خطبة عن ( نصيحة لا فضيحة)
سبتمبر 12, 2016خطبة عن ( إنَّ أَخْوَفَ مَا أَخَافُ عَلَيْكُمْ)
سبتمبر 12, 2016الخطبة الأولى ( النصيحة )
الحمد لله رب العالمين . اللهم لك الحمد على نعمة الإسلام والايمان .ولك الحمد أن جعلتنا من أمة محمد عليه الصلاة والسلام. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له . وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
أما بعد أيها المسلمون
يقول الله تعالى في محكم آياته : على لسان نبيه هود : (أُبَلِّغُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَأَنَا لَكُمْ نَاصِحٌ أَمِينٌ ) (68) الاعراف
وقال تعالى : (وَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعَى قَالَ يَا مُوسَى إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ) (20) القصص ،وروى الإمام مسلم في صحيحه : (عَنْ تَمِيمٍ الدَّارِيِّ أَنَّ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ « الدِّينُ النَّصِيحَةُ » قُلْنَا لِمَنْ قَالَ « لِلَّهِ وَلِكِتَابِهِ وَلِرَسُولِهِ وَلأَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ وَعَامَّتِهِمْ ».
إخوة الإسلام
النصيحة: هي كلمة جامعة لإرادة الخير وحيازته للمنصوح، وأصلها بالاشتقاق اللغوي: من نصحت الثوب إذا خطته، أو من نصحت العسل إذا صفيته، فالمقصود بالنصيحة: رتق العيوب، وسد الخلل، والتصفية ونبذ ما لا يليق بالمسلم، وتحذيره من المخالفة، وزجره عن المعصية، وجذبه إلى الطاعة، ليخلص من الشرور والآثام، وليبعد عنه آثارها العظام ،وهذا الأمر هو الذي ينبغي أن يتنبه له المسلم. والنصيحة هي من أعظم ما يكلف به المسلم، بل هي الحد الذي لا ينفلت ولا ينفك عنه مسلم، كما قال جل وعلا: ( لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلا عَلَى الْمَرْضَى وَلا عَلَى الَّذِينَ لا يَجِدُونَ مَا يُنفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ ) [التوبة:91]. وقد تعجز عن بعض الفعل لعذر شرعي، ولكن نصحك لله ولرسوله ونصحك للأمة ولعباد الله، أمر ينبغي أن ينطوي عليه قلبك، وأن ينطق به لسانك، وأن يكون ديدنك في حياتك كلها مع كل إخوانك، بالأسلوب الحسن، وبالمنهج الشرعي، ووفق الهدي النبوي الذي علمنا إياه رسولنا صلى الله عليه وسلم. وقد ذكر الله جل وعلا لنا في قصص الأنبياء والمرسلين شعاراً قاله بعضهم وطبقه كلهم: ( وَأَنَا لَكُمْ نَاصِحٌ أَمِينٌ ) [الأعراف:68]. والنصح فيه إخلاص وأمانة ومحبة للمنصوح وإرادة الخير له؛ فإنما المسلم هو الذي يحب لإخوانه ما يحب لنفسه، فإن هداه الله إلى الطاعة وإن وفقه إلى الخير، أحب أن يشاركه سائر إخوانه في تلك الطاعات وفي المسارعة والمسابقة إلى تلك الخيرات.
أيها المسلمون
ولقد بين النبي صلى الله عليه وسلم مكانة النصيحة، كما في الحديث العظيم المشهور الذي رواه الإمام مسلم في صحيحه (عَنْ تَمِيمٍ الدَّارِيِّ أَنَّ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ « الدِّينُ النَّصِيحَةُ » قُلْنَا لِمَنْ قَالَ « لِلَّهِ وَلِكِتَابِهِ وَلِرَسُولِهِ وَلأَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ وَعَامَّتِهِمْ ». فهذه النصيحة رحبة المدى، متعددة الأنحاء، وهي أمر عظيم في هذا الدين، ولذا قال المصطفى صلى الله عليه وسلم: « الدِّينُ النَّصِيحَةُ » قال أهل العلم: أي: قوامه وعماده وأساسه النصيحة؛ لأن بها سياج لسائر المأمورات؛ ولأن بها حماية من سائر المنكرات، ولذلك قال بعض أهل العلم في هذا المعنى: إن المراد أن غالب الدين يدور على النصيحة، وقد جاءت عنه عليه الصلاة والسلام أحاديث أخرى فيها مثل هذا المعنى، كقوله صلى الله عليه وسلم : (الحج عرفة). وتأمل معي تعليم النبي صلى الله عليه وسلم لأمته؛ لكي تقوم بهذه المهمة دون الخروج عما ينبغي أن تكون عليه أثناء أدائها، فهذا جرير بن عبد الله البجلي رضي الله عنه يروي لنا مبايعته للنبي صلى الله عليه وسلم فيقول كما في صحيح البخاري (قَالَ أَمَّا بَعْدُ ، فَإِنِّي أَتَيْتُ النَّبِيَّ – صلى الله عليه وسلم – قُلْتُ أُبَايِعُكَ عَلَى الإِسْلاَمِ . فَشَرَطَ عَلَىَّ وَالنُّصْحِ لِكُلِّ مُسْلِمٍ . فَبَايَعْتُهُ عَلَى هَذَا ، وَرَبِّ هَذَا الْمَسْجِدِ إِنِّي لَنَاصِحٌ لَكُمْ .)
وفي صحيح مسلم (عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ « حَقُّ الْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ سِتٌّ ».
قِيلَ مَا هُنَّ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ « إِذَا لَقِيتَهُ فَسَلِّمْ عَلَيْهِ وَإِذَا دَعَاكَ فَأَجِبْهُ وَإِذَا اسْتَنْصَحَكَ فَانْصَحْ لَهُ وَإِذَا عَطَسَ فَحَمِدَ اللَّهَ فَسَمِّتْهُ وَإِذَا مَرِضَ فَعُدْهُ وَإِذَا مَاتَ فَاتَّبِعْهُ ». فهذه حقوق وواجبات، وهذه معالم وسمات ينبغي للمسلم أن يرتبط بها، وأن يحرص عليها، فما معنى نصحك لإخوانك المسلمين؟ وأي دلالة تؤديها هذه الكلمة؟ إنها ليست مجرد كلمات عابرة تقولها أو أمراً أو تذكيراً تقوله مرة واحدة أو في شأن واحد، بل الأمر أوسع من ذلك وأرحب. فهذا الإمام النووي رحمة الله عليه يقول في شأن النصيحة للمسلمين: إرشادهم لمصالحهم في آخرتهم ودنياهم، وكف الأذى عنهم، فيعلمهم ما يجهلونه من دينهم، ويعينهم عليه بالقول والفعل، وستر عوراتهم، وسد خلاتهم، ودفع المضار عنهم، وجلب المنافع لهم، وأمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر برفق وإخلاص، والشفقة عليهم، وتوقير كبيرهم، ورحمة صغيرهم، وتخولهم بالموعظة الحسنة، وترك غشهم وحسدهم، وأن يحب لهم ما يحب لنفسه من الخير، وأن يكره لهم ما يكرهه لنفسه من المكروه، والذب عن أموالهم وأعراضهم وغير ذلك. فانظر -رحمك الله- إلى عظيم هذه الأمور والواجبات، وإلى ما ينبغي أن يشيع بيننا من النصائح والمواعظ والأمر والنهي؛ فإن ذلك كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم « الدِّينُ النَّصِيحَةُ » أي: قوامه وأساسه وغالبه.
أيها المسلمون
وأما عن فضل المسلم الناصح ، فهذا الفضيل بن عياض أحد أئمة التابعين يبين لنا ويرشدنا فيقول: ما أدرك عندنا من أدرك بكثير صلاة ولا صيام، وإنما أدرك من عندنا بسخاء النفس، وسلامة الصدر، والنصح للأمة. فلا يبلغ المسلم المراتب العالية بمجرد كثرة صلاته وصيامه -وإن كان هذا مما يؤمر به- ولكن بسخاء النفس، وسلامة الصدر، والنصح للأمة، فإن هذه هي المعاني الإيمانية القلبية والمعالم التربوية النفسية وأثرها الظاهر في النصح للأمة والإخلاص لها. وعن الحسن البصري رحمة الله عليه أنه قال: لو شئتم أن أقسم لكم لأقسمن: إن أحب عباد الله إلى الله الذين يحببون الله إلى عباده، والذين يحببون عباد الله إلى الله، ويمشون في الأرض بالنصيحة. ويقول في مقالة أخرى: يجب عليك لأهل قبلتك أربع: تعين محسنهم، وتحب تائبهم، وتستغفر لمذنبهم، وتدعو لمدبرهم. فانظر -رحمك الله- إلى هذه الكلمات كم فيها من الإشراقات والأنوار، وكم فيها من بيان الإيمان وصفاء القلب، وكم فيها من تهذيب النفس وطهارتها، فواجبك تجاه إخوانك أن تعين المحسن على إحسانه، وأن تحب التائب لإقلاعه، وأن تكون مستغفراً للمذنب رجاء أن يعفو الله عنه، وأن تدعو المدبر، وأن تسير في إثره، وأن تلح عليه، وأن تلحقه وتدركه علك أن تكون سبباً في إنقاذه من النار بنصحك له ودعوتك له، فهذه كلها من الأمور المهمة. ولكي ننصح الآخرين فلابد أن نفرق بين ما ينبغي وما لا ينبغي، وما ندعو إليه وما نحذر منه، وبين ما بين لنا الشارع محاسنه وبين ما حذرنا من مساوئه؛
فالنصيحة عندما تنقلب إلى فضيحة، وعندما يجهر بها في المجالس، وتشاع في المجامع، وتعلن بالصوت المرتفع، وتجبه بالأسلوب السيئ البغيض المنفر، فليست حينئذ تؤدي أثرها، ولا تكون على صواب وسواء في نهجها.
فإن كنت مؤمناً مخلصاً في محبتك لإخوانك فاستر عليهم قصورهم وعيوبهم، ثم اخلص بالأسلوب الحسن والحكمة والموعظة الحسنة إلى قلوبهم وإلى آذانهم وإلى عقولهم، وانصحهم بالتي هي أحسن، فإن سترك عليهم مظنة قبولهم منك، وإن سترك عليهم عون لهم على الإقلاع عن الذنوب. أما التجرؤ بهتك أستار الناس والتلفظ بمعايبهم على سبيل التنقص والتعيير فليس من النصيحة في شيء، فإن الله جل وعلا يحذرنا بقوله جل وعلا: (الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ ) [النور:26]، قال ابن عباس وغيره من سلف الأمة في تفسير هذه الآية : القول الخبيث والكلمات الخبيثة للخبيثين. وقال ابن جرير مرجحاً هذا المعنى: لا يصدر القول القبيح إلا من القبيح، ولا يصدر القول الطيب إلا من الطيب.
أيها المسلم
وإليك هذه المحاذير التي تحصل بسبب النصيحة العلنية ، فإن القائل بالنصيحة على رءوس الأشهاد، والمعلن للأخطاء في المحافل والمجامع، والمكرر لهذا الفعل في سائر أوقاته وأحواله يرتكب أموراً فيها محاذير شرعية كثيرة: الأمر الأول : سوء الظن بالمسلمين: لأن هذا هو المذهب الذي يدفعه إلى ما بعده، والله جل وعلا قد قال: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ ) [الحجرات:12]، وفي الحديث المتفق عليه من رواية أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: « إِيَّاكُمْ وَالظَّنَّ ، فَإِنَّ الظَّنَّ أَكْذَبُ الْحَدِيثِ » ، الأمر الثاني : التجسس :لأن سوء الظن يدفعه إلى أن يتحقق بزعمه، فيبحث مستمعاً متنصتاً، أو ناظراً متجسساً، أو باحثاً متعقباً عن عورات المسلمين وعن سقطاتهم وعن فلتات كلماتهم، بل ربما تجرأ فدخل بكلامه إلى داخل قلوبهم وإلى خبايا نياتهم، والله جل وعلا قال: (وَلا تَجَسَّسُوا ) [الحجرات:12]، وقال النبي صلى الله عليه وسلم : ( وَلاَ تَجَسَّسُوا ، وَلاَ تَحَسَّسُوا ، وَلاَ تَبَاغَضُوا ، وَكُونُوا إِخْوَانًا » رواه البخاري ، الأمر الثالث: أمر الغيبة :وقد حذر النبي صلى الله عليه وسلم من الغيبة، كما في صحيح مسلم (عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ « أَتَدْرُونَ مَا الْغِيبَةُ ». قَالُوا اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ. قَالَ « ذِكْرُكَ أَخَاكَ بِمَا يَكْرَهُ ». قِيلَ أَفَرَأَيْتَ إِنْ كَانَ فِي أَخِي مَا أَقُولُ قَالَ « إِنْ كَانَ فِيهِ مَا تَقُولُ فَقَدِ اغْتَبْتَهُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ فَقَدْ بَهَتَّهُ ». فليست الغيبة أن تقول شيئاً في حقيقته كذب، بل الغيبة أن تقول شيئاً صحيحاً، لكنك تخالف بإشاعة هذا الأمر، ولا تجعل طريقك الصحيح بالنصح المباشر إلى الواقع في المنكر. الأمر الرابع: ترك الأمر القرآني في التثبت من الأقوال والأعمال والأحوال: فإن الله جل وعلا قد قال: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ) [الحجرات:6]، وكثير من ناقلي هذه الأقوال إنما ينقلون أقوالاً لا خطام لها ولا زمام، فإن قلت له: هل سمعت بنفسك، أو رأيت بعينك؟ قال: بل قالوا! ويسند إلى مجاهيل لا تعلمهم، أو ثقات عنده، وحسبك بتوثيقهم أنهم مجروحون، كما قال عمر بن عبد العزيز عندما بلّغه بعض الناس خبراً عن آخرين: إن كنت كاذباً فحسبك بالكذب إثماً، وإن كنت صادقاً فحسبك بالنميمة إثماً. فنقل الخبر على سبيل التنقص والتعيير وإشهار العيوب إنما هو من هذا الجانب. الأمر الخامس: مخالفتهم لهدي النبي صلى الله عليه وسلم وأمره بالستر على المسلمين: فأين نحن من هذا النداء الذي حضنا فيه النبي صلى الله عليه وسلم على الستر، كما في الصحيحين (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ – صلى الله عليه وسلم – قَالَ « الْمُسْلِمُ أَخُو الْمُسْلِمِ ، لاَ يَظْلِمُهُ وَلاَ يُسْلِمُهُ ، وَمَنْ كَانَ فِي حَاجَةِ أَخِيهِ كَانَ اللَّهُ فِى حَاجَتِهِ ، وَمَنْ فَرَّجَ عَنْ مُسْلِمٍ كُرْبَةً فَرَّجَ اللَّهُ عَنْهُ كُرْبَةً مِنْ كُرُبَاتِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ ، وَمَنْ سَتَرَ مُسْلِمًا سَتَرَهُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ » . الأمر السادس: وقوعه في محظور آخر لا يليق بالمسلم، وقد تنزه عنه النبي صلى الله عليه وسلم وبين فظاعته وحذر منه،
وهو الفحش في القول؛ لأن كثيراً من الناس يقولون: فلان قال كذا وكذا، ثم ينقلون الألفاظ البذيئة، وقد يصفون الأفعال القبيحة، فهم بأنفسهم يقولون هذه المقالات، ويصفون هذه الأعمال التي لا ينبغي أن تكون على لسان المؤمن، ولا في مجامع المسلمين. فلا ينبغي أن توصف الفواحش وأن تذكر الأقوال البذيئة؛ هذا مما ينبغي أن تصان عنه المجالس .وأن تحمى منه القلوب والنفوس، والنبي صلى الله عليه وسلم قال كما في صحيح مسلم « مَهْ يَا عَائِشَةُ فَإِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الْفُحْشَ وَالتَّفَحُّشَ » وفي الصحيحين (لَمْ يَكُنِ النَّبِيُّ – صلى الله عليه وسلم – فَاحِشًا وَلاَ مُتَفَحِّشًا وَكَانَ يَقُولُ « إِنَّ مِنْ خِيَارِكُمْ أَحْسَنَكُمْ أَخْلاَقًا » .
أيها المسلمون
وهذه وقفات من هدي السلف وتوجيهاتهم في باب النصيحة ، فإن من التقوى إخلاص النصح لأخيك المسلم على الوجه الشرعي، وإن من التقوى تجنب هتك ستر المسلم وفضحه على رءوس الأشهاد إلا ما كان محتاجاً إليه منصوصاً عليه لك فيه مستند من شرع الله جل وعلا، وذلك ليس إلا في النادر من الحالات التي ذكرها أهل العلم، وإلا فإن النبي صلى الله عليه وسلم كان كثيراً ما يقول: « مَا بَالُ أَقْوَامٍ قَالُوا كَذَا وَكَذَا) رواه مسلم، فبيانك الأمر مغنٍ عن بيان فاعله أو قائله إن كنت تريد الإصلاح والنصح والتغيير بما يرضي الله سبحانه وتعالى. وأقف أيضاً وقفات يسيرة مع أقوال سلفنا وتوجيهاتهم وإرشاداتهم، وهم القوم الذين قد عظم الإيمان في قلوبهم، وغزر علمهم، وصح عندنا حسن اعتقادهم، وظهر لنا كثير من آثار تقواهم وورعهم، فهم ممن نستهدي بهديهم وممن نقتفي آثارهم: فهذا أبو بكر عبد الله بن عبد الله المزني يقول ناصحاً لنا وموجهاً كلمات جميلة انتخبت بعضاً منها: احملوا إخوانكم على ما كان فيهم، كما تحبون أن يحملوكم على ما كان فيكم، وإذا رأيت من هو أكبر منك سناً فقل: هذا خير مني؛ قد صام وصلى وعبد الله قبلي، وإذا رأيت من هو أصغر منك فقل: هو أحدث مني سناً، وأقل ذنوباً، واتخذ أكبر المسلمين لك أباً وأوسطهم لك أخاً وأصغرهم لك ابناً، أوتحب أن تعذب الطفل الصغير، أو تظلم الشيخ الكبير؟ ولتشتغل بذنوبك عن ذنوب العباد، واشتغل بالتوبة والاستغفار، وليسعك ما أنعم الله به عليك عما أنعم به على العباد، واشتغل فيه بالحمد والذكر والشكر، ولا تنظروا لذنوب الناس كالأرباب، وانظروا إلى ذنوبكم كالعبيد. وأحب أيضاً أن أنبه إلى ما نبه إليه الصحابي الجليل أبو الدرداء رضي الله عنه في مقالة عظيمة مؤثرة اقتبسها من هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتحتاج منا إلى التأمل والانتباه! يقول فيها: (أيما رجل أشاع على امرئ مسلم كلمة هو منها بريء؛ ليشينه بها، كان حقاً على الله أن يعذبه بها يوم القيامة في النار حتى يأتي بنفاذ ما قال)، وفي مسند أحمد (وَمَنْ قَفَا مُؤْمِناً أَوْ مُؤْمِنَةً حَبَسَهُ اللَّهُ فِى رَدْغَةِ الْخَبَالِ عُصَارَةِ أَهْلِ النَّارِ ) ، وهذا عمر بن الخطاب رضي الله عنه يرشدنا إلى تحقيق هذه المعاني الإيمانية التي ينبغي أن ننتبه لها حيث قال: (لا تعجبكم من الرجل طنطنته، ولكن من أدى الأمانة وكف عن أعراض الناس فهو الرجل).
أيها المسلمون
فالنصيحة مطلوبة منك وواجبة عليك، لكنك ينبغي أن تخلص فيها لله أولاً، وأن تكون فيها على هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم ثانياً، وأن تمضي في تكرارها والثبات عليها ثالثاً، وأن تحذر أن يخالط قلبك شيء مما حذر الله ورسوله منه، أو أن يخالط قلبك ما لا ينبغي أن يكون تجاه أخيك المسلم ،واحذر مما يقع فيه كثير من الناس من الفضح، والهتك، والتجسس، والغيبة، وإشاعة الفواحش، وكن واقفاً لأولئك القوم بالمرصاد نصحاً لله ولرسوله، وبين لهم الآثار الوخيمة، وبين لهم المحاذير الشرعية التي يقعون فيها أثناء ذلك، واعلم أخي المسلم! أن من أعظم الحرمات حرمة المسلم في عرضه وماله ودمه، فقد جاءت النصوص حافظة لهذا المعنى معظمة له، فاحذر أن تكون واقعاً في هذا،
الدعاء