خطبة عن أصحاب الهمم والطموح (فكن ذا همة وطموح ،فلَنْ تَبْلُغَ الْمَجْدَ حَتَّى تَلْعَقَ الصَّبِرَا)
مارس 23, 2021خطبة عن (الابتلاء بتيسير المعاصي والمحظورات (لِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَخَافُهُ بِالْغَيْبِ)
مارس 29, 2021الخطبة الأولى ( النَّجْوَى : معناها، وأقسامها، وآدَابُهَا )
الحمد لله رب العالمين . اللهم لك الحمد على نعمة الإسلام والايمان .ولك الحمد أن جعلتنا من أمة محمد عليه الصلاة والسلام. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له . وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
أما بعد أيها المسلمون
يقول الله تعالى في محكم آياته :(أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (7) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوَى ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَيَتَنَاجَوْنَ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَتِ الرَّسُولِ وَإِذَا جَاءُوكَ حَيَّوْكَ بِمَا لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ وَيَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ لَوْلَا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِمَا نَقُولُ حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ الْمَصِيرُ (8) يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَنَاجَيْتُمْ فَلَا تَتَنَاجَوْا بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَتِ الرَّسُولِ وَتَنَاجَوْا بِالْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (9) إِنَّمَا النَّجْوَى مِنَ الشَّيْطَانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيْسَ بِضَارِّهِمْ شَيْئًا إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ) (7) :(10) المجادلة ، وقال الله تعالى 🙁يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً ذَلِكَ خَيْرٌ لَكُمْ وَأَطْهَرُ فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (12) أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَاتٍ فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتَابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ) (12)، (13) المجادلة
إخوة الإسلام
إن الاسلام يهدف الى تقوية الصف بين المسلمين، وجمع كلمتهم ،حتى يظلوا قوة وقذى في عيون أعدائهم ،وسبيله في ذلك محاربة كل ما يؤدي إلى الفرقة والتدابر والتقاطع ،فرب العالمين تبارك وتعالى يريد من المسلمين أن يلتزموا بكل ما يقوي صفهم ،ويوحد كلمتهم ،فقد بُعث رسول الله صلى الله عليه وسلم وجل همه بعد جمع الناس على توحيد الله، والحفاظ على أحاسيس الناس وشعورهم ،ومصالحهم، لذلك فكل أمر يكون من شأنه إلحاق الضرر بالمسلمين فليس من الاسلام، والمسلم الحقيقي هو من سلم المسلمون من لسانه ويده، ولهذا فقد حرص الاسلام على مراعاة شعور المسلم حال التناجي ،فشرع آدابا للنجوى بين الناس ،
والنجوى والتناجي :هو التحدث سرّاً بصوت منخفض وغير مسموع ،أو التحدث بلغة غير مفهومة لدى الشخص الآخر ،والتناجي والتحادث سرا بين الناس أقره الاسلام وأباحه ،لأنه من ضروريات الحياة التي يلجأ إليها البشر ،ولا سيما في الأمور المهمة ،التي يراد لها أن تتم بعيدا عن أعين المفسدين في الأرض ـ وغاية ما في الأمر: أن الاسلام حينما أقر مبدأ النجوى والتناجي ،راعى مشاعر الناس وأحاسيسهم ،لكيلا تكون هناك فرقة أو تقاطع ،فطلب من الاثنين فما فوقهما إذا أرادا التناجي ألا ينفردا بها دون الآخر ،بل عليهما أن يتركا معه من يحادثه ويناجيه ،قال الله تعالى 🙁يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَنَاجَيْتُمْ فَلَا تَتَنَاجَوْا بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَتِ الرَّسُولِ وَتَنَاجَوْا بِالْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (9) إِنَّمَا النَّجْوَى مِنَ الشَّيْطَانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيْسَ بِضَارِّهِمْ شَيْئًا إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ) (9) :(10) المجادلة ،وفي الصحيحين 🙁عَنْ عَبْدِ اللَّهِ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ – صلى الله عليه وسلم – قَالَ «إِذَا كَانُوا ثَلاَثَةٌ فَلاَ يَتَنَاجَى اثْنَانِ دُونَ الثَّالِثِ» ،وعلل في بعض روايات الصحيحين بأن ذلك يحزنه 🙁فقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- «إِذَا كُنْتُمْ ثَلاَثَةً فَلاَ يَتَنَاجَى اثْنَانِ دُونَ صَاحِبِهِمَا فَإِنَّ ذَلِكَ يُحْزِنُهُ»، إذ ربما يُلقي الشيطان في روعه أن الجماعة تتآمر عليه ،أو أنها تحتقره وتسخر منه ،وقد امتثل السلف الصالح -رضوان الله عليهم- لأمر الاسلام وحكمته في ذلك ،فقد جاء في موطإ الإمام مالك : (عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ قَالَ كُنْتُ أَنَا وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ عِنْدَ دَارِ خَالِدِ بْنِ عُقْبَةَ الَّتِي بِالسُّوقِ فَجَاءَ رَجُلٌ يُرِيدُ أَنْ يُنَاجِيَهُ وَلَيْسَ مَعَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ أَحَدٌ غَيْرِي وَغَيْرُ الرَّجُلِ الَّذِي يُرِيدُ أَنْ يُنَاجِيَهُ فَدَعَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ رَجُلاً آخَرَ حَتَّى كُنَّا أَرْبَعَةً فَقَالَ لِي وَلِلرَّجُلِ الَّذِي دَعَاهُ اسْتَأْخِرَا شَيْئًا فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ « لاَ يَتَنَاجَى اثْنَانِ دُونَ وَاحِدٍ ».
ويتبين لنا من خلال القرآن والسنة أن النجوى والتناجي منها ما هو مباح ، ومنها ما هو محرم ،أما التناجي المباح: فهو التناجي في طاعة الله ورضاه، لا في معصيته وسخطه ،وهو الذي لا تترتب عليه مفسدة ،ولا يُحزن الآخرين، وألا يتناجى بالإثم والعدوان وما فيه معصية ، وأن يكون بإذن الشخص الثالث ،وأن تكون هناك حاجة ومصلحة من وراء هذا التناجي ،قال الله تعالى :(وَتَنَاجَوْا بِالْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ) (9) المجادلة ،والنجوى تجوز إذا أذن الواحد للمتناجين بالنجوى، أو كان الجماعة أربعة فأكثر ،فتناجى اثنان دون البقية، أما إذا كانت الجماعة ثلاثة فقط، فلا يجوز تناجي اثنين دون الثالث حتى يختلطوا بالناس ،أو يجدوا رابعاً على الأقل ،ففي سنن أبي داود وصحيح ابن حبان : (عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- «لاَ يَنْتَجِي اثْنَانِ دُونَ الثَّالِثِ فَإِنَّ ذَلِكَ يُحْزِنُهُ ». قَالَ أَبُو صَالِحٍ فَقُلْتُ لاِبْنِ عُمَرَ فَأَرْبَعَةٌ قَالَ لاَ يَضُرُّكَ). ويدل على جواز تناجي اثنين دون باقي الجماعة إذا كانوا أربعة فأكثر ما رُوي في صحيح مسلم من مناجاة الرسول صلى الله عليه وسلم لابنته فاطمة رضي الله عنها بحضرة أمهات المؤمنين رضي الله عنهن، ففي صحيح مسلم: (عَنْ عَائِشَةَ قَالَتِ اجْتَمَعَ نِسَاءُ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- فَلَمْ يُغَادِرْ مِنْهُنَّ امْرَأَةً فَجَاءَتْ فَاطِمَةُ تَمْشِي كَأَنَّ مِشْيَتَهَا مِشْيَةُ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فَقَالَ « مَرْحَبًا بِابْنَتِي ». فَأَجْلَسَهَا عَنْ يَمِينِهِ أَوْ عَنْ شِمَالِهِ ثُمَّ إِنَّهُ أَسَرَّ إِلَيْهَا حَدِيثًا فَبَكَتْ فَاطِمَةُ ثُمَّ إِنَّهُ سَارَّهَا فَضَحِكَتْ أَيْضًا فَقُلْتُ لَهَا مَا يُبْكِيكِ فَقَالَتْ مَا كُنْتُ لأُفْشِيَ سِرَّ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- . فَقُلْتُ مَا رَأَيْتُ كَالْيَوْمِ فَرَحًا أَقْرَبَ مِنْ حُزْنٍ. فَقُلْتُ لَهَا حِينَ بَكَتْ أَخَصَّكِ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- بِحَدِيثِهِ دُونَنَا ثُمَّ تَبْكِينَ وَسَأَلْتُهَا عَمَّا قَالَ فَقَالَتْ مَا كُنْتُ لأُفْشِيَ سِرَّ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-. حَتَّى إِذَا قُبِضَ سَأَلْتُهَا فَقَالَتْ إِنَّهُ كَانَ حَدَّثَنِي « أَنَّ جِبْرِيلَ كَانَ يُعَارِضُهُ بِالْقُرْآنِ كُلَّ عَامٍ مَرَّةً وَإِنَّهُ عَارَضَهُ بِهِ فِي الْعَامِ مَرَّتَيْنِ وَلاَ أُرَانِي إِلاَّ قَدْ حَضَرَ أَجَلِي وَإِنَّكِ أَوَّلُ أَهْلِي لُحُوقًا بِي وَنِعْمَ السَّلَفُ أَنَا لَكِ ». فَبَكَيْتُ لِذَلِكِ ثُمَّ إِنَّهُ سَارَّنِي فَقَالَ « أَلاَ تَرْضَيْنَ أَنْ تَكُونِي سَيِّدَةَ نِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ أَوْ سَيِّدَةَ نِسَاءِ هَذِهِ الأُمَّةِ ». فَضَحِكْتُ لِذَلِكِ). هذا هو الضابط الذي ذكره العلماء من خلال فهمهم للكتاب والسنة ،لتكون النجوى والتناجي مباحا بين المسلمين .
أيها المسلمون
ومن المواطن التي تباح فيها النجوى: عند الأمر بالمعروف والإصلاح؛ قال الله تعالى: ﴿لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا ﴾ [النساء: 114]. وتباح النجوى كذلك: حال الاختلاط بالناس: ففي صحيح البخاري :(عَنْ أَنَسٍ – رضي الله عنه – قَالَ أُقِيمَتِ الصَّلاَةُ وَرَجُلٌ يُنَاجِي رَسُولَ اللَّهِ – صلى الله عليه وسلم – فَمَا زَالَ يُنَاجِيهِ حَتَّى نَامَ أَصْحَابُهُ ، ثُمَّ قَامَ فَصَلَّى) ،فدل ذلك على “جواز طول المناجاة بحضرة الجماعة في الأمر يهم السلطان، ويحتاج إلى تعرفه، وإن كان فيه بعض الضرر على بعض من في المجلس” وقد بوب الإمام البخاري رحمه الله تعالى: “باب إذا كانوا أكثر من ثلاثة، فلا بأس بالمسارة والمناجاة”؛ ومن مواطن إباحة النجوى إذا أذِن الثالث لهما: لما رواه ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إِذَا كُنْتُمْ ثَلَاثَةً، فَلَا يَتَنَاجَى اثْنَانِ دُونَ الثَّالِثِ إِلَّا بِإِذْنِهِ؛ فَإِنَّ ذَلِكَ يُحْزِنُهُ) وكذلك من مواطن الإباحة: “إذا انتجى اثنان ابتداءً، وثَمَّ ثالث كان؛ بحيث لا يسمع كلامهما لو تكلما جهرًا، فأتى ليستمع عليهما فلا يجوز؛ كما لو لم يكن حاضرًا معهما أصلًا” فـ”دخول الثالث بين متناجيين منهي عنه” ؛ ففي مسند أحمد :(عَنْ سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيِّ قَالَ جَلَسْتُ إِلَى ابْنِ عُمَرَ وَمَعَهُ رَجُلٌ يُحَدِّثُهُ فَدَخَلْتُ مَعَهُمَا فَضَرَبَ بِيَدِهِ صَدْرِي وَقَالَ أَمَا عَلِمْتَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ « إِذَا تَنَاجَى اثْنَانِ فَلاَ تَجْلِسْ إِلَيْهِمَا حَتَّى تَسْتَأْذِنَهُمَا »، فقلت: أصلحك الله يا أبا عبدالرحمن، إنما رجوت أن أسمع منكما خيرًا)، لذا فلا يجوز لأحد أن يدخل على المتناجيين في حال تناجيهما ،وما ذاك إلا أنهما لَما افتتحا حديثهما سرًّا، وليس عندهما أحد، وأن مرادهما ألا يطلع أحد على كلامهما ،لأنهما يكرهان اطلاع أحد على سرهما، وهذا نهي عن تتبع الأسرار، وفي صحيح البخاري :(عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنِ النَّبِيِّ – صلى الله عليه وسلم – قَالَ «..وَمَنِ اسْتَمَعَ إِلَى حَدِيثِ قَوْمٍ وَهُمْ لَهُ كَارِهُونَ أَوْ يَفِرُّونَ مِنْهُ ،صُبَّ فِي أُذُنِهِ الآنُكُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» والآنك هو: الرصاص المذاب من شدة الحرارة، يصب في أذنه يوم القيامة ،لأنه دخل في حديث رجلين يستسران بينهما بغير إذنهما، وهذا يبين خطورة التجسس والتصنت على أسرار المسلمين ،هذا ما جاء في النجوى المباحة ،وغير المحرمة .
أيها المسلمون
أما النجوى المحرمة : فهي التناجي بالإثم والعدوان ومعصية الرسول صلى الله عليه وسلم ،وهي التي يترتب عليها مفسدة ،ويترتب عليها حزن الآخرين ،والاساءة إليهم ،والحاق الضرر بهم ،وهي التي تكون بين اثنين دون الثالث بغير إذنه، فالتناجي المحرم صورُه كثيرةٌ ،ومنها: التكلم بلغةٍ لا يعرفها الشخصُ الثالث، فهذا تناجٍ واضح لا يجوز فعله، وكذلك بالكتابة، مثل أن يكتب شخص لآخر ورقةً فيها بعض الكلمات، فيعطيها أمام الثالث، أو يرسل له بالجوال وهم في مجلس واحد، وأيضا بالإشارات والرموز والحركات التي يفهمها طرفٌ واحد، فيبقى الطرف الآخر حزينًا لا يعرف ماذا يقصدون، قال الله تعالى: (وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا) (58) الأحزاب .فهذا كله من أذية المؤمنين المحرمة، وبما أن في هذا النوع من التناجي إيذاء للمؤمنين، وإيذاء المسلم لأخيه المسلم، فلذلك صار هذا النوع من التناجي محرماً.
وقد تورع النبي صلى الله عليه وسلم عن النجوى المحرمة :ومما جاء في ذلك قصة ابن أبي سرح، وهو صحابي أسلم وكان من كتبت الوحي، ثم ارتد عن الإسلام، وصار يقول لكفار قريش: أنا كنت أكتب الوحي لمحمد، وأنا أصرفه حيث أشاء، فأمر رسول الله ﷺ بقتله، ولما فتح مكة أمّن الناس كلهم إلا أربعة منهم ابن أبي سرح ، ففي سنن أبي داود 🙁عَنْ سَعْدٍ قَالَ لَمَّا كَانَ يَوْمُ فَتْحِ مَكَّةَ أَمَّنَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- النَّاسَ إِلاَّ أَرْبَعَةَ نَفَرٍ وَامْرَأَتَيْنِ وَسَمَّاهُمْ وَابْنُ أَبِي سَرْحٍ. فَذَكَرَ الْحَدِيثَ قَالَ وَأَمَّا ابْنُ أَبِي سَرْحٍ فَإِنَّهُ اخْتَبَأَ عِنْدَ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ فَلَمَّا دَعَا رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- النَّاسَ إِلَى الْبَيْعَةِ جَاءَ بِهِ حَتَّى أَوْقَفَهُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فَقَالَ يَا نَبِيَّ اللَّهِ بَايِعْ عَبْدَ اللَّهِ فَرَفَعَ رَأْسَهُ فَنَظَرَ إِلَيْهِ ثَلاَثًا كُلُّ ذَلِكَ يَأْبَي فَبَايَعَهُ بَعْدَ ثَلاَثٍ ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَى أَصْحَابِهِ فَقَالَ «أَمَا كَانَ فِيكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ يَقُومُ إِلَى هَذَا حَيْثُ رَآنِي كَفَفْتُ يَدِي عَنْ بَيْعَتِهِ فَيَقْتُلُهُ». فَقَالُوا مَا نَدْرِي يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا فِي نَفْسِكَ أَلاَ أَوْمَأْتَ إِلَيْنَا بِعَيْنِكَ قَالَ «إِنَّهُ لاَ يَنْبَغِي لِنَبِيٍّ أَنْ تَكُونَ لَهُ خَائِنَةُ الأَعْيُنِ»
أيها المسلمون
ولليهود مع النجوى المحرمة شأن :فقد قال الله تعالى عنهم :﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوَى ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَيَتَنَاجَوْنَ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَتِ الرَّسُولِ وَإِذَا جَاءُوكَ حَيَّوْكَ بِمَا لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ وَيَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ لَوْلَا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِمَا نَقُولُ حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ الْمَصِيرُ ﴾ [المجادلة: 8]، قال مقاتل بن حيان: كان بين النبي صلى الله عليه وسلم وبين اليهود موادعة، وكانوا إذا مر بهم رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، جلسوا يتناجون بينهم، حتى يظن المؤمن أنهم يتناجون بقتله – أو: بما يكره المؤمن – فإذا رأى المؤمن ذلك خشِيهم، فترك طريقه عليهم، فنهاهم النبي صلى الله عليه وسلم عن النجوى، فلم ينتهوا وعادوا إلى النجوى، فأنزل الله: ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوَى ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا نُهُوا عَنْهُ ﴾ [المجادلة: 8] ،والنجوى المحرمة هي من مصائد الشيطان وغوائله، ولا زال جنوده يحيونها: قال الله تعالى: ﴿ إِنَّمَا النَّجْوَى مِنَ الشَّيْطَانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيْسَ بِضَارِّهِمْ شَيْئًا إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ ﴾ [المجادلة: 10]، فكان المنافقون يفعلون ذلك بحضرة المؤمنين ليحزنوهم” ، وقال الله تعالى :﴿نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَسْتَمِعُونَ بِهِ إِذْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ وَإِذْ هُمْ نَجْوَى إِذْ يَقُولُ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُورًا﴾ [الإسراء: 47]، وقال الله تعالى :﴿أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لَا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ﴾ [الزخرف: 80]، وقال الله تعالى :﴿فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ * أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ وَأَنَّ اللَّهَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ ﴾ [التوبة: 77، 78]. و”كان الرجل يأتي رسول الله صلى الله عليه وسلم يسأله الحاجة؛ ليري الناس أنه قد ناجى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان النبي صلى الله عليه وسلم لا يمنع ذلك من أحد، والأرض يومئذ حرب على أهل هذا البلد، وكان إبليس يأتي القوم فيقول لهم: إنما يتناجون في أمور قد حضرت ،وجموع قد جمعت لكم وأشياء”، وقد قيل: “إِنَّ الْفِتْنَةَ تُلْقَحُ بِالنَّجْوَى، وَتُنْتَجُ بِالشَّكْوَى”
أيها المسلمون
فالغاية الكبرى من هذه التوجيهات: هي حرص الإسلام على نقاوة المجتمع من ألوان الكراهية والبغضاء والحزازات ،وزرع الفرقة بين الناس ،فعلى المسلم والمسلمة أن يكون كل منهما حذراً من الإساءة لغيره في المجالس المختلطة ،فلا يتسبب في الإساءة للآخرين ،ولا يكون عوناً للشيطان في قطع عرى المودة والصلة بين المسلمين، والله تعالى بالمرصاد لكل من أساء لنفسه وغيره ،كما أن الله تعالى رحيم بعباده الأبرار المحبين للخير المبتعدين عن الشر والأذى ، فالإسلام لم يترك صغيرة ولا كبيرة إلا وبينها ووضحها لنا ،واذا اراد المسلمون السعادة والقوة والعزة ،فكل هذا يتحقق باتباع كتاب الله وسنة نبيه محمد صلى الله عليه وسلم ،وصدق الله العظيم إذ يقول :(قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى (123) وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى (124) قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا (125) قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى) (123) :(126) طه ، هذا وقد ختمت آيات التناجي في سورة المجادلة بتقرير : أن النجوى العدائية من الشيطان ليحزن الذين آمنوا وليس بضارهم شيئًا إلا بإذن الله، ومعنى ذلك: أن الإنسان الواثق بربه ،المطمئن لسلوكه ،لا تضره النجوى العابثة ،التي يلجأ إليها ذووا الريب ،فهم مهما أكثروا السرار، وأطالوا النظرات واللفتات، لا يغيرون شيئًا من واقع الأمر، فللأشياء تدبير محكم ، تجري على سننه ،رضي الأعداء أم أبوا ،فليستمعوا إلى هواجس الشر، وليطيلوا التناجي البغيض ،فإنه هباء تذروه الريح ،فالثقة بالله أولا ،وبالنفس ثانية ،أداة استعلاء على الأهواء الهابطة ،والنوازع المريضة، وبها يأوي الإنسان إلى حصن ركين. وقد عرفنا أن التناجي سلاح ذو حدين؛ فهو أداة سمر لمن أخلص لله قلبه، وباعث غيظ لمن ختم الله على قلبه، وما يستوى الأعمى والبصير ولا الظل ولا الحرور.
الدعاء