خطبة عن ( الرسول قدوتنا )
ديسمبر 7, 2016خطبة عن قوله تعالى ( لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ)
ديسمبر 11, 2016الخطبة الأولى (العِبادَةُ في الهَرْجِ كَهِجْرَةٍ إليَّ)
الحمد لله رب العالمين . اللهم لك الحمد على نعمة الإسلام والايمان .ولك الحمد أن جعلتنا من أمة محمد عليه الصلاة والسلام. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له . وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
أما بعد أيها المسلمون
رَوى مُسْلمٌ في صحيحه : (عن مَعْقِلِ بنِ يَسار ٍ رضي الله عنه : أن َّ رسولَ اللهِ صلَّى الله عليه وسلَّم قال « الْعِبَادَةُ فِي الْهَرْجِ كَهِجْرَةٍ إِلَىَّ ».
إخوة الإسلام
موعدنا اليوم -إن شاء الله- مع هذا الحديث النبوي الشريف نتعرف على معانيه وما يدعو إليه ، وبداية ، فلقد أخبرنا نبيُّنا – صلى الله عليه وسلم – وهو – صلى الله عليه وسلم – الصادق المصدوق الذي لا ينطق عن الهوى – عن وقوع الهَرْج في آخر الزمان. ففي الصحيحين البخاريُّ ومسلمٌ : (أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ – صلى الله عليه وسلم – « يَتَقَارَبُ الزَّمَانُ وَيَنْقُصُ الْعَمَلُ ، وَيُلْقَى الشُّحُّ وَيَكْثُرُ الْهَرْجُ » . قَالُوا وَمَا الْهَرْجُ قَالَ « الْقَتْلُ ، الْقَتْلُ » . وأخرج البخاريُّ ومسلمٌ : (جَلَسَ عَبْدُ اللَّهِ وَأَبُو مُوسَى فَتَحَدَّثَا فَقَالَ أَبُو مُوسَى قَالَ النَّبِىُّ – صلى الله عليه وسلم – « إِنَّ بَيْنَ يَدَىِ السَّاعَةِ أَيَّامًا يُرْفَعُ فِيهَا الْعِلْمُ ، وَيَنْزِلُ فِيهَا الْجَهْلُ ، وَيَكْثُرُ فِيهَا الْهَرْجُ ، وَالْهَرْجُ الْقَتْلُ » ، وأخرج مسلمٌ عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ قَالَ ،قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- « وَالَّذِى نَفْسِى بِيَدِهِ لاَ تَذْهَبُ الدُّنْيَا حَتَّى يَأْتِيَ عَلَى النَّاسِ يَوْمٌ لاَ يَدْرِى الْقَاتِلُ فِيمَ قَتَلَ وَلاَ الْمَقْتُولُ فِيمَ قُتِلَ ». فَقِيلَ كَيْفَ يَكُونُ ذَلِكَ قَالَ « الْهَرْجُ. الْقَاتِلُ وَالْمَقْتُولُ فِي النَّارِ ». وأخرج مالك في الموطأ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَابِرِ بْنِ عَتِيكٍ أَنَّهُ قَالَ جَاءَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ فِي بَنِى مُعَاوِيَةَ – وَهِىَ قَرْيَةٌ مِنْ قُرَى الأَنْصَارِ – فَقَالَ هَلْ تَدْرُونَ أَيْنَ صَلَّى رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- مِنْ مَسْجِدِكُمْ هَذَا فَقُلْتُ لَهُ نَعَمْ وَأَشَرْتُ لَهُ إِلَى نَاحِيَةٍ مِنْهُ فَقَالَ هَلْ تَدْرِى مَا الثَّلاَثُ الَّتِي دَعَا بِهِنَّ فِيهِ فَقُلْتُ نَعَمْ. قَالَ فَأَخْبِرْنِي بِهِنَّ. فَقُلْتُ دَعَا بِأَنْ لاَ يُظْهِرَ عَلَيْهِمْ عَدُوًّا مِنْ غَيْرِهِمْ وَلاَ يُهْلِكَهُمْ بِالسِّنِينَ فَأُعْطِيَهُمَا وَدَعَا بِأَنْ لاَ يَجْعَلَ بَأْسَهُمْ بَيْنَهُمْ فَمُنِعَهَا. قَالَ صَدَقْتَ. قَالَ ابْنُ عُمَرَ فَلَنْ يَزَالَ الْهَرْجُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ). وفي الصحيحين : (عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ قَالَ ،قَالَ رَسُولُ اللَّهِ – صلى الله عليه وسلم – « سَتَكُونُ فِتَنٌ الْقَاعِدُ فِيهَا خَيْرٌ مِنَ الْقَائِمِ ، وَالْقَائِمُ فِيهَا خَيْرٌ مِنَ الْمَاشِي ، وَالْمَاشِي فِيهَا خَيْرٌ مِنَ السَّاعِي ، مَنْ تَشَرَّفَ لَهَا تَسْتَشْرِفْهُ ، فَمَنْ وَجَدَ فِيهَا مَلْجَأً أَوْ مَعَاذًا فَلْيَعُذْ بِهِ » . وأخرج أحمد في مسنده – بسند ضعيف – عن عمرو بن وَابِصة الأسدي، عن أبيهِ، قال: إني بالكوفة في داري، إذ سمعتُ على باب الدار: السلام عليكم، أأَلِجُ؟ قلت: عليكم السلام، فَلِجْ، فلما دخل، فإذا هو عبدالله بن مسعود، قلت: يا أبا عبدالرحمن، أية ساعة زيارة هذه؟ وذلك في نحر الظهيرة، قال: طال عليَّ النهار، فذكرتُ مَن أتحدث إليه، قال: فجعل يحدثني عن رَسُولِ الله – صلى الله عليه وسلم – وأحدثه، قال: ثم أنشأَ يحدثني، قال: سمعت رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: (( تكون فتنة: النائم فيها خير من المضطَجِع، والمضطَجِعُ فيها خير من القاعد، والقاعد فيها خير من القائم، والقائم فيها خير من الماشي، والماشي خير من الراكب، والراكب خير من المُجْرِي، قتلاها كلها في النار))، قال: قلتُ: يا رسول الله، ومتى ذلك؟ قال: ((ذلك أيامَ الهَرْج))، قلتُ: ومتى أيام الهَرْج؟ قال: ((حين لا يَأمَنُ الرجلُ جليسَه))، قال: قلتُ: فما تأمرني إن أدركت ذلك؟ قال: ((اكْفُفْ نفسَك ويدك، وَادْخُلْ دارَك))، قال: قلتُ: يا رسول الله، أرأيتَ إن دخل رجل عليَّ داري؟ قال: ((فَادْخُلْ بيتَك))، قال: قلتُ: أفرأيتَ إن دخل عليَّ بيتي؟ قال: ((فَادْخُلْ مسجدَك، واصنع هكذا – وقَبَض بيمينِه على الكوعِ – وقل: ربي الله، حتى تموت على ذلك))
إخوة الإسلام
هذا هو كلام المعصوم – صلى الله عليه وسلم – الذي لا يَنطِق عن الهوى، فيجب علينا أن نصدِّقه – صلى الله عليه وسلم – في كل كلمة ولفظة يقولها، فقد قال تعالى: ﴿ وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى * مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى * وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى * عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى ﴾ [النجم: 1 – 5].وقد أخبر النبي – صلى الله عليه وسلم – أن العبادة في زمن الهَرْج لها أجر عظيم، وثواب جزيل من الله تعالى أحكم الحاكمين؛ فقال صلى الله عليه وسلم كما في الحديث المتقد -: ((العبادة في الهَرْج كهجرة إليَّ)).فيجب علينا أن نستبصر بكلامه – صلى الله عليه وسلم – ونستهدي بهَدْيه – صلى الله عليه وسلم – لنكونَ من الفائزين في الدنيا، الناجين الرابحين في الآخرة. والهرج كما قال أهل العلم ومنهم الإمام النووي رحمه الله في شرح الحديث، قال : ( الهرج هو الفتنة وأيام الفتن واختلاط أمور الناس، كذلك في حال القتل والحرب، وكذلك في حال الخوف والذعر، وفي حال اختلاط أمور الناس من الفوضى الاقتصادية أو الفوضى الاجتماعية، أو الفوضى في الفتوى، ففي زمن الهرج والفتن تعم الفوضى بحيث لا تنتظم الأمور ، ويكون الناس في أمرٍ مريج، فالذي يجمع قلبه على ربه، في حال اختلاط أمور الناس وفي حال الخوف والذعر وفي حال الفوضى والاضطراب ، وفي حال اختلاط الأمور وفي حال اضطرابها، في حال الخفاء والجهالة من كثير من الناس لدينهم، تكون العبادة في هذا الجو في هذه البيئة في هذه الأوساط في هذه الحال (كهجرةٍ إلي)، ومعلوم أجر الهجرة إلى النبي صلى الله عليه وسلم عظيم ، فالذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم وأهليهم، والذين تركوا البلاد والأهل والمال، وتركوا الوطن لله، وخرجوا إلى مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم، كيف كان أجرهم؟، فهؤلاء الذين أتعبوا من بعدهم، فلا يصل إلى درجتهم أحد مما بعدهم ولا هجرة بعد الفتح قال تعالى( لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ ) الحديد: من الآية10 . والهجرة بهذا الأجر العظيم ليست فقط من بلاد الكفر إلى بلد الإسلام، وإنما إلى النبي عليه الصلاة والسلام، ولذلك قال (كهجرةٍ إلي)، فالعبادة في الهرج في فضلها وأجرها ذات ثواب عظيم، لمن ؟ لهذا الإنسان الذي عبد الله تعالى في زمن الفتن، في زمن اختلاط الأمور، في زمن ثوران الشهوات والغرائز، في زمن خفاء أمر الحلال، وخفاء كثيرٍ من الأحكام على الناس، ولكنه يعبد ربه ويعرف دينه ولذلك فهو يتمكن بالعلم الذي معه، في وقت الاضطراب والجهل والخفاء، يتمكن به من معرفة الله تعالى وعبادته، والناس في حال الفتن و الاضطراب ينشغلون عن العبادة، ويشتغلون بأنفسهم، تطيش أحلامهم تغيب عقولهم، ويعيشون في غفلة، و”قال القرطبي: إن الفتن والمشقَّة البالغة، ستقع حتى يَخِفَّ أمر الدين، ويَقِلَّ الاعتناء بأمره، ولا يَبْقَى لأحد اعتناء إلا بأمر دنياه ومعاشِه نفسِه، وما يتعلق به؛ ومن ثَمَّ عَظُم قدرُ العبادة أيام الفتنة”. وقال القرطبي: المتمسك في ذلك الوقت، والمنقطع إليها، المنعزل عن الناس، أجرُه كأجر المهاجر إلى النبيِّ – صلى الله عليه وسلم – لأنه ناسبه من حيث إن المهاجر فرَّ بدينه ممن يصده عنه للاعتصام بالنبيِّ – صلى الله عليه وسلم – وكذا هذا المنقطع للعبادة فرَّ من الناس بدينه إلى الاعتصام بعبادة ربه، فهو في الحقيقة قد هاجر إلى ربه، وفرَّ من جميع خلقه”.
أيها المسلمون
نعم في أَوقَاتِ الفِتَنِ، تَعظُمُ الصَّوَارِفُ وَتَكثُرُ المُلهِيَاتُ، وَتَشتَدُّ غُربَةُ الدِّينِ وَيَغفُلُ النَّاسُ وَيَذهَلُونَ، وَيُصرَفُونَ عَن رَبِّهِم وَقَد يُخذَلُونَ، وَتَعظُمُ إِذْ ذَاكَ حَاجَتُهُم إِلى مَا يُعِيدُ إِلى قُلُوبِهِم سَكَنَهَا، وَيُضطَرُّونَ إِلى مَا يَمنَحُهَا هُدُوءَهَا وَيجلِبُ إِلَيهَا طُمَأنِينَتَهَا وَرَاحَتَهَا، وَلَيسَ ذَاكَ إِلاَّ في كَثرَةِ عِبَادَتِهِم لِرَبِّهِم وَإِقبَالِهِم عَلَيهِ، وَمَا أَقَلَّ الرِّجَالَ العَابِدِينَ حِينَئِذٍ وَمَا أَعَزَّ وُجُودَهُم! وَمَا أَمَرَّ تَجَرُّعَهُم لِلصَّبرِ وَأَشَدَّ قَبضِهِم عَلَى الجَمرِ، وَمَن كَانَ مِن أُولَئِكَ القِلَّةِ، فَهُوَ المُبشَرُ بِقَولِ الحَبِيبِ عليه الصلاة والسلام لأَصحَابِهِ: «إِنَّ مِن وَرَائِكُم أَيَّامًا الصَّبرُ فِيهِنَّ مِثلُ القَبضِ عَلَى الجَمرِ، لِلعَامِلِ فِيهِنَّ مِثلُ أَجرِ خَمسِينَ رَجُلاً مِنكُم» (رَوَاهُ التِّرمِذِيُّ وَأَبُو دَاوُدَ وَصَحَّحَهُ الأَلبَانيُّ). فالعبادة في أوقات الغفلة لها ميزة، ولذلك كان القيام في هدئة الليل والناس نائمون فيه ميزة، وأيضاً استحب كثير من السلف إحياء ما بين المغرب والعشاء بصلاة النافلة وذكر الله، لأنه من أوقات الغفلة عند الناس، فالمتمسك لطاعة الله، إذا قصّر فيها الناس وشغلوا عنها كالكّار بعد الفار، فيكون الذي يطيع ربه في هذه الحال له ثواب كثواب الذي يكر في الغزو بعد أن فر الناس من أرض المعركة، ووجه الشبه بين الهجرة إلى رسول الله تعالى و بين العبادة في أيام الفتن: أن المهاجر قد فرَّ بدينه من دار الكفر إلى دار الإيمان، والمتعبد في الهرج قد اعتصم بعبادة ربه من الفتن، وتمسَّك بدينه، واتبع ما يحبه الله ويرضاه، وتجنب ما يسخطه، ونبذ ما يكون عليه الناس في زمن الفتن من اتباع الأهواء والآراء المنحرفة، التي تصد عن دين الله. والفائدة الأكبر للعبادة في الفتن زيادة الإيمان، ورسوخ اليقين الذي يظهر أثره على المتعبد.فعَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ « بَادِرُوا بِالأَعْمَالِ فِتَنًا كَقِطَعِ اللَّيْلِ الْمُظْلِمِ يُصْبِحُ الرَّجُلُ مُؤْمِنًا وَيُمْسِى كَافِرًا أَوْ يُمْسِى مُؤْمِنًا وَيُصْبِحُ كَافِرًا يَبِيعُ دِينَهُ بِعَرَضٍ مِنَ الدُّنْيَا ». أخرجه مسلم والعبادة – المنوه بفضلها في زمن الهرج – يدخل فيها جميع أنواع العبادة : ومنها :إغاثة الملهوف عبادة ، و السعي في قضاء حاجة المحتاج عبادة، وتأمين بيت لأسرة متضررة عبادة، والمحافظة على مال أخيك المسافر عبادة، والتعفف عن السؤال عبادة، وإيثار إخوتك الأكثر تضررا عبادة ، والإمساك عن الشر وحده عبادة. ففي صحيح البخاري (حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ أَبِى بُرْدَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ عَنِ النَّبِىِّ – صلى الله عليه وسلم – قَالَ « عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ صَدَقَةٌ » . فَقَالُوا يَا نَبِيَّ اللَّهِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ قَالَ « يَعْمَلُ بِيَدِهِ فَيَنْفَعُ نَفْسَهُ وَيَتَصَدَّقُ » . قَالُوا فَإِنْ لَمْ يَجِدْ قَالَ « يُعِينُ ذَا الْحَاجَةِ الْمَلْهُوفَ » . قَالُوا فَإِنْ لَمْ يَجِدْ . قَالَ « فَلْيَعْمَلْ بِالْمَعْرُوفِ ، وَلْيُمْسِكْ عَنِ الشَّرِّ فَإِنَّهَا لَهُ صَدَقَةٌ » . فالعبادة لفظ عام يشمل كل عمل صالح سبقته نية خالصة لله تعالى، وفي الأزمات لا بد من العبادة:
فالموظف العفيف المتعفف يعبد الله تعالى حينما يخدم الناس و ييسر مصالحهم لوجه الله تعالى فلا يمنعهم حقهم و لا يبتزهم لأخذ الرشوة. والمحامي يعبد الله تعالى حينما يدل موكله على الطرق السليمة المشروعة لموكله، كي يصل إلى حقه، فإذا كان الموكل على باطل ذكره بالله تعالى و باليوم الآخر. والقاضي يعبد الله تعالى حينما يبذل جهده لمعرفة الحق فيحكم به بجرأة و قوة لا يخش في الله لومة لائم. والضابط الشريف يعبد الله تعالى حينما يدافع عن المدنيين فيحمي مالهم و يصون عرضهم و يحافظ على ممتلكاتهم ، لا يتجاوز و لا يتعدى. والتاجر الصدوق يعبد الله تعالى حينما ينصح زبائنه ، و يحقق ربحا معقولا دون احتكار أو غش. والعامل يعبد الله تعالى حينما يصون الأمانة و يحافظ على ما أودعه إياه صاحب العمل. فالعامل و التاجر، المحامي و القاضي ، الضابط و المواطن ، الراعي و الرعية كل هؤلاء مطالبون بالعبادة ، [ العبادة في الهرج كهجرة إليّ. ] فالمصلي في محرابه و العامل في معمله و التاجر في متجره يعبدون الله تعالى حينما يتقنون أعمالهم و يصححون نياتهم. فالناس إذا كثرت الطاعة فيهم وكثر المقتدون والمقتدى بهم سهل أمر الطاعة، ولكن إذا كثرت الغفلة وصار الجهل مسيطر، وترك الطاعات هو العنوان، وقلة المقتدى به وقلة العاملين، فإن الأجر عندذلك يكون عظيم، ففي سنن الترمذي « بَلِ ائْتَمِرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَتَنَاهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ حَتَّى إِذَا رَأَيْتَ شُحًّا مُطَاعًا وَهَوًى مُتَّبَعًا وَدُنْيَا مُؤْثَرَةً وَإِعْجَابَ كُلِّ ذِي رَأْىٍ بِرَأْيِهِ فَعَلَيْكَ بِخَاصَّةِ نَفْسِكَ وَدَعِ الْعَوَامَّ فَإِنَّ مِنْ وَرَائِكُمْ أَيَّامًا الصَّبْرُ فِيهِنَّ مِثْلُ الْقَبْضِ عَلَى الْجَمْرِ لِلْعَامِلِ فِيهِنَّ مِثْلُ أَجْرِ خَمْسِينَ رَجُلاً يَعْمَلُونَ مِثْلَ عَمَلِكُمْ ». قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ وَزَادَنِي غَيْرُ عُتْبَةَ قِيلَ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَجْرُ خَمْسِينَ رَجُلاً مِنَّا أَوْ مِنْهُمْ قَالَ « لاَ بَلْ أَجْرُ خَمْسِينَ مِنْكُمْ ».
أيها المسلمون
واعلموا أن المنفرد بالطاعة عن أهل الغفلة ،قد يدفع البلاء عنهم، قال بعض السلف : ذاكرُ الله في الغافلين كمثل الذي يحمي الفئة المنهزمة، ولولا من يذكر الله في غفلة الناس لهلك الناس. ولنعلم أن الله تعالى يدفع بالرجل الصالح عن أهله، وولده وذريته ومن حوله، فقد يكون في العائلة واحد والآخرون غافلون، عابد والآخرون في غيهم سادرون، صاحب علمٍ والآخرون في جهلهم يعمهون، وهكذا يتفرد هذا الواحد بالعلم والعبادة، حينما انشغل من حوله وغفلوا عن الطاعة، ونحن في هذا الزمان نعيش أزمات متعددة، فهذه أزمة اقتصادية، وهذه أزمة صحية، وهذه أزمة فتنٍ وتغلّب للعدو، وكثير من الناس إذا رأوا غلبة سوق النفاق وارتفاع ألوية أهل الكفر يئسوا، وقالوا فيم العمل ؟ بل وربما ساروا في تيار الركب الذي هو مشابهة الغالب والذي يسيطر على الأمور في الظاهر، وهذه يا أيها الأخوة من أشد حالات الكرب التي يمر بها أهل الإسلام عندما يقول الواحد من الناس: لماذا أمر الدين اليوم في حال ضعفٍ ولماذا صار أمر أهل الإسلام في حال هزيمة، ولماذا هذا الذل المضروب ولماذا هذا الضعف الشامل، وعند ذلك يحدث الاحباط في المعنويات، والانصراف عن العبادات، والتولي عن العلم، والانشغال عن الطاعة، وخصوصاً إذا رافق هذا الجو المشحون بالهزيمة وغلبة العدو في الظاهر من أهل الكفر والنفاق إذا صاحبه جاذبية المال والانشغال بالشهوات وثوران الغرائز وعموم المحرمات وانفتاح أبواب المحظورات. وعند ذلك يرى المؤمن من خلال غيوم الغفلة نور الإيمان، ويتوجه ببصيرته للواحد الديان، ولا يهمه حينئذٍ أن يرى حوله كثيراً من العابدين أو قليلا، لأنه يريد أن يعبد ربه حتى يأتيه اليقين،
أقول قولي وأستغفر الله لي ولكم
الخطبة الثانية (العِبادَةُ في الهَرْجِ كَهِجْرَةٍ إليَّ)
الحمد لله رب العالمين . اللهم لك الحمد على نعمة الإسلام والايمان .ولك الحمد أن جعلتنا من أمة محمد عليه الصلاة والسلام. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له . وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
أما بعد أيها المسلمون
قد يَفهَمُ بَعضُ النَّاسِ أَنَّ الهِجرَةَ في أَزمِنَةِ الفِتَنِ، هِيَ اعتِزَالُ النَّاسِ وَمُصَارَمَتُهُم وَالانصِرَافُ الكُلِّيُّ عَنهُم، وَلُزُومُ المَسَاجِدِ أَوِ البُيُوتِ لِصَلاةٍ أَو ذِكرٍ أَو قِرَاءَةِ قُرآنٍ أَو دُعَاءٍ، وَوَاللهِ إِنَّ ذَلِكَ لَكَائِنٌ وَمَشرُوعٌ في زَمَنٍ مَا، حَيثُ قَالَ عليه الصلاة والسلام فِيمَا رَوَاهُ البُخَارِيُّ وَغَيرُهُ: «يُوشِكُ أَن يَكُونَ خَيرَ مَالِ المُسلِمِ غَنَمٌ يَتَّبِعُ بها شَعَفَ الجِبَالِ وَمَوَاقِعَ القَطرِ، يَفِرُّ بِدِينِهِ مِنَ الفِتَنِ» غَيرَ أَنَّ هَذَا لَيسَ بِأَفضَلَ وَلا أَكثَرَ أَجرًا مِمَّن يُخَالِطُ النَّاسَ وَيَصبِرُ عَلَى أَذَاهُم، وَيَسعَى في نَفعِهِم وَتَوجِيهِهِم وَتَعلِيمِهِمُ الخَيرَ وَدِلالَتِهِم عَلَيهِ، وَيَكُونُ بِقِيَامِهِ بِأَمرِ اللهِ بَينَهُم خَيرَ قُدوَةٍ لَهُم وَأُسوَةٍ، فَعَن أَبي سَعِيدٍ الخُدرِيِّ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَجُلٌ: “أَيُّ النَّاسِ أَفضَلُ يَا رَسُولَ اللهِ؟” قَالَ: «مُؤمِنٌ يُجَاهِدُ بِنَفسِهِ وَمَالِهِ في سَبِيلِ اللهِ»، قَالَ: “ثم مَن؟” قَالَ: «ثم رَجُلٌ مُعتَزِلٌ في شِعبٍ مِنَ الشِّعَابِ يَعبُدُ رَبَّهُ» وَفي رِوَايَةٍ: «يَتَّقِي اللهَ وَيَدَعُ النَّاسَ مِن شَرِّهِ» (رَوَاهُ البُخَارِيُّ وَمُسلِمٌ وَغَيرُهُمَا).
نَعَم أَيُّهَا المُسلِمُونَ: حِينَ تَستَحكِمُ الغُربَةُ في زَمَانٍ أَو مَكَانٍ مَا، وَيَخَافُ المُؤمِنُ عَلَى نَفسِهِ الفِتَنَ وَلا يَقوَى عَلَى المُدَافَعَةِ وَلا يَصبِرُ عَلَى المُجَاهَدَةِ، فَلا سَبِيلَ لَهُ لِلنَّجَاةِ حِينَئِذٍ إِلاَّ أَن يَعتَزِلَ، أَمَّا وَالإِسلامُ قَائِمٌ وَمَا زَالَ لأَهلِهِ اجتِمَاعٌ، وَفِيهِم مَن يَحمِلُ الحَقَّ وَيُبَيِّنُ لَهُمُ الطَّرِيقَ، فَإِنَّ السَّبِيلَ -وَإِن كَثُرَتِ الفِتَنُ-اعتِصَامُ الجَمِيعِ بِحَبلِ اللهِ، وَبَقَاؤُهُم مُتَواصِينَ عَلَى دِينِ اللهِ، وَالجِدُّ فِيمَا يَنفَعُ النَّاسَ وَيُثَبِّتُهُم عَلَى الحَقِّ وَيُلزِمُهُمُ الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ، وَكُلُّ إِنسَانٍ يَعرِفُ مِن نَفسِهِ مَا جُبِلَت عَلَيهِ وَمَا تُطِيقُهُ وَتَصبِرُ عَلَيهِ، فَمَن أَطَاقَ طُولَ القِيَامِ في الأَسحَارِ وَكَثرَةَ الصَّلاةِ فَلْيَفعَلْ، وَمَن فُتِحَ لَهُ في البَذلِ وَالصَّدَقَةِ فَلْيَلزَمْ، وَمَن سَهُلَت عَلَيهِ قِرَاءَةُ كِتَابِ رَبِّهِ وَانصَرَفَ إِلى تِلاوَتِهِ فَلْيَستَكثِرْ، وَمَن كَانَ مِن أَهلِ العِلمِ أَوِ الدَّعوَةِ فَلْيَصبِرْ، وَذِكرُ اللهِ بَابٌ عَظِيمٌ لِمَن أُلهِمَهُ، وَصِيَامُ النَّافِلَةِ بَابٌ لِمَن قَدِرَ عَلَيهِ، وَنَفعُ النَّاسِ عِبَادَةٌ وَكَفُّ الأَذَى عَنهُم صَدَقَةٌ، وَالمَقصُودُ أَلاَّ يَنقَطِعَ المُؤمِنُ مِنَ العِبَادَةِ وَيَنجَرِفَ مَعَ الفِتَنِ وَتَزِلَّ بِهِ القَدَمُ، فَيَكُونَ مِمَّن قَالَ اللهُ سبحانه فِيهِم:
{وَمِنَ النَّاسِ مَن يَعبُدُ اللهَ عَلَى حَرفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيرٌ اطمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتهُ فِتنَةٌ انقَلَبَ عَلَى وَجهِهِ خَسِرَ الدُّنيَا وَالآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الخُسرَانُ المُبِينُ} [الحج:11]. أَلا فَاتَّقُوا اللهَ تعالى وَأَكثِرُوا مِنَ الطَّاعَاتِ وَتَزَوَّدُوا مِنَ البَاقِيَاتِ الصَّالِحَاتِ، وَأَخلِصُوا للهِ وَكُونُوا لَهُ عَابِدِينَ، فَإِنَّكُم في زَمَنٍ تَتَوَالى فِتَنُهُ وَتَنتَشِرُ انتِشَارَ النَّارِ في الهَشِيمِ، وَلا مَنجَأَ مِن ذَلِكَ وَلا مَلجَأَ إِلاَّ المُسَارَعَةُ إِلى الأَعمَالِ الصَّالِحَةِ وَاتِّخَاذُهَا زَادًا لِلمَعَادِ، فعَن أُمِّ سَلَمَةَ رضي الله عنها قَالَت: “استَيقَظَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم لَيلَةً فَزِعًا يَقُولُ: «سُبحَانَ اللهِ! مَاذَا أُنزِلَ اللَّيلَةَ مِنَ الخَزَائِنِ، وَمَاذَا أُنزِلَ مِنَ الفِتَنِ، مَن يُوقِظُ صَوَاحِبَ الحُجُرَاتِ لِكَي يُصَلِّينَ؟ رُبَّ كَاسِيَةٍ في الدُّنيَا عَارِيَةٍ في الآخِرَةِ»” (أَخرَجَهُ البُخَارِيُّ). وَعَن عَبدِ اللهِ بنِ عَمرٍو رضي الله عنهما قَالَ: “بَينَمَا نَحنُ حَولَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم إِذْ ذَكَرَ الفِتنَةَ فَقَالَ”: «إِذَا رَأَيتُمُ النَّاسَ قَد مَرِجَت عُهُودُهُم وَخَفَّت أَمَانَاتُهُم وَكَانُوا هَكَذَا» -وَشَبَّكَ بَينَ أَصَابِعِهِ- قَالَ: “فَقُمتُ إِلَيهِ فَقُلتُ: كَيفَ أَفعَلُ عِندَ ذَلِكَ جَعَلِني اللهُ فِدَاكَ؟” قَالَ: «اِلزَمْ بَيتَكَ، وَابكِ عَلَى نَفسِكَ، وَاملِكْ عَلَيكَ لِسَانَكَ، وَخُذْ مَا تَعرِفُ وَدَعْ مَا تُنكِرُ، وَعَلَيكَ بِأَمرِ خَاصَّةِ نَفسِكَ وَدَعْ عَنكَ أَمرَ العَامَّةِ» (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائيُّ وَصَحَّحَهُ الأَلبَانيُّ).
أيها المسلمون
ونحن في زمن الفتن والهرج ندعوكم إِلى الثباتِ على طاعةِ الله تعالى ونَدْعُو الى الالتزامِّ التامِّ بالشَّرعِ غلى التكاتُفِ والتعاضُدِ والتعاوُنِ على طاعةِ الله تعالى والاعتصامِ بِحَبْلِ اللهِ المتين لا سِيَّما في هذا الزمنِ العصِيب الذي عَظُمَ فيه الخَطْبُ واسْتَشْرَى فيه الشرّ وزادَ الفسادُ فَصَرْنا نرىَ القابِضَ فيه على دِينْهِ كالقابضِ على جَمر وكلُّكم يِسْمَع ويَرى واقعَ البلادِ والعباد وإذا كانَ الأمرُ هكذا فإننا نَنْصَحُ بالعَمَلِ بهذا الحديث المتقدم ،حدِيْثِ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم ” العِبادَةُ في الهَرْجِ كَهِجْرةٍ إليَّ ” فليَشْغَلِ الواحِدُ منا نفسَه في هذه الأيامِ بعبادةِ رَبِّهِ لينالَ تلكَ الفضيلةَ العظيمةَ
وليس المعنى أن له كَأَجرِ المهاجرِ تماماً إنما يُشْبِهُهُ, يُشبهُ أجرَ مَنْ هاجرَ في الصحراء وتحمَّل وعْثَاءَ السَّفر وأعباءَ الرَّحيِل ومشقاتِ الطّريق طاعةً لله ورسوِله فأيُّ خَيْرِ وأيُّ أجر وأي فَضْلٍ هذا الفضلُ العظيم الذي ينالُه ويحوزُه مَنْ تشاغَلَ بالعبادةِ في تلك الحال وتركَ ما تشاغَلَ كثيرٌ منَ الناسِ بهِ وهو الهرج المذموم الذي نُهِيْنَا عنه :اغْتَنِمْ في الفَرَاغ فَضْلَ رُكوعٍ فَعَسى أنْ يَكُونَ مَوْتُكَ بَغْته كم مِنْ صِحيحٍ ماتَ مِنْ غيرِ عِلَّةٍ ذهبت نفسُه الصحيحةُ فَلْتَه
الدعاء