأسه ويغض طرفه, ويقول وعبراته على وجنتيه تسيل: “إنما أنا حبشي.. كنت بالأمس عبدا ،إنه عبد حبشي من أمة السود… جعلته مقاديره عبدا لأناس من بني جمح بمكة, حيث كانت أمه إحدى إمائهم وجواريهم.. وكان يعيش عيشة الرقيق, تمضي أيامه متشابهة قاحلة, لا حق له في يومه, ولا أمل له في غده..! ،ولقد بدأت أنباء محمد تنادي سمعه, حين أخذ الناس في مكة يتناقلونها, وحين كان يصغي إلى أحاديث ساداته وأضيافهم, سيما “أمية بن خلف” أحد شيوخ بني جمح القبيلة التي كان بلال أحد عبيدها.. لطالما سمع أمية وهو يتحدّث مع أصدقائه حينا, وأفراد قبيلته أحيانا عن الرسول حديثا يطفح غيظا, وغمّا وشرا.. وكانت أذن بلال تلتقط من بين كلمات الغيظ المجنون, الصفات التي تصور له هذا الدين الجديد.. وكان يحس أنها صفات جديدة على هذه البيئة التي يعيش فيها.. كما كانت أذنه تلتقط من خلال أحاديثهم الراعدة المتوعدة اعترافهم بشرف محمد وصدقه وأمانته..! ،أجل إنه ليسمعهم يعجبون, ويحارون, في هذا الذي جاء به محمد..! ويقول بعضهم لبعض: ما كان محمد يوما كاذبا. ولا ساحرا.. ولا مجنونا.. وإن لم يكن لنا بد من وصمه اليوم بذلك كله, حتى نصدّ عنه الذين سيسارعون إلى دينه..! سمعهم يتحدّثون عن أمانته.. عن وفائه.. عن رجولته وخلقه.. عن نزاهته ورجاحة عقله.. وسمعهم يتهامسون بالأسباب التي تحملهم على تحديّ وعداوته، تلك هي: ولاؤهم لدين آبائهم أولا. والخوف على مجد قريش ثانيا ،ذلك المجد الذي يفيئه عليها مركزها الديني, كعاصمة للعبادة والنسك في جزيرة العرب كلها ثم الحقد على بني هاشم, إن يخرج منهم دون غيرهم نبي ورسول.. وقد رُوي أن رسول الله وأبا بكر اعتزلا في غار، فبينما هما كذلك إذ مرّ بهما بلال وهو في غنم عبد الله بن جدعان، وبلال مُولَّد من مولدي مكة. وكان لعبد الله بمكة مائة مملوك مولّد، فلما بعث الله نبيه أمر بهم فأخرجوا من مكة إلا بلالاً يرعى عليه غنمه تلك. فأطلع رسول الله رأسه من ذلك الغار، فقال: “يا راعي، هل من لبن؟” فقال بلال: ما لي إلا شاة منها قوتي، فإن شئتما آثرتكما بلبنها اليوم. فقال رسول الله: “اِيت بها”. فجاء بها فدعا رسول الله بقعبه فاعتقلها رسول الله فحلب في القعب حتى ملأه فشرب حتى روي، ثم حلب حتى ملأه فسقى أبا بكر، ثم احتلب حتى ملأه فسقى بلالاً حتى روي، ثم أرسلها وهي أحفل ما كانت، ثم قال: “هل لك في الإسلام؟ فإني رسول الله”. فأسلم، وقال: “اكتم إسلامك”. ففعل وانصرف بغنمه وبات بها وقد أضعف لبنها، فقال له أهله: لقد رعيت مرعى طيبًا فعليك به. فعاد إليه ثلاثة أيام يستقيهما ويتعلم الإسلام، حتى علم المشركون بإسلامه، فقاموا بتعذيبه أشد العذاب. وقد كان له موقف ليس شرفا للإسلام وحده, وإن كان الإسلام أحق به, ولكنه شرف للإنسانية جميعا.. لقد صمد لأقسى ألوان التعذيب صمود الأبرار العظام. ولكان ما جعله الله مثلا على إن سواد البشرة وعبودية الرقبة لا ينالان من عظمة الروح اذا وجدت إيمانها, واعتصمت بباريها, وتشبثت بحقها.. لقد أعطى بلال درسا بليغا للذين في زمانه, وفي كل مكان, للذين على دينه وعلى كل دين.. درسا فحواه إن حريّة الضمير وسيادته لا يباعان بملء الأرض ذهبا, ولا بملئها عذابا..لقد وضع عريانا فوق الجمر, على إن يزيغ عن دينه، أو يزيف اقتناعه فأبى.. لقد جعل الرسول عليه الصلاة والسلام, والإسلام ، من هذا العبد الحبشي المستضعف أستاذا للبشرية كلها في فن احترام الضمير, والدفاع عن حريته وسيادته.. لقد كان ويخرجون به في الظهيرة التي تتحول الصحراء فيها إلى جهنم قاتلة.. فيطرحونه على حصاها الملتهب وهو عريان, ثم يأتون بحجر مستعر كالحميم ينقله من مكان ه بضعة رجال، ويلقون به فوق جسده وصدره.. ويتكرر هذا العذاب الوحشي كل يوم، حتى رقّت لبلال من هول عذابه بعض قلوب جلاديه، فرضوا آخر الأمر إن يخلوا سبيله, على إن يذكر آلهتهم بخير ولو بكلمة واحدة تحفظ لهم كبرياءهم, ولا تتحدث قريش أنهم انهزموا صاغرين أمام صمود عبدهم وإصراره.. ولكن حتى هذه الكلمة الواحدة العابرة التي يستطيع إن يلقيها من وراء قلبه, ويشتري بها حياته نفسه, دون إن يفقد إيمانه, ويتخلى عن اقتناعه.. حتى هذه الكلمة الواحدة رفض بلال إن يقولها. نعم لقد رفض إن يقولها, وصار يردد مكان ها نشيده الخالد :”أحد أحد” ،وفي سنن ابن ماجة :(عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ كَانَ أَوَّلَ مَنْ أَظْهَرَ إِسْلاَمَهُ سَبْعَةٌ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- وَأَبُو بَكْرٍ وَعَمَّارٌ وَأُمُّهُ سُمَيَّةُ وَصُهَيْبٌ وَبِلاَلٌ وَالْمِقْدَادُ فَأَمَّا رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فَمَنَعَهُ اللَّهُ بِعَمِّهِ أَبِى طَالِبٍ وَأَمَّا أَبُو بَكْرٍ فَمَنَعَهُ اللَّهُ بِقَوْمِهِ وَأَمَّا سَائِرُهُمْ فَأَخَذَهُمُ الْمُشْرِكُونَ وَأَلْبَسُوهُمْ أَدْرَاعَ الْحَدِيدِ وَصَهَرُوهُمْ فِى الشَّمْسِ فَمَا مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ إِلاَّ وَقَدْ وَاتَاهُمْ عَلَى مَا أَرَادُوا إِلاَّ بِلاَلاً فَإِنَّهُ قَدْ هَانَتْ عَلَيْهِ نَفْسُهُ فِى اللَّهِ وَهَانَ عَلَى قَوْمِهِ فَأَخَذُوهُ فَأَعْطَوْهُ الْوِلْدَانَ فَجَعَلُوا يَطُوفُونَ بِهِ فِى شِعَابِ مَكَّةَ وَهُوَ يَقُولُ أَحَدٌ أَحَدٌ. ) ،وفيه :(عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- « لَقَدْ أُوذِيتُ فِى اللَّهِ وَمَا يُؤْذَى أَحَدٌ وَلَقَدْ أُخِفْتُ فِى اللَّهِ وَمَا يُخَافُ أَحَدٌ وَلَقَدْ أَتَتْ عَلَىَّ ثَالِثَةٌ وَمَا لِىَ وَلِبِلاَلٍ طَعَامٌ يَأْكُلُهُ ذُو كَبِدٍ إِلاَّ مَا وَارَى إِبِطُ بِلاَلٍ ». ولقد طابت نفس بلال وسعدت حين سمع أبا بكر يعرض ثمن تحريره إذ كان اليأس من تطويع بلال قد بلغ في نفوسهم أشده ،ولأنهم كانوا من التجار, فقد أدركوا إن بيعه أربح لهم من موته.. باعوه لأبي بكر الذي حرّره من فوره، وأخذ بلال مكان ه بين الرجال الأحرار.. وحين كان الصدّيق يتأبط ذراع بلال منطلقا به إلى الحرية قال له أمية: خذه، فو اللات والعزى لو أبيت إلا إن تشتريه بأوقية واحدة لبعتكه بها.. وفطن أبو بكر لما في هذه الكلمات من مرارة اليأس وخيبة الأمل وكان حريّا بألا يجيبه.. ولكن لأن فيها مساسا بكرامة هذا الذي قد صار أخا له وندّا، أجاب أمية قائلا: والله لو أبيتم أنتم إلا مائة أوقية لدفعتها. وانطلق بصاحبه إلى رسول الله يبشره بتحريره.. وكان عيدا عظيما ،وفي صحيح البخاري : (عَنْ قَيْسٍ أَنَّ بِلاَلاً قَالَ لأَبِى بَكْرٍ إِنْ كُنْتَ إِنَّمَا اشْتَرَيْتَنِى لِنَفْسِكَ فَأَمْسِكْنِى ، وَإِنْ كُنْتَ إِنَّمَا اشْتَرَيْتَنِى لِلَّهِ فَدَعْنِى وَعَمَلَ اللَّهِ . )
أيها المسلمون
وتشاء الأقدار أن يقتل بلال بسيفه رأسا من رؤوس الكفر التي كانت سببا في تعذيبه ، واهانته ، ففي غزوة بدر ، وبينما المعركة تقترب من نهايتها, لمح أمية بن خلف” عبد الرحمن بن عوف” صاحب رسول الله, فاحتمى به, وطلب إليه أن يكون أسيره رجاء إن يخلص بحياته.. وقبل عبد الرحمن عرضه وأجاره, ثم سار به وسط العمعمة إلى مكان السرى. وفي الطريق لمح بلال فصاح قائلا: “رأس الكفر أميّة بن خلف.. لا نجوت إن نجا”. ورفع سيفه ليقطف الرأس الذي لطالما أثقله الغرور والكبر, فصاح به عبد الرحمن بن عوف:“أي بلال.. إنه أسيري”. أسير والحرب مشبوبة دائرة..؟ أسير وسيفه يقطر دما مما كان يصنع قبل لحظة في أجساد المسلمين..؟ لا.. ذلك في رأي بلال ضحك بالعقول وسخرية.. ولقد ضحك أمية وسخر بما فيه الكفاية.. سخر حتى لم يترك من السخرية بقية يدخرها ليوم مثل هذا اليوم, وهذا المأزق, وهذا المصير.. ورأى بلال أنه لن يقدر وحده على اقتحام حمى أخيه في الدين عبد الرحمن بن عوف, فصاح بأعلى صوته في المسلمين:“يا أنصار الله.. رأس الكفر أمية بن خلف, لا نجوت إن نجا”.. وأقبلت كوكبة من المسلمين تقطر سيوفهم المنايا, وأحاطت بأمية وابنه ولم يستطع عبد الرحمن بن عوف أن يصنع شيئا.. وألقى بلال على جثمان أمية الذي هوى تحت السيوف القاصفة نظرة طويلة, ثم هرول عنه مسرعا وصوته النديّ يصيح: “أحد.. أحد..” أما عن مكانة بلال بن رباح رضي الله عنه وفضله : فقد روى مسلم بسنده عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- لِبِلاَلٍ عِنْدَ صَلاَةِ الْغَدَاةِ « يَا بِلاَلُ حَدِّثْنِى بِأَرْجَى عَمَلٍ عَمِلْتَهُ عِنْدَكَ فِى الإِسْلاَمِ مَنْفَعَةً فَإِنِّى سَمِعْتُ اللَّيْلَةَ خَشْفَ نَعْلَيْكَ بَيْنَ يَدَىَّ فِى الْجَنَّةِ ». قَالَ بِلاَلٌ مَا عَمِلْتُ عَمَلاً فِى الإِسْلاَمِ أَرْجَى عِنْدِى مَنْفَعَةً مِنْ أَنِّى لاَ أَتَطَهَّرُ طُهُورًا تَامًّا فِى سَاعَةٍ مِنْ لَيْلٍ وَلاَ نَهَارٍ إِلاَّ صَلَّيْتُ بِذَلِكَ الطُّهُورِ مَا كَتَبَ اللَّهُ لِى أَنْ أُصَلِّىَ ). وروى البخاري بسنده : (عن جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ – رضى الله عنهما – قَالَ كَانَ عُمَرُ يَقُولُ أَبُو بَكْرٍ سَيِّدُنَا ، وَأَعْتَقَ سَيِّدَنَا . يَعْنِى بِلاَلاً. وكان بلال أول من أذَّن للصلاة، وهو مؤذِّن الرسول؛ عن زيد بن أرقم قال: قال رسول الله: “نعم المرء بلال، هو سيد المؤذنين، ولا يتبعه إلا مؤذن، والمؤذنون أطول الناس أعناقًا يوم القيامة”.
أقول قولي وأستغفر الله لي ولكم
الخطبة الثانية (الصحابي: بلال بن رباح)
الحمد لله رب العالمين .. اللهم لك الحمد على نعمة الإسلام والإيمان. ولك الحمد أن جعلتنا من أمة محمد عليه الصلاة والسلام.. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له . وأشهد أن محمدا عبده ورسوله.. نشهد أنه بلغ الرسالة وأدى الأمانة ونصح الأمة اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
أما بعد أيها المسلمون
وأما عن أثر الرسول صلى الله عليه وسلم في تربية الصحابي الجليل بلال بن رباح رضي الله عنه :فعن عبد الله بن محمد بن الحنفية قال: انطلقت أنا وأبي إلى صهرٍ لنا من الأنصار نعوده، فحضرت الصلاة، فقال لبعض أهله: يا جارية، ائتوني بوضوء لعلِّي أصلي فأستريح. قال: فأنكرنا ذلك عليه، فقال: سمعت رسول الله يقول: “قم يا بلال، فأرحنا بالصلاة”. لقد تربى بلال وتعلم في مدرسة النبوة، ورافق النبي كثيرًا، مما كان له الأثر الكبير في شخصيته . ولقد اكتشف النبي موهبته ومهارته وصوته النديّ، فأمره أن يؤذن، فكان أول مؤذن في الإسلام. وكان من أهم ملامح شخصية الصحابي بلال بن رباح رضي الله عنه :الصبر والثبات في سبيل الله : قال عبد الله بن مسعود : “كان أول من أظهر إسلامه سبعة: رسول الله ، وأبو بكر، وعمار، وأمه سمية، وصهيب، وبلال، والمقداد؛ فأما رسول الله فمنعه الله بعمه أبي طالب، وأما أبو بكر فمنعه الله بقومه، وأما سائرهم فأخذهم المشركون وأُلبسوا أدراع الحديد وصهروهم في الشمس، فما منهم أحد إلا وأتاهم على ما أرادوا إلا بلال، فإنه هانت عليه نفسه في الله، وهان على قومه فأخذوه فأعطوه الولدان، فجعلوا يطوفون به في شعاب مكة وهو يقول: أحد أحد”. وكان أميّة بن خلف يخرجه إذا حميت الظهيرة فيطرحه على ظهره في بطحاء مكة، ثم يأمر بالصخرة العظيمة على صدره، ثم يقول: لا يزال على ذلك حتى يموت أو يكفر بمحمد. فيقول وهو في ذلك: أحد أحد. ومن بعض مواقف الصحابي بلال بن رباح رضي الله عنه مع الرسول صلى الله عليه وسلم : روى البخاري بسنده، عن عبد الله بن أبي قتادة، عن أبيه قال: سرنا مع النبي ليلة، فقال بعض القوم: لو عَرَّسْتَ بنا يا رسول الله. قال: “أخاف أن تناموا عن الصلاة”. قال بلال: أنا أوقظكم، فاضطجعوا. وأسند بلال ظهره إلى راحلته فغلبته عيناه فنام، فاستيقظ النبي وقد طلع حاجب الشمس، فقال: “يا بلال، أين ما قلت؟” قال: ما ألقيت عليَّ نومة مثلها قطُّ. قال: “إن الله قبض أرواحكم حين شاء، وردها عليكم حين شاء، يا بلال، قُمْ فأذن بالناس بالصلاة”.وعن أبي سعيد الخدري ، عن بلال قال: قال رسول الله: “يا بلال، ألقِ الله فقيرًا ولا تلقه غنيًّا”. قال: قلت: وكيف لي بذلك يا رسول الله؟ قال: “إذا رزقت فلا تخبأ، وإذا سئلت فلا تمنع”. قال: قلت: وكيف لي بذلك يا رسول الله؟ قال: “هو ذاك وإلا فالنار”. ومن بعض مواقف الصحابي بلال بن رباح رضي الله عنه مع الصحابة رضوان الله عليهم : فمع أبي بكر : ما رواه البخاري (عَنْ سَهْلٍ – رضى الله عنه – قَالَ خَرَجَ النَّبِىُّ – صلى الله عليه وسلم – يُصْلِحُ بَيْنَ بَنِى عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ ، وَحَانَتِ الصَّلاَةُ ، فَجَاءَ بِلاَلٌ أَبَا بَكْرٍ – رضى الله عنهما – فَقَالَ حُبِسَ النَّبِىُّ – صلى الله عليه وسلم – فَتَؤُمُّ النَّاسَ قَالَ نَعَمْ إِنْ شِئْتُمْ . فَأَقَامَ بِلاَلٌ الصَّلاَةَ ، فَتَقَدَّمَ أَبُو بَكْرٍ – رضى الله عنه – فَصَلَّى ، فَجَاءَ النَّبِىُّ – صلى الله عليه وسلم – يَمْشِى فِى الصُّفُوفِ يَشُقُّهَا شَقًّا حَتَّى قَامَ فِى الصَّفِّ الأَوَّلِ ، فَأَخَذَ النَّاسُ بِالتَّصْفِيحِ . قَالَ سَهْلٌ هَلْ تَدْرُونَ مَا التَّصْفِيحُ هُوَ التَّصْفِيقُ . وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ – رضى الله عنه – لاَ يَلْتَفِتُ فِى صَلاَتِهِ ، فَلَمَّا أَكْثَرُوا الْتَفَتَ فَإِذَا النَّبِىُّ – صلى الله عليه وسلم – فِى الصَّفِّ ، فَأَشَارَ إِلَيْهِ مَكَانَكَ . فَرَفَعَ أَبُو بَكْرٍ يَدَيْهِ ، فَحَمِدَ اللَّهَ ، ثُمَّ رَجَعَ الْقَهْقَرَى وَرَاءَهُ وَتَقَدَّمَ النَّبِىُّ – صلى الله عليه وسلم – فَصَلَّى . ) ،ومع ابن عمر : روى مسلم بسنده عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- دَخَلَ الْكَعْبَةَ هُوَ وَأُسَامَةُ وَبِلاَلٌ وَعُثْمَانُ بْنُ طَلْحَةَ الْحَجَبِىُّ فَأَغْلَقَهَا عَلَيْهِ ثُمَّ مَكَثَ فِيهَا. قَالَ ابْنُ عُمَرَ فَسَأَلْتُ بِلاَلاً حِينَ خَرَجَ مَا صَنَعَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ جَعَلَ عَمُودَيْنِ عَنْ يَسَارِهِ وَعَمُودًا عَنْ يَمِينِهِ وَثَلاَثَةَ أَعْمِدَةٍ وَرَاءَهُ – وَكَانَ الْبَيْتُ يَوْمَئِذٍ عَلَى سِتَّةِ أَعْمِدَةٍ – ثُمَّ صَلَّى. وقد روى رضي الله عنه عن الرسول صلى الله عليه وسلم الكثير من الأحاديث ، ومن بعض الأحاديث التي رواها بلال بن رباح رضي الله عنه عن الرسول صلى الله عليه وسلم : روى ابن ماجه بسنده، عَنْ بِلاَلِ بْنِ رَبَاحٍ أَنَّ النَّبِىَّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ لَهُ غَدَاةَ جَمْعٍ « يَا بِلاَلُ أَسْكِتِ النَّاسَ ». أَوْ « أَنْصِتِ النَّاسَ ». ثُمَّ قَالَ « إِنَّ اللَّهَ تَطَوَّلَ عَلَيْكُمْ فِى جَمْعِكُمْ هَذَا فَوَهَبَ مُسِيئَكُمْ لِمُحْسِنِكُمْ وَأَعْطَى مُحْسِنَكُمْ مَا سَأَلَ ادْفَعُوا بِاسْمِ اللَّهِ ». وعن بلال قال: أذَّنت في غداة باردة، فخرج النبي فلم ير في المسجد أحدًا، فقال: “أين الناس؟” فقلت: حبسهم القُرُّ. فقال: “اللهم أذهب عنهم البرد”. قال: فلقد رأيتهم يتروحون في الصلاة.
أيها المسلمون
وعاش بلال مع رسول الله صلى الله عليه وسلم, يشهد معه المشاهد كلها, يؤذن للصلاة, ويحيي ويحمي شعائر هذا الدين العظيم الذي أخرجه من الظلمات إلى النور, ومن الرق إلى الحريّة.. وعلا شأن الإسلام ، وعلا معه شأن المسلمين, وكان بلال يزداد كل يوم قربا من قلب رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي كان يصفه بأنه:” رجل من أهل الجنة”.. لكن بلالا بقي كما هو كريما متواضعا, لا يرى نفسه إلا أنه:” الحبشي الذي كان بالأمس عبدا”..!!ذهب يوما يخطب لنفسه ولأخيه زوجتين فقال لأبيهما: “أنا بلال, هذا أخي عبدان من الحبشة.. كنا ضالين فهدانا الله.. وكنا عبدين فأعتقنا الله.. إن تزوّجونا فالحمد لله.. وإن تمنعونا فالله أكبر..” وذهب الرسول إلى الرفيق الأعلى راضيا مرضيا, ونهض بأمر المسلمين من بعده خليفته أبو بكر الصديق.. وذهب بلال إلى خليفة رسول الله يقول له:” يا خليفة رسول الله.. إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: أفضل عمل لمؤمن الجهاد في سبيل الله”.. فقال له أبو بكر: فما تشاء يا بلال..؟ قال: أردت إن أرابط في سبيل الله حتى أموت..قال أبو بكر ومن يؤذن لنا؟ قال بلال وعيناه تفيضان من الدمع, إني لا أؤذن لأحد بعد رسول الله.قال أبو بكر: بل ابق وأذن لنا يا بلال.. قال بلال: إن كنت أعتقتني لأكون لك فليكن لك ما تريد. وإن كنت أعتقتني لله فدعني وما أعتقتني له.. قال أبو بكر: بل أعتقتك لله يا بلال.. ويختلف الرواة, فيروي بعضهم أنه سافر إلى الشام حيث بقي فيها مجاهدا مرابطا. ويروي بعضهم الآخر, أنه قبل رجاء أبي بكر في أن يبقى معه بالمدينة, فلما قبض وولي عمر الخلافة استأذنه وخرج إلى الشام. على أية حال, فقد نذر بلال بقية حياته وعمره للمرابطة في ثغور الإسلام , مصمما إن يلقى الله ورسوله وهو على خير عمل يحبانه. ولم يعد يصدح بالأذان بصوته الشجي الحفيّ المهيب, ذلك أنه لم ينطق في أذانه “أشهد أن محمدا رسول الله” حتى تجيش به الذميات فيختفي صوته تحت وقع أساه, وتصيح بالكلمات دموعه وعبراته. وكان آخر أذان له أيام زار أمير المؤمنين عمر وتوسل المسلمون إليه أن يحمل بلالا على أن يؤذن لهم صلاة واحدة. ودعا أمير المؤمنين بلال, وقد حان وقت الصلاة ورجاه أن يؤذن لها. وصعد بلال وأذن.. فبكى الصحابة الذين كانوا أدركوا رسول الله وبلال يؤذن له.. بكوا كما لم يبكوا من قبل أبدا.. وكان عمر أشدهم بكاء.. وأما عن أثر بلال بن رباح رضي الله عنه في الآخرين :فقد روى عنه أحاديثَ النبي أكثرُ من عشرين من الصحابة والتابعين، فممن روى عنه من الصحابة: أسامة بن زيد، والبراء بن عازب، وطارق بن شهاب بن عبد شمس، وعبد الله بن عمر بن الخطاب، وكعب بن عجرة، ووهب بن عبد الله. وممن روى عنه من التابعين: الأسود بن يزيد بن قيس، وشهر بن حوشب، وعبد الرحمن بن أبي ليلى، وغيرهم. ومن بعض كلمات بلال بن رباح الخالدة : كان يقول عن نفسه تواضعًا: “إنما أنا حبشي، كنت بالأمس عبدًا”. وعن هند امرأة بلال قالت: كان بلال إذا أخذ مضجعه قال: “اللهم تجاوز عن سيئاتي، واعذرني بعلاتي”. وأما عن وفاة بلال بن رباح رضي الله عنه : فلما احتضر بلال نادت امرأته: واحزاناه! فقال: “واطرباه! غدًا ألقى الأحبة محمدًا وحزبَه”. وقد مات بدمشق سنة عشرين، فدفن عند الباب الصغير في مقبرة دمشق، وهو ابن بضع وستين سنة. البشر صلابة في الوقوف إلى جانب العقيدة والاقتناع.
الدعاء