خطبة عن ( وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ )
أكتوبر 15, 2016خطبة عن (ما النجاة ؟) وما هي مُوجِبَاتُ النَّجَاةِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ؟
أكتوبر 16, 2016الخطبة الأولى (امْسكْ عَلَيْكَ لِسَانَكَ، وَلْيَسَعْكَ بَيْتُكَ ، وَابْكِ عَلَى خَطِيئَتِكَ)
الحمد لله رب العالمين . اللهم لك الحمد على نعمة الإسلام والايمان .ولك الحمد أن جعلتنا من أمة محمد عليه الصلاة والسلام. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له . وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
أما بعد أيها المسلمون
روى الترمذي بسند حسن وصححه الألباني : (عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ قَالَ قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا النَّجَاةُ قَالَ « أَمْسِكْ عَلَيْكَ لِسَانَكَ وَلْيَسَعْكَ بَيْتُكَ وَابْكِ عَلَى خَطِيئَتِكَ ». وفي رواية للإمام أحمد : (عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ قَالَ لَقِيتُ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فَابْتَدَأْتُهُ فَأَخَذْتُ بِيَدِهِ . قَالَ فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا نَجَاةُ الْمُؤْمِنِ قَالَ « يَا عُقْبَةُ احْرُسْ لِسَانَكَ وَلْيَسَعْكَ بَيْتُكَ وَابْكِ عَلَى خَطِيئَتِكَ ».
إخوة الاسلام
في هذه الوصية الجامعة المانعة يبين لنا النبي صلى الله عليه وسلم أن النجاة في الدنيا والآخرة, والنجاة من الهلاك والضياع في الدنيا والخسران المبين في الآخرة ، في ثلاثة أمور ، وهي : أولها – أمسك عليك لسانك : فالمسلم الحق هو الذي يحذر كل الحذر من لسانه ؛ لأنه سوف يحاسب على كل كلمة ، بل كل لفظ ينطق به لسانه قال تعالى : (مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيد) [ق: 18] , وروى الترمذي بسند صحيح ( عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ قَالَ سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- عَنْ أَكْثَرِ مَا يُدْخِلُ النَّاسَ الْجَنَّةَ فَقَالَ « تَقْوَى اللَّهِ وَحُسْنُ الْخُلُقِ ». وَسُئِلَ عَنْ أَكْثَرِ مَا يُدْخِلُ النَّاسَ النَّارَ فَقَالَ « الْفَمُ وَالْفَرْجُ ». وها هو الصحابي الجليل معاذ يسأل النبي صلى الله عليه وسلم عن العمل الذي يدخله الجنة ويباعده من النار فأخبره النبي صلى الله عليه وسلم برأسه وعموده وذروة سنامه قَالَ « أَلاَ أُخْبِرُكَ بِرَأْسِ الأَمْرِ كُلِّهِ وَعَمُودِهِ وَذِرْوَةِ سَنَامِهِ ». قُلْتُ بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ. قَالَ « رَأْسُ الأَمْرِ الإِسْلاَمُ وَعَمُودُهُ الصَّلاَةُ وَذِرْوَةُ سَنَامِهِ الْجِهَادُ ». ثُمَّ قَالَ « أَلاَ أُخْبِرُكَ بِمَلاَكِ ذَلِكَ كُلِّهِ ». قُلْتُ بَلَى يَا نَبِيَّ اللَّهِ قَالَ فَأَخَذَ بِلِسَانِهِ قَالَ « كُفَّ عَلَيْكَ هَذَا ». فَقُلْتُ يَا نَبِيَّ اللَّهِ وَإِنَّا لَمُؤَاخَذُونَ بِمَا نَتَكَلَّمُ بِهِ فَقَالَ « ثَكِلَتْكَ أُمُّكَ يَا مُعَاذُ وَهَلْ يَكُبُّ النَّاسَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ أَوْ عَلَى مَنَاخِرِهِمْ إِلاَّ حَصَائِدُ أَلْسِنَتِهِمْ » رواه الترمذي واحمد . فاللسان هو المعبر عن بقية الجوارح ، وهو الذي ينطق بما في القلب لذلك تناديه الجوارح أن يتق الله فيها فقد جاء في مسند الإمام أحمد وسنن الترمذي (عَنْ أَبِى سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رَفَعَهُ قَالَ « إِذَا أَصْبَحَ ابْنُ آدَمَ فَإِنَّ الأَعْضَاءَ كُلَّهَا تُكَفِّرُ اللِّسَانَ فَتَقُولُ اتَّقِ اللَّهَ فِينَا فَإِنَّمَا نَحْنُ بِكَ فَإِنِ اسْتَقَمْتَ اسْتَقَمْنَا وَإِنِ اعْوَجَجْتَ اعْوَجَجْنَا ». وعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- « لاَ يَسْتَقِيمُ إِيمَانُ عَبْدٍ حَتَّى يَسْتَقِيمَ قَلْبُهُ وَلاَ يَسْتَقِيمُ قَلْبُهُ حَتَّى يَسْتَقِيمَ لِسَانُهُ وَلاَ يَدْخُلُ رَجُلٌ الْجَنَّةَ لاَ يَأْمَنُ جَارُهُ بَوَائِقَهُ ». . [رواه أحمد، وحسنه الألباني]. فبالكلمة يدخل العبد الجنة وبالكلمة يقذف في النار، فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم ، قَالَ: (إِنَّ الْعَبْدَ لَيَتَكَلَّمُ بِالْكَلِمَةِ مِنْ رِضْوَانِ اللهِ ، عَزَّ وَجَلَّ ، لاَ يُلْقِي لَهَا بَالاً ، يَرْفَعُهُ اللهُ بِهَا دَرَجَاتٍ ، وَإِنَّ الْعَبْدَ لَيَتَكَلَّمُ بِالْكَلِمَةِ مِنْ سَخَطِ اللهِ ، لاَ يُلْقِي لَهَا بَالاً ، يَهْوِي بِهَا فِي جَهَنَّمَ ). رواه البُخاري ،واللسان قد يكون سببا في ربح العبد وفوزه ، وقد يكون سببا في هلاكه وخسرانه، فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم ، قَالَ: (هَلْ تَدْرُونَ مَنِ الْمُفْلِسُ ؟ قَالُوا : الْمُفْلِسُ فِينَا يَا رَسُولَ اللهِ مَنْ لاَ دِرْهَمَ لَهُ وَلاَ مَتَاعَ ، قَالَ : إِنَّ الْمُفْلِسَ مِنْ أُمَّتِي مَنْ يَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِصَيَامٍ وَصَلاَةٍ وَزَكَاةٍ ، وَيَأْتِي قَدْ شَتَمَ عِرْضَ هَذَا ، وَقَذَفَ هَذَا ، وَأَكَلَ مَالَ هَذَا ، فَيُقْعَدُ فَيَقْتَصُّ هَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ ، وَهَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ ، فَإِنْ فَنِيَتْ حَسَنَاتُهُ قَبْلَ أَنْ يَقْضِيَ مَا عَلَيْهِ مِنَ الْخَطَايَا ، أُخِذَ مِنْ خَطَايَاهُمْ فَطُرِحَتْ عَلَيْهِ ، ثُمَّ طُرِحَ فِي النَّارِ). رواه مسلم ،وذكر الإمام مالك في الموطأ : [ عن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه وأرضاه، أنه دخل على أبي بكر الصديق وهو يجبذ لسانه -أي: يجره بشدة- فقال له عمر : مه! غفر الله لك، فقال أبو بكر : إن هذا أوردني الموارد ]. وقال رجل: رأيت ابن عباس آخذاً بثمرة لسانه -يعني: ممسكاً به- وهو يقول: ويحك قل خيراً تغنم، واسكت عن شر تسلم، قال: فقال له رجل: يا بن عباس ! ما لي أراك آخذاً بثمرة لسانك تقول: كذا وكذا؟ وقال ابن عباس : بلغني أن العبد يوم القيامة ليس هو على شيء أحنق منه على لسانه ] يعني: لا يغضب على شيء من جوارحه أشد من غضبه على لسانه )، أخرجه أحمد في كتاب الزهد ، وقال النووي في الأذكار : بلغنا أن قس بن ساعدة ، و أكثم بن صيفي اجتمعا فقال أحدهما لصاحبه: [ كم وجدت في ابن آدم من العيوب؟! فقال: هي أكثر من أن تحصى، والذي أحصيته: ثمانية آلاف عيب، فوجدت خصلةً إن استعملتها سترت العيوب كلها، قال ما هي؟ قال: حفظ اللسان. قال إبراهيم التيمي : أخبرني من صحب الربيع بن خثيم عشرين عاماً ما سمع منه كلمةً تعاب، الله المستعان! عشرين عاماً ما سمع منه كلمةً تعاب، والأثر ذكره ابن سعد في الطبقات . وقال بعض السلف : تعلمت الصمت بحصاة جعلتها في فمي ثلاثين سنة كنت إذا هممت بالكلمة تلجلج بها لساني فيسكت ، وقال بعضهم : جعلت على نفسي بكل كلمة أتكلم بها فيما لا يعنيني صلاة ركعتين فسهل ذلكّ عليّ فجعلت على نفسي بكل كلمة صوم يوم فسهلّ عليّ فلم أنتهِ حتى جعلت على نفسي بكل كلمة أن أتصدق بدرهم فصعب ذلك فانتهيت . قال أحدهم :
قالوا سكت وقد خوصمت قلت لهم * * * إن الجواب لباب الشر مفتاح
الصمت عن جاهل أو أحمق شرف* * *أيضاً وفيه لصون العرض إصلاح
أما ترى الأسد تخشى وهي صامتة * * * والكلب يُخسأ لعمري وهو نباح
وعن ابن مسعود وسلمان الفارسي، قالا :أكثر النّاس وقوفاً يوم القيامة أكثرهم خوضاً في الباطل. إن السكوت سلامةٌ ولربما … زرع الكلام عداوةً وضِرارا .. فإن ندمتَ على سكوتكَ مرةً … فلتندمنَّ على الكلام مِرارا
وقال عيسى عليه السلام العبادة عشرة أجزاء تسعة منها في الصمت وجزء في الفرار من الناس ،وقيل للقمان عليه السلام اذبح هذه الشاة وأطعمنا أطيب ما فيها فجاء بقلبها ولسانها ثم قيل له اذبح شاة وأطعمنا أخبث ما فيها فجاء بقلبها ولسانها فسئل عن ذلك فقال ليس في الجسد مضغتان أخبث منهما إذا خبثا ولا أطيب منهما إذا طابا . قال الشاعر:
احفظ لسانك أيها الإنسان * * * لا يلدغنك إنه ثعبان ..كم في المقابر من قتيل لسانه * * * كانت تهاب لقائه الشجعان
أيها المسلمون
أما السبب الثاني من أسباب النجاة ، فنجده في قوله صلى الله عليه وسلم وليسعك بيتك : فإن الاهتمام بالبيت هو الوسيلة الكبيرة لبناء المجتمع المسلم، فإن المجتمع يتكوّن من بيوت هي لبناته، والبيوت أحياء، والأحياء مجتمع، فلو صلحت اللبنة لكان مجتمعنا قوياً بأحكام الله، صامداً في وجه أعداء الله، يشع الخير ولا ينفذ إليه الشر. فيخرج البيت الصالح إلى المجتمع أركان الإصلاح فيه؛ من الداعية القدوة، والقائد الرباني، وطالب العلم المجتهد، والمجاهد الصادق، والشاب الغيور على دينه وعلى عرضه، والبنت العفيفة الطاهرة، والزوجة المخلصة، والأم المربية، وبقية الصالحين المصلحين. والاهتمام بالبيوت لإصلاحها وتقويمها يتطلب عدة أمور منها : 1- حسن اختيار الزوجة: ففي الصحيحين عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ – رضى الله عنه – عَنِ النَّبِيِّ – صلى الله عليه وسلم – قَالَ « تُنْكَحُ الْمَرْأَةُ لأَرْبَعٍ لِمَالِهَا وَلِحَسَبِهَا وَجَمَالِهَا وَلِدِينِهَا ، فَاظْفَرْ بِذَاتِ الدِّينِ تَرِبَتْ يَدَاكَ » . وقوله صلى الله عليه وسلم « لِيَتَّخِذْ أَحَدُكُمْ قَلْباً شَاكِراً وَلِسَاناً ذَاكِراً وَزَوْجَةً تُعِينُهُ عَلَى أَمْرِ الآخِرَةِ ». رواه أحمد وابن ماجه وفي صحيح الجامع. 2- السعي في إصلاح الزوجة: وذلك بالاعتناء بتصحيح عقيدتها، وعبادتها بكافة أنواعها, والسعي لرفع إيمانها وذلك بحثها على قيام الليل، وتلاوة الكتاب العزيز، وحفظ الأذكار والتذكير بأوقاتها، ومناسبتها، وحثها على الصدقة، وقراءة الكتب الإسلامية النافعة، وسماع الأشرطة الإسلامية المفيدة، العلمية منها والإيمانية. ففي صحيح البخاري :(أَنَّ عِتْبَانَ بْنَ مَالِكٍ – وَهُوَ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ – صلى الله عليه وسلم – مِمَّنْ شَهِدَ بَدْرًا مِنَ الأَنْصَارِ – أَنَّهُ أَتَى رَسُولَ اللَّهِ – صلى الله عليه وسلم – فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ ، قَدْ أَنْكَرْتُ بَصَرِى ، وَأَنَا أُصَلِّى لِقَوْمِي ، فَإِذَا كَانَتِ الأَمْطَارُ سَالَ الْوَادِي الَّذِى بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ ، لَمْ أَسْتَطِعْ أَنْ آتِىَ مَسْجِدَهُمْ فَأُصَلِّىَ بِهِمْ ، وَوَدِدْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَنَّكَ تَأْتِينِي فَتُصَلِّىَ فِي بَيْتِي ، فَأَتَّخِذَهُ مُصَلًّى . قَالَ فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ – صلى الله عليه وسلم – « سَأَفْعَلُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ » . قَالَ عِتْبَانُ فَغَدَا رَسُولُ اللَّهِ – صلى الله عليه وسلم – وَأَبُو بَكْرٍ حِينَ ارْتَفَعَ النَّهَارُ ، فَاسْتَأْذَنَ رَسُولُ اللَّهِ – صلى الله عليه وسلم – فَأَذِنْتُ لَهُ ، فَلَمْ يَجْلِسْ حَتَّى دَخَلَ الْبَيْتَ ثُمَّ قَالَ « أَيْنَ تُحِبُّ أَنْ أُصَلِّىَ مِنْ بَيْتِكَ » . قَالَ فَأَشَرْتُ لَهُ إِلَى نَاحِيَةٍ مِنَ الْبَيْتِ ، فَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ – صلى الله عليه وسلم – فَكَبَّرَ ، فَقُمْنَا فَصَفَّنَا ، فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ سَلَّمَ ، قَالَ وَحَبَسْنَاهُ عَلَى خَزِيرَةٍ صَنَعْنَاهَا لَهُ ). وها هو رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمر أهله وأزواجه بالصلاة ، فعَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يُصَلِّى مِنَ اللَّيْلِ فَإِذَا أَوْتَرَ قَالَ « قُومِي فَأَوْتِرِي يَا عَائِشَةُ ».رواه مسلم. وفي مسند أحمد وغيره عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- « رَحِمَ اللَّهُ رَجُلاً قَامَ مِنَ اللَّيْلِ فَصَلَّى وَأَيْقَظَ امْرَأَتَهُ فَصَلَّتْ فَإِنْ أَبَتْ نَضَحَ فِي وَجْهِهَا الْمَاءَ وَرَحِمَ اللَّهُ امْرَأَةً قَامَتْ مِنَ اللَّيْلِ فَصَلَّتْ وَأَيْقَظَتْ زَوْجَهَا فَصَلَّى فَإِنْ أَبَى نَضَحَتْ فِي وَجْهِهِ الْمَاءَ ». 3- الاهتمام بتربية الأولاد تربية إيمانية متكاملة , جسمانيا ونفسيا وعقليا . قال الله- تعالى-: { وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى وَأَخِيهِ أَنْ تَبَوَّآ لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتًا وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ } (87) يونس ، قال ابن عباس: أمروا أن يتخذوها مساجد. والبيت المسلم في شهر رمضان لا بد أن يكون شامة وعلامة ومتميزاً عن غيره من البيوت , فهو بيت رباني , جعل الإيمان طريقه , والتقوى والعبادة رفيقه , وهو بيت المسؤولية ، كل فرد فيه يعرف ماله وما عليه , عَنْ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ – رضى الله عنهما – أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: (كُلُّكُمْ رَاعٍ وَمَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ ، فَالإِمَامُ رَاعٍ ، وَهْوَ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ ، وَالرَّجُلُ في أَهْلِهِ رَاعٍ ، وَهْوَ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ ، وَالْمَرْأَةُ في بَيْتِ زَوْجِهَا رَاعِيَةٌ وَهْىَ مَسْئُولَةٌ عَنْ رَعِيَّتِهَا ، وَالْخَادِمُ في مَالِ سَيِّدِهِ رَاعٍ ، وَهْوَ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ ). أَخْرَجَهُ البُخَارِي و مسلم ،فإن المشكلة التي تواجهها كثير من بيوتنا اليوم أن بعض أفراد هذه البيوت قد تخلو عن مسؤولياتهم , فالأب ترك مسؤولية التربية كاملة للأم , والأم قد انشغلت بأشياء أخرى غير تربية الأولاد , وصار كلا منهما ينحي باللوم على الأخر , ومن هنا جاءت وصية النجاة ( وليسعك بيتك ) فمتى نعود إلى بيوتنا نصلح منها ما أفسدته بعض وسائل الإعلام الفاسدة , ونصلح منها ما قصرت فيه المدارس ؟ . قال أبو الدرداء رضي الله عنه : نعم صومعة المرء المسلم بيته، يكف لسانه وفرجه وبصره، وإياكم ومجالس الأسواق، فإنها تلهى وتلغى .
الغصون إذا عَدَّلتها اعتدلت * * * ولا تلين إذا قومتها الخشبُ !
قد ينفع الأدبُ الأحداث في مهلٍ * * * وليس ينفع بعد الكبرة الأدب
وقد بوب البخاري في صحيحه عن الربيع بنت مُعّود قالت: ” كنا نصوم، ونصوَّم صبياننا ونجعل لهم اللعبة من العهن، فإذا بكى أحدهم على الطعام أعطيناه ذاك حتى يكون عند الإفطار “. وقال العلماء: وهو ليس بواجب، ولكن ليتمرن الطفل عليه، وقاسوه على الصلاة، والأمر بها: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- « مُرُوا أَوْلاَدَكُمْ بِالصَّلاَةِ وَهُمْ أَبْنَاءُ سَبْعِ سِنِينَ وَاضْرِبُوهُمْ عَلَيْهَا وَهُمْ أَبْنَاءُ عَشْرِ سِنِينَ وَفَرِّقُوا بَيْنَهُمْ فِى الْمَضَاجِعِ »رواه أبو داود.
أقول قولي وأستغفر الله لي ولكم
الخطبة الثانية (امْسكْ عَلَيْكَ لِسَانَكَ، وَلْيَسَعْكَ بَيْتُكَ ، وَابْكِ عَلَى خَطِيئَتِكَ)
الحمد لله رب العالمين . اللهم لك الحمد على نعمة الإسلام والايمان .ولك الحمد أن جعلتنا من أمة محمد عليه الصلاة والسلام. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له . وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
أما بعد أيها المسلمون
ومما وصف الرسول صلى الله عليه وسلم في أسباب النجاة في الدنيا والآخرة قوله صلى الله عليه وسلم : وابك على خطيئتك : فالمسلم يحاسب نفسه ويعاتبها على تقصيرها ( وابك على خطيئتك ) , ويعرف أن ذلك طريقا لنجاته من عذاب النار وغضب الجبار , عن معاوية بن حيدة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم “ثلاثةٌ لا ترى أعينُهم النارَ: عينٌ حَرَسَت في سبيلِ اللهِ، وعينٌ بَكَت مِن خشيةِ اللهِ، وعينٌ كَفَّت عن مَحارمِ اللهِ “.[رواه الطبراني ورواته ثقات، وقال الألباني: حسن لغيره] . ووعظ النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه يوما فعَنْ أَبِى ذَرٍّ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- « إِنِّي أَرَى مَا لاَ تَرَوْنَ وَأَسْمَعُ مَا لاَ تَسْمَعُونَ أَطَّتِ السَّمَاءُ وَحُقَّ لَهَا أَنْ تَئِطَّ مَا فِيهَا مَوْضِعُ أَرْبَعِ أَصَابِعَ إِلاَّ وَمَلَكٌ وَاضِعٌ جَبْهَتَهُ سَاجِدًا لِلَّهِ لَوْ تَعْلَمُونَ مَا أَعْلَمُ لَضَحِكْتُمْ قَلِيلاً وَلَبَكَيْتُمْ كَثِيرًا وَمَا تَلَذَّذْتُمْ بِالنِّسَاءِ عَلَى الْفُرُشِ وَلَخَرَجْتُمْ إِلَى الصُّعُدَاتِ تَجْأَرُونَ إِلَى اللَّهِ » رواه الترمذي وغيره. وقال: الحسن البصري: لقد مضى بين أيديكم أقوام لو أن أحدهم أنفق عدد هذا الحصى، لخشي أن لا ينجو من عظم ذلك اليوم، وقد ورد في الترمذي عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- « مَا رَأَيْتُ مِثْلَ النَّارِ نَامَ هَارِبُهَا وَلاَ مِثْلَ الْجَنَّةِ نَامَ طَالِبُهَا ». والبكاء من خشية الله سمة العارفين قال عبد الله بن عمرو بن العاص : لأن أدمع دمعة من خشية الله أحب إلي من أن أتصدق بمئة ألف درهم. وقد بين صلى الله عليه وسلم أن من بكى من خشية الله فأن الله يظله تحت ظل عرشه يوم لا ظل إلا ظله فقال كما في الصحيحين ((…وَرَجُلٌ ذَكَرَ اللَّهَ خَالِيًا فَفَاضَتْ عَيْنَاهُ » ، بل حرم الله النار على من بكى من خشيته ففي سنن الترمذي وغيره (عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- « لاَ يَلِجُ النَّارَ رَجُلٌ بَكَى مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ حَتَّى يَعُودَ اللَّبَنُ فِي الضَّرْعِ وَلاَ يَجْتَمِعُ غُبَارٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَدُخَانُ جَهَنَّمَ ». وفي الأثر الإلهي: ((ولم يتعبد إلي المتعبدون بمثل البكاء من خشيتي)). في الحديث القدسي الذي رواه ابن حبان في صحيحه : قال الله تعالى: ((وعزتي لا أجمع على عبدي خوفين ولا أجمع له أمنين فإن أمنني في الدنيا أخفته يوم القيامة، وإن خافني في الدنيا أمنته يوم القيامة)). وهذا عمر كان في وجهه خطان أسودان من الدموع وكان يأخذ تبنة من الأرض ويقول: (يا ليتني كنت هذه التبنة، يا ليتني لم أك شيئا مذكورا). وهذا أبو عبيدة بن الجراح يقول: (وددت أني شاة فيذبحني أهلي فيأكلون لحمي ويحتسون مرقي). وهذا عبد الله بن المبارك يقول: (لو أن رجلا وقف على باب المسجد ونادى ليخرج شر الناس لما سبقني إليه إلا رجل أوتي أكثر مني قوة أو سمعا). وهذا ابن عباس كان أسفل عينيه مثل الشّراك البالي من البكاء. وهذا أبو عبيدة يقول عن نفسه: وددت أني كنت كبشا فيذبحني أهلي فيأكلون لحمي ويشربون مرقي، وهكذا كان حال صحابة رسول الله مع أنهم كانوا مبشرين بالجنة ،فهذا علي رضي الله عنه يصفهم ويقول: لقد رأيت أصحاب محمد فلم أرَ أحدا يشبههم منكم لقد كانوا يصبحون شعثا غبرا وقد باتوا سجدا أو قياما، يراوحون بين جباههم وخدودهم ، ويقعون على مثل الجمر من ذكر معادهم كأن بين أعينهم ركب العزي من طول سجودهم إذا ذكر الله هملت أعينهم حتى تبتل جيوبهم ومادوا كما يميد الشجر يوم الريح العاصف خوفا من العقاب ورجاء للثواب. وهذا سفيان الثوري رحمه الله يقول: والله لقد خفت من الله خوفا أخاف أن يطير عقلي منه وإني لا أسأل الله في صلاتي أن يخفف من خوفي منه. وفي مسند أحمد :(عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ (الَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا أَتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ) أَهُوَ الرَّجُلُ يَزْنِى وَيَسْرِقُ وَيَشْرَبُ الْخَمْرَ قَالَ « لاَ يَا بِنْتَ أَبِى بَكْرٍ أَوْ لاَ يا بِنْتَ الصِّدِّيقِ وَلَكِنَّهُ الرَّجُلُ يَصُومُ وَيُصَلِّى وَيَتَصَدَّقُ وَهُوَ يَخَافُ أَنْ لا يُقْبَلَ مِنْهُ ». وقال الحسن: عملوا والله بالطاعات واجتهدوا فيها وخافوا أن ترد عليهم، إن المؤمن جمع إحسانا وخشية وإن المنافق جمع إساءة وأمنا. وهذا سفيان الثوري رحمه الله كان يكثر البكاء فقيل له: يا أبا عبد الله بكاؤك هذا خوفا من الذنوب، فأخذ سفيان تبناً وقال: والله للذنوب أهون على الله من هذا ولكن أخاف أن أسلب التوحيد.
وهذا أبو هريرة كان يقول في آخر حياته: (اللهم إني أعوذ بك أن أزني أو أعمل كبيرة في الإسلام)، فقال له بعض أصحابه: يا أبا هريرة ومثلك يقول هذا أو يخافه وقد بلغت من السن ما بلغت وانقطعت عنك الشهوات، وقد شافهت النبي وبايعته وأخذت عنه، قال: (ويحك، وما يؤمنني وإبليس حي). وكان بلال بن سعد يقول في دعائه: اللهم إني أعوذ بك من زيغ القلوب، وتبعات الذنوب ومن مرديات الأعمال ومضلات الفتن، قال أبو الدرداء : (مالي لا أرى حلاوة الإيمان تظهر عليكم، والله لو أن دب الغابة وجد طعم الإيمان لظهر عليه حلاوته، ما خاف عبد على إيمانه إلا منحه وما أمن عبد على إيمانه إلا سلبه) وكان من دعائه : (يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك ويا مصرف القلوب صرف قلبي على طاعتك وطاعة رسولك)، ولما احتضر عمر بن قيس، الملائي بكى فقال له أصحابه: على ما تبكي من الدنيا فوالله لقد كنت غضيض العيش أيام حياتك فقال: والله ما أبكي على الدنيا وإنما أبكي خوفا من أن أحرم الآخرة. يقول الإمام الغزالي: ولا يسلم من أهوال يوم القيامة إلا من أطال فكره في الدنيا فإن الله لا يجمع بين خوفين على عبد فمن خاف هذه الأهوال في الدنيا أمنها في الآخرة. وهذا شداد بن أوس كان إذا دخل الفراش يتقلب على فراشه لا يأتيه النوم ويقول (الله إن النار أذهبت مني النوم فيقوم يصلي حتى يصبح)، وهذا منصور بن المعتمر كان كثير الخوف والوجل كثير البكاء من خشية الله قال عنه زائدة بن قدامة: إذا رأيته قلت: هذا رجل أصيب بمصيبة ولقد قالت له أمه: ما هذا الذي تصنع بنفسك تبكى عامة الليل، لا تكاد أن تسكت لعلك يا بنيّ أصبت نفسا، أو قتلت قتيلا؟ فقال: يا أمه أنا أعلم بما صنعت نفسي، وهذا معاذ بن جبل لما حضرته الوفاة جعل يبكي، فقيل له: أتبكي وأنت صاحب رسول الله وأنت وأنت؟ فقال: ما أبكي جزعاً من الموت أن حل بي ولا دنيا تركتها بعدي، ولكن هما القبضتان، قبضة في النار وقبضة في الجنة فلا أدري في أي القبضتين أنا. ويقول الحسن بن عرفه: رأيت يزيد بين هارون بواسط وهو من أحسن الناس عينين، ثم رأيته بعد ذلك بعين واحدة ثم رأيته بعد ذلك وقد ذهبت عيناه فقلت له: يا أبا خالد ما فعلت العينان الجميلتان، فقال: ذهب بهما بكاء الأسحار. وهذا علي ابن ابي طالب كما وصفه ضرار بن ضمرة الكناني لمعاوية يقول: كان والله بعيد المدى شديد القوى، يقول فصلا، ويحكم عدلا، ويتفجر العلم من جوانبه وتنطق الحكمة من نواحيه يستوحش من الدنيا وزهرتها ويستأنس بالليل وظلمته، كان والله غزير الدمعة طويل الفكرة يقلب كفيه ويخاطب نفسه، يعجبه من اللباس ما قصر ومن الطعام ما خشن كان والله كأحدنا يدنينا إذا أتيناه ويجيبنا إذا سألناه، وكان مع تقربه إلينا وقربه منا لا نكلمه هيبة له فأشهد بالله لقد رأيته في بعض مواقفه وقد أرخى الليل سدوله وغارت نجومه يميل في محرابه قابضا على لحيته يضطرب ويتقلب تقلب الملسوع ويبكي بكاء الحزين، فكأني أسمعه وهو يقول: يا ربنا يا ربنا، يتضرع إليه يقول للدنيا: إلي تعرضت، إلي تشوفت، هيهات هيهات غري غيري قد طلقتك ثلاثا فعمرك قصير ومجلسك حقير وخطرك يسير، آه آه من قلة الزاد وبعد السفر ووحشة الطريق. فوكفت دموع معاوية على لحيته ما يملكها وجعل ينشفها بكمه وقد اختنق القوم بالبكاء وهو يقول: هكذا والله كان أبو الحسن. ويقول عبد الواحد المقدسي: ركبنا البحر فألقتنا السفينة إلى جزيرة فرأينا رجلا يعبد وثنا، قلنا له: ما تعبد؟ فأشار إلى الوثن، قال: وأنتم ما تعبدون؟ قلنا نعبد الله، قال: ومن الله؟ قلنا: الذي في السماء عرشه وفي الأرض سلطانه وفي الناس قضاؤه، قال: وما أعلمكم به ؟ قلنا: رسول الله من عند الملك، قال: فأين الرسول ؟ قلنا: مات، قال: فهل ترك من علامة ؟ قلنا: كتاب من عند الملك، قال: ينبغي أن تكون كتب الملوك حسانا، أئتوني به، فجئناه بالقرآن الكريم فقرأنا عليه فبكى ثم قال: ما يصنع من أراد الدخول في دينكم؟، قلنا: يغتسل ويتوضأ ويقول كلمة التوحيد ويصلي. فاغتسل وقال كلمة التوحيد وصلى فلما جن علينا الليل أخذنا مضاجعنا، قال: أسألكم الإله الذي دللتموني عليه إذا جنه الليل ينام؟، قلنا: لا بل هو حي قيوم لا ينام، قال: بئس العبيد أنتم تنامون وربكم لا ينام)).
يا آمنا مع قبح الفعل منه هل * * * أتاك توقيع أمن أنت تملكه
جمعت شيئين أمنا و اتباع هوى* * *هذا وإحداهما في المرء تهلكه
والمحسنون على درب الخوف قد ساروا* * *و ذلك درب لست تسلكه
فرطت في الزرع وقت البذر من سفه* * *فكيف عند حصاد الناس تدركه
هذا وأعجب شيء فيك زهدك في* * *دار البقاء بعيش سوف تتركه
فانظروا عباد الله إلى البكائين في الخلوات، قد نزلوا على شواطئ أنهار دموعهم، فلو سرتم عن هواكم خطوات لاحت لكم خيامهم ولسمعتم بكاءهم ونشيجهم، ولسان حالهم يقول:
نزف البكاءُ دموعَ عينك فَاسْتَعِرْ * * * عيناً لغيرك دمعُها مدرار
من ذا يعيرك عينَه تبكي بها* * * أرأيت عينا للدموع تُعار؟
فمعاتبة النفس والبكاء من خشية الله دليل على حسن الإيمان , وطريق إلى النجاة وسبيل إلى دخول الجنة والفوز بالرضوان .
الدعاء