خطبة: من دروس الهجرة (بناء المسجد والإصلاح والإخاء)
يوليو 15, 2023خطبة حول حديث (يَدُ اللَّهِ مَلأَى لاَ تَغِيضُهَا نَفَقَةٌ)
يوليو 18, 2023الخطبة الأولى ( إِنَّ أَخْوَفَ مَا أَخَافُ عَلَى أُمَّتِي كُلُّ مُنَافِقٍ عَلِيمُ اللِّسَانِ )
الحمد لله رب العالمين . اللهم لك الحمد على نعمة الإسلام والايمان .ولك الحمد أن جعلتنا من أمة محمد عليه الصلاة والسلام. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له . وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
أما بعد أيها المسلمون
روى الامام أحمد في مسنده ، وصحَّحه الألبانيُّ : (عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ :أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ :« إِنَّ أَخْوَفَ مَا أَخَافُ عَلَى أُمَّتِى كُلُّ مُنَافِقٍ عَلِيمُ اللِّسَانِ »
إخوة الإسلام
لقاؤنا اليوم – إن شاء الله تعالى – مع هذا الأدب النبوي الكريم ، والذي يحذرنا فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم من المنافقين وإفسادهم ، ومن المعلوم أن المنافقين أنواع ودرجات ، فمنهم المحترف، ومنهم دون ذلك، فبعضهم متمرس يمتلك خبرة واسعة ، وعلم وافر في مجال الافساد والتلبيس والخداع والتمويه والاقناع والمحاجة والاقناع ، وآخرون يحملون صفة النفاق ، ولكنهم لا يمتلكون الخبرة الكافية التي تسعفهم في أداء مهمتهم بالشكل الصحيح ،
والرسول صلى الله عليه وسلم لم يحذرنا من قليلي الخبرة بعلوم النفاق، لأنهم مكشوفون ،ونفاقهم واضح لكل ذي عينين ولا يشكلون خطورة تذكر، إنما قال عليه الصلاة والسلام (إِنَّ أَخْوَفَ مَا أَخَافُ عَلَى أُمَّتِى كُلُّ مُنَافِقٍ عَلِيمُ اللِّسَانِ ) فهو منافق ، وهوعليم اللسان ، وهو يجادل بالقرآن، فعليم اللسان تنقاد له الكلمات ، وتلين له الحروف ، فيطوعها بخبث لما يريد، قال المناوي : “قوله : (عَلِيمُ اللِّسَانِ) أي: كثير علم اللسان، جاهل القلب والعمل، اتخذ العلم حرفة يتأكّل بها، ذو هيبة وأُبّهة، يتعزّز ويتعاظم بها، يدعو الناس إلى الله، ويفرّ هو منه، ويستقبح عيبَ غيره، ويفعل ما هو أقبح منه، ويظهر للناس التنسّكَ والتعبّد، ويسارر ربّه بالعظائم، إذا خلا به ذئب من الذئاب لكن عليه ثياب، فهذا هو الذي حذّر منه صلى الله عليه وسلم ، حذرا من أن يخطفك بحلاوة لسانه، ويحرقك بنار عصيانه، ويقتلك بنتن باطنه وجنانه”، وقال الزمخشري رحمه الله: (والمنافقون أخبث الكفرة وأبغضهم إلى الله تعالى وأمقتهم عنده لأنهم خلطوا بالكفر تمويها وتدليا وبالشكر استهزاء وخداعا ولذلك أنزل فيهم إن المنافقين في الدرك الأسفل ) ،والمنافق مهما بلغ علمه ،فلا يستطيع أن ينال فقها في علمه ، بل هي أحاجي يلبس بها على الناس، ومهما جمل ظاهره، فلن ترى بهاء التدين في وجهه ،وهو السمت الحسن، ففي سنن الترمذي وصححه الألباني: (عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- « خَصْلَتَانِ لاَ تَجْتَمِعَانِ فِى مُنَافِقٍ حُسْنُ سَمْتٍ وَلاَ فِقْهٌ فِى الدِّينِ »، هذا وقد وصف الله تعالى المنافقين بقوله تعالى : (وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ) (4) المنافقون ، وقد ذكر الحافظ ابن كثير في تفسير هذه الآية : أي : كانوا أشكالا حسنة وذوي فصاحة وألسنة ، إذا سمعهم السامع يصغي إلى قولهم لبلاغتهم، وهم مع ذلك في غاية الضعف والخور والهلع والجزع والجبن ؛ ولهذا قال : (يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ ) أي : كلما وقع أمر أو كائنة أو خوف يعتقدون لجبنهم أنه نازل بهم، وفي الصحيحين: (زَيْدَ بْنَ أَرْقَمَ يَقُولُ خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فِى سَفَرٍ أَصَابَ النَّاسَ فِيهِ شِدَّةٌ فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَىٍّ لأَصْحَابِهِ لاَ تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- حَتَّى يَنْفَضُّوا مِنْ حَوْلِهِ. قَالَ زُهَيْرٌ وَهِىَ قِرَاءَةُ مَنْ خَفَضَ حَوْلَهُ. وَقَالَ لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الأَعَزُّ مِنْهَا الأَذَلَّ – قَالَ – فَأَتَيْتُ النَّبِىَّ -صلى الله عليه وسلم- فَأَخْبَرْتُهُ بِذَلِكَ فَأَرْسَلَ إِلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَىٍّ فَسَأَلَهُ فَاجْتَهَدَ يَمِينَهُ مَا فَعَلَ فَقَالَ كَذَبَ زَيْدٌ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- – قَالَ – فَوَقَعَ فِى نَفْسِى مِمَّا قَالُوهُ شِدَّةٌ حَتَّى أَنْزَلَ اللَّهُ تَصْدِيقِى (إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ) قَالَ ثُمَّ دَعَاهُمُ النَّبِىُّ -صلى الله عليه وسلم- لِيَسْتَغْفِرَ لَهُمْ – قَالَ – فَلَوَّوْا رُءُوسَهُمْ. وَقَوْلُهُ (كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ) وَقَالَ كَانُوا رِجَالاً أَجْمَلَ شَىْءٍ). فالمنافقون كانوا رجالا أجمل شيء ، كأنهم خشب مسندة، وشبههم بخشب مسندة إلى الحائط لا يسمعون ولا يعقلون، أشباح بلا أرواح وأجسام بلا أحلام.
أيها المسلمون
وهكذا يتبين لنا خطر المنافق العليم اللسان الذي حذر منه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فتجد أحدهم يلوي معاني النصوص ليا ، كي يصل إلى مآربه الخسيسة. قال تعالى : (وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقًا يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتَابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتَابِ وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ) (78) آل عمران ،وعن ابن عباس : أنهم يحرفون ويزيدون ، وليس أحد من خلق الله يزيل لفظ كتاب من كتب الله، لكنهم يحرفونه :أي يتأولونه على غير تأويله ، وتجد آخر يطعن في صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم بحجة البحث العلمي والنقد البناء ،
ومنهم من يطعن في أئمة العلم من سادات الأُمّة ويتغنى بالقول : (هم رجال ونحن رجال)، وهذه الكلمة مأثورة عن الإمام أبي حنيفة رحمه الله. قال أبو محمد بنُ حزم : (هذا أبو حنيفة يقول : ما جاءَ عن اللهِ تعالى فعلى الرأسِ والعينين، وما جاءَ عن رسولِ الله صلى اللهُ عليه وسلم فسمعاً وطاعةً، وما جاءَ عن الصحابةِ رضي الله عنهم تخيرنا من أقوالهم، ولم نخرجْ عنهم، وما جاءَ عن التابعين فهُمْ رجالٌ ونحنُ رجالٌ) ، فعُرِفَ أنَّ المقصود بقوله “هم رجال” أقرانه ونظراؤه من التابعين. نعم إذا قال “هم رجال ونحن رجال” من كان في منزلة أبي حنيفة في نظرائه من أهل العلم فحُقَّ له ذلك، لأنَّ قول بعضهم ليس حجةً على بعض. إنَّ هذه الكلمة أصبحتْ مطية يركبُها مَنْ يريدُ أنْ يردَّ أقوالَ الأئمة المتقدمين، والسلفِ الصادقين بلا حُجةٍ ولا بُرهان، ومَنْ يريدُ أن يمرر آراءه الشاذة، وأقوالَه الضعيفة، واختياراتِه الغريبة ، ومَنْ يريدُ أنْ يُظهِر نفسهُ على حساب أئمة العلم والدين. نعم “هُمْ رجالٌ ونحنُ رجال” في أصلِ الخِلْقةِ والصفاتِ المشتركة من سمعٍ وبصرٍ وجوارح، ولكنَّ الله حباهم بفضله ومنته وحكمته غزارةً في العلم، وإخلاصاً في العمل، وصِدْقاً في الدعوة، وصبراً عِند الأذى والبلاء. قال شيخُ الإسلام ابنُ تيمية : ((ومَنْ آتاه اللهُ علماً وإيماناً عَلِمَ أنّه لا يكون عند المتأخرين من التحقيق إلا ما هُو دونَ تحقيقِ السلفِ لا في العلم ولا في العمل)). ما أجمل وأبلغ هذه العبارة من هذا الإمام الخبير!
أيها المسلمون
ومن الملاحظ في قوله صلى الله عليه وسلم ::« إِنَّ أَخْوَفَ مَا أَخَافُ عَلَى أُمَّتِى كُلُّ مُنَافِقٍ عَلِيمُ اللِّسَانِ » ، أن النبي صلى الله عليه وسلم لا يقصد فقط إخبارنا بهذا العدو؛ بل يقصد تحذيرنا منه، ولقد قدم لنا في الإخبار ثلاثة مفاتيح لمعرفته: أولها أنه منافق ، وثانيها أنه يستعمل لسانه كثيرا ، وثالثها أنه عليم اللسان ، وكون المنافق (عَلِيمُ اللِّسَانِ) فيه ثلاث لطائف : أولها : أن عِلْمَ المنافق لا يتجاوز لسانه ، وثانيها : أن مصدر خطورته ارتكاز هذا العلم في اللسان ، وثالثها : علاقة ذلك بما في قلبه من النفاق ، فبذلك يكون المنافق قد حاز ثلاثة أسلحة فتاكة: النفاق، والعلم، واللسان ، فقد ارتقى هذا المنافق من مرتبة المنافق العادي إلى المنافق العليم، ومن هذه المرتبة إلى مرتبة خدمة نفاقه بتجييش علمه من خلال آلة لسانه، فصار لسانه مركز الثقل في النفاق والعداوة، والآلة التي يهدم بها حصن الأمة وبناءها؛ لأنه في غنى عن رصد ميزانيات، ودعم خارجي ، فكل ما يفعله أن يُحرِّك لسانه مستثمرا عِلْمه، فيصور الفاسدين أنهم مصلحين، وهو إذا مدح لم يمدح بحق، وإذا هجا لم يهج بحق؛ ويلبس لبوس الناصح الأمين، ليلبس على الناس، ويصور الباطل في صورة الحق، والحق في صورة الباطل،
أقول قولي وأستغفر الله لي ولكم
الخطبة الثانية ( إِنَّ أَخْوَفَ مَا أَخَافُ عَلَى أُمَّتِي كُلُّ مُنَافِقٍ عَلِيمُ اللِّسَانِ )
الحمد لله رب العالمين . اللهم لك الحمد على نعمة الإسلام والايمان .ولك الحمد أن جعلتنا من أمة محمد عليه الصلاة والسلام. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له . وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
أما بعد أيها المسلمون
إن المنافق العليم اللسان ارتضى لنفسه دورا في الحياة لا يخطئه، وهو مرابط مخلص لعقيدته، يملك لسانا يغنيه عن الجيوش الجرارة، ويخوض صراع وجود، ولكنه مع كل ذلك كإبليس، إن ضعفت الأمة وسوس ودلّس، وإن قويت وجمعت أمرها خنس وانتكس ، وكان يحيى بن معاذ يقول لعلماء الدنيا : يا أصحاب القصور ،قصوركم قيصرية ،وبيوتكم كسروية ،وأبوابكم ظاهرية ،وأخفافكم جالوتية ،ومراكبكم قارونية ،وأوانيكم فرعونية ،ومآثمكم جاهلية ،ومذاهبكم شيطانية ،فأين المحمدية والعالمية ،
وأكثر علماء الزمان ضربان : ضرب منكب على حطام الدنيا ،لا يمل من جمعه ،وتراه شهره ودهره ،يتقلب في ذلك كالذباب في المزابل ،يطير من عذرة إلى عذرة ،وقد أخذت دنياه بمجامع قلبه ،ولزمه خوف الفقر ،وحب الإكثار ،واتخذ المال عدة للنوائب ،لا يتنكر عليه تغلب الدنيا، هم أهل تصنع ودهاء ،وخداع وتزين للمخلوقين ،وتملق للحكام ،شحا على رئاستهم ،يلتقطون الرخص ،ويخادعون الله بالحيل ،ديدنهم المداهنة ،،وساكن قلوبهم المنى طمأنينتهم إلى الدنيا، وسكونهم إلى أسبابها ،اشتغلوا بالأقوال عن الأفعال ، وسيكافئهم الجبار المتعال .
وآخرون وهم قلة: هم العلماء الربانيون، الذين يبتغون فضلا من الله ورضوانا، وأولئك هم مصابيح الهدى، والذين أمرنا أن نجالسهم، ونستمع إليهم، ونأخذ عنهم العلم والدين والفتيا.
الدعاء