خطبة عن (الرسول حريص على أمته)
سبتمبر 22, 2024خطبة عن (أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ)
سبتمبر 28, 2024الخطبة الأولى ( سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا )
الحمد لله رب العالمين . اللهم لك الحمد على نعمة الإسلام والايمان .ولك الحمد أن جعلتنا من أمة محمد عليه الصلاة والسلام. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له . وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
أما بعد أيها المسلمون
يقول الله تعالى في محكم آياته : (لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا) (7) الطلاق
إخوة الإسلام
نلتقي اليوم -إن شاء الله تعالى- على مائدة القرآن الكريم ،ننهل من معينه ،ونرتشف من رحيقه المختوم ،مع قوله تعالى :{ سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا }،والمعنى ،أي : سيجعل الله تعالى بفضله وإحسانه – اليسر بعد العسر ،والسعة بعد الضيق ،والغنى بعد الفقر ،لمن شاء من عباده ،لأنه سبحانه – هو الذى يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر ،وهو بعباده خبير بصير ،وفي هذا بشارة لكل معسرـ ولكل مهموم ومكروب، أن الله تعالى سيزيل عنه الشدة، ويرفع عنه المشقة، وسيجعل الله بعد الضيق والشدة سَعَة وغنى. فقد قال وقوله الحق: {فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا (5) إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا} الشرح (5) ،(6) ،فكأنَّ هذه الآيةَ تقولُ لنا: إنَّ كلَّ عسرٍ في باطنِه يسرٌ عظيمٌ فابحثْ عنْهُ، فإنكَ لوْ وَجدْتَ إنسانًا كلَّما لَمسَ شوكَ فاكهةِ رمَاها ،لقُلتَ هذا سفيهٌ، فخذْها بحرصٍ ،واتقِ شوكَها ،وإنْ أصابَك شيءٌ منهُ فاصبرْ ،وستجدُ قريبًا في داخلِها الخيرَ الكثيرَ، وهكذا الحياةُ ،بالصبرِ على ما فيها منْ عسرٍ يُحصَّلُ اليسرُ، وهذه المعاني العظيمةُ تجعلُ الإنسانَ يَنتقلُ مِنَ الضّيقِ والعُسْرِ والكَدَرِ، إلى الفرَجِ واليسرِ والصفاءِ بِتَرقُّبِ اليُسرِ ،وَتَرَقُّبِ الفَرجِ، {لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا} [الطلاق:1]، أيْ أمرًا خيِّرًا طيبًا كما تُبَيِّنُه الآيةُ الأخرَى {سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا} [الطلاق:7] ،فعلى العاقل ألّا يقعَ في الاستغراقِ في اللحظةِ الحاضرةِ، بلْ منذُ أنْ يَنْزِلَ بهِ العسرُ – سواءٌ أكانَ مشقةً أوْ خِلافًا أوْ مشكلةً- فلْينتقلْ مِنْ حالِه مباشرةً ولْينتظِرِ اليُسْرَ،{فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا}، فهذهِ القاعدةُ العظيمةُ إنْ حَكَمَتْ حياتَنا جَعَلَتْها هنيئةً طيبةً؛ لأنَّ الانتقالَ الذهنيَّ منْ حالِ الضيقِ إلى حالِ الفَرَجِ، يُريحُ المرءَ ويَجعلُهُ يَعيشُ حياةً أخرَى، وهناكَ كلمةٌ عظيمةٌ لشيخِ الإسلامِ ابنِ تيميةَ رحمه الله تُبيِّنُ هذا الأمرَ بوضوحٍ وجلاءٍ، فقدْ نَقَلَ عنْهُ تلميذُه ابنُ القيمِ رحمه الله أنَّه كانَ يقولُ: (مَا يَصنعُ أعدائِي بِي؟ أنَا جَنَّتِي وبُستانِي فِي صدْرِي، إنْ رُحْتُ فهيَ معِي لا تُفارِقُنِي، إنَّ حَبْسِي خَلْوةٌ، وقَتْلِي شهادةٌ، وإِخْرَاجِي مِنْ بَلَدِي سياحةٌ) ،فبتحقيقِ الانتقالِ الذهنيِّ، تتحوَّلُ مباني السَّجنِ الضيقةُ المغلقةُ المظلمةُ إلَى خَلوةٍ معَ اللهِ عز وجل ،وفُرْصَةٍ للتألُّهِ والتَّعَبُّدِ، ويتحوَّلُ البعدُ عنِ الوطنِ والأهلِ وفِراقُ الأحبابِ إلَى سِياحةٍ، فإذَا قتلوهُ في نهايةِ المطَافِ كانَ قتلُه شهادةً لأنَّه ما قُتِلَ إلّا مَظلومًا لِما يُبَلِّغه مِنْ عقيدةِ أهلِ السنةِ والجماعةِ ،ويُريدُ بذلكَ أنْ تكونَ كلمةُ اللهِ هي العُليا ، فَعَلَيْنا أنْ نأخُذَ مِنْ آياتِ الفَرجِ ما نُطبِّقُه في بُيوتِنا، فإذا تَعَامَلْنَا معَ مُشكلاتِنا في بيوتِنا في ضَوءِ هذهِ القاعدةِ تغيَّرتْ حياتُنا، فإذا وَقَعَ ما نَكْرَهُ مِنْ أزواجِنا أوْ أولادِنا، فَلْنَنتظِرِ الفرجَ والرحمةَ، ولا نَستعجلْ في التصرفِ والكلامِ واتخاذِ موقفٍ لا يُناسِبُ، إِذْ {لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا}، {سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا}، فلْنفعلْ ذلكَ لِتستقرَّ حياتُنا ونَسْعدَ في شؤونِنِا ، فهذا وعد من أصدق القائلين، وهي بشرى لعباده المؤمنين، أن سنته الماضية وحكمته القاضية، بأن العسر بعده يسر، فلا يضيق الأمر ويشتد الكرب إلا ويتبعه يسر، فبشر كل مكروب ومنكوب بفجر صادق من الفرج ،يصادر فلول الشدائد، ففي ذلك سلوة للمعذبين بسياط الظالمين، وعزاء للمصابين، وبشرى لأهل البلاء، وهذه الآية هدية غالية لمن طرح في السجن، وغلت يداه، وكبلت رجلاه، ليعلم أن فرجه قريب، وخروجه وشيك إلى عالم الحرية والانطلاق، وهي تحفة ثمينة لمن أقعده المرض، وأضناه البلاء، أنه موعود بشفاء عاجل، وعافية قادمة، فبعد الجوع شبع، وإثر التعب راحة، وعقب السقم شفاء، وخاتمة الشدة رخاء، ونهاية الفقر غنى، النهار يخلف الليل، والنور يطوي الظلام، والماء يزحف على الجدب ،فإذا امتدت الصحراء فوراءها رياض خضراء، وإذا اشتد الحبل انقطع، وإذا رأيت السحب السود فاعلم أن الغيث الهنئ في جوانحها، وإذا هالك الظلام فتيقن أن الصباح مقبل لا محالة ،والعسر بعده يسران ،وليس يسر واحد، لتعلم أن مرارة المعاناة لها نهاية، وشظف العيش إلى انقطاع ، وكبد الحياة إلى راحة، لو أن الخوف دائم لتقطعت النفوس حسرة، ولكن بعد أمن وسكينة، ولو أن الحزن مستمر لزلزلت القلوب زلزالها ،ولكن يعقبه سرور وأنس، ولو أن اليأس مقيم لاسودت الحياة في العيون، ولكن خلفه أمل ،فلا تيأس من روح الله ،ولا تقنط من رحمة الله، ولا تصارع الأوهام، ولا تقاتل الوساوس، بل انظر من بوابة الرجاء ،لترى العالم المشهود، والحضرة المأنوسة، والسعادة القادمة، ولترى العناية الربانية تغمرك ،واللطف الإلهي يحوطك
فبشر آمالك بمستقبل زاه ،وغد مشرق ،وفجر باه جديد؛ لأنه سبحانه ما ابتلاك ليهلكك ،وما أبدك ليخزيك؛ بل أراد أن يذكرك بسوط من ألم، وأن يوقظك من غفلتك بوخزه من ندم، وينبهك من رقدتك بجرعة من سقم؛ لتتذكر بالمصيبة النعمة، وبالبلاء العافية، وبالمرض الصحة، وبالسجن الحرية، وبالجوع الشبع، وحكيم في المسلكين، ولا تدري بالأصلح، ولا تعلم بالأحسن ، بل هو الأعلم الأحكم الأحلم الأرحم، جل في علاه، فارض باختياره، فاختياره لك خير من اختيارك لنفسك، وعلمه بمصالحك أجل وأعظم من علمك؛ لأنك عبد جاهل فقير ضعيف، وهو عليم غني قوي ملك رحمن رحيم .
أيها المسلمون
ومن الأسباب المعينة على تخطي عقبات العسر إذا اعترضت سبيل المرء ما يلي: أولاً : الثقة بالله ،والتوكل عليه ،والاستيقان بأنه كاشفُ الضّر ،ومُفرِّج الكربات، وهذا من أهم ما يحجز المرء عن تحطُّمِ المعنويات ،والانهيار النفسي إذا دهمته الأزمات، ويُستعانُ على تعويد النفس الثقةَ بالله باستحضار نصوص الوعد بالتيسير كقوله تعالى: (فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً، إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً) ووعد الله كان مأتياً لا خُلْفَ فيه، وباستحضار قصص الذين نالهم عسرٌ، فيسّر الله عليهم ،سواءٌ في ذلك الأمم ،كما حصل لبني إسرائيل إذْ نالهم من عنتِ فرعون وقومه ما هو معلومٌ ثم فرّج الله عنهم، والأفراد كما حصل ليوسف عليه السلام حين أُلقي في الجبِّ، فأخرجه الله منه ،وآل أمره إلى أن أُوتي من الملك، وكما حصل لأبيه يعقوب عليه السلام لما فقد فلذة كبده، وتراكمت آلامه، ثم جاء الفرج من الله، ففي تذكُّر أحوال هؤلاء ، وتصوُّر ما لاقوا من العسر ،وما آلت إليه أحوالهم من اليسر ،ما يُسلِّي فؤاد المحزون، ويُذكِّره بعظمة قدرة الله وكرمه، وهذه القصص إنما حُكيت لنا للاعتبار بها والتأمل فيها (لَقَدْ كانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبابِ) يوسف (111).
ثانياً : ومن الأسباب المعينة على تخطي عقبات العسر :الدعاء عند نزول الشدائد، فالدعاء مفتاحُ الفرج وفي حديثِ ثوبان رضي الله تعالى عنه (لَا يَزِيدُ فِي الْعُمْرِ إِلَّا الْبِرُّ، وَلَا يَرُدُّ الْقَدَرَ إِلَّا الدُّعَاءُ) أخرجه الترمذي وغيره، وحسّنه الألباني، وإذا صدر الدعاء من مُضطرٍّ ضاق عليه خناق المعضلات كان أحرى أن يُستجاب له قال الله تعالى: (أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذا دَعاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ)، وبعض الناس يزهد في الدعاء عند تفاقم العسر استسلاماً للواقع الذي يراه، ولا يتذكّر أن النازلة التي تضعضع صبره لأجلها إنما نزلت بقضاء الله، وإذا رفعها ارتفعت، ولا تُوجد حالة مهما بلغت من الصعوبة يكون فيها باب الدعاء مُوصداً أمام المكروب، كيف لا وقد قرعه يونس عليه السلام في بطن الحوت في أعماق البحر فرُفعت دعوته إلى السماء، وجاءه الفرج، فكشف الله ما به من ضرٍّ.
ثالثاً: ومن الأسباب المعينة على تخطي عقبات العسر : أن يعرف الله في الرخاء ليعرفه الله في الشدة ، وفي حديث ابن عباس رضي الله تعالى عنهما (احْفَظِ اللَّهَ يَحْفَظْكَ، احْفَظِ اللَّهَ تَجِدْهُ أَمَامَكَ، تَعَرَّفْ إِلَى اللَّهِ فِي الرَّخَاءِ يَعْرِفْكَ فِي الشِّدَّةِ) أخرجه الحاكم،
رابعاً: ومن الأسباب المعينة على تخطي عقبات العسر : السعي المشروع في الأسباب التي وُضعت لمعالجة المشكلات، فالإسلام دين العمل والسعي الدؤوب، ولا ينبغي للمسلم أن يكون ضعيفاً متهافت العزيمة، يستسلم لأيِّ مشكلةٍ ألـمَّتْ به، بل اللائق به إذا حزبه أمرٌ أن يستعين بالله مع صدق اللجوء إلى الله، ثم يُعالجُ مشكلته بالمعتاد من الوسائل، وأن لا ينشغل بالتحسُّر والتندُّم ولوم النفس على عدم الاحتراز، فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله تعالى عنه، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الْمُؤْمِنُ الْقَوِيُّ، خَيْرٌ وَأَحَبُّ إِلَى اللهِ مِنَ الْمُؤْمِنِ الضَّعِيفِ، وَفِي كُلٍّ خَيْرٌ احْرِصْ عَلَى مَا يَنْفَعُكَ، وَاسْتَعِنْ بِاللهِ وَلَا تَعْجَزْ، وَإِنْ أَصَابَكَ شَيْءٌ، فَلَا تَقُلْ لَوْ أَنِّي فَعَلْتُ كَانَ كَذَا وَكَذَا، وَلَكِنْ قُلْ قَدَرُ اللهِ وَمَا شَاءَ فَعَلَ، فَإِنَّ لَوْ تَفْتَحُ عَمَلَ الشَّيْطَانِ» أخرجه مسلم.
أيها المسلمون
فهل يعي المسلمون اليوم هذه الحقيقة وهم يعيشون أزمة البعد عن دين الله، والإعراض عن شرعه، وانتشار ألوان الفساد، وفي المقابل: التآمر في كثير من الدول على الإصلاح والمصلحين, وانسداد الأبواب في وجوههم، مما أدى إلى سيطرة اليأس على كثير من المسلمين وأصبحت لغة التشاؤم هي السائدة في مجالس بعض الصالحين.
إن المسلم يشعر أن الأمور بقدر الله، وأنه -تبارك وتعالى- قد كتب مقادير الخلائق قبل أن يخلق السماوات والأرض، وأن قدره وقدرته فوق كل ما يريد ويكيد البشر.
إن الأمر قد يكون في ظاهره شرّاً، ثم تكون العاقبة خيراً بإذن الله، أرأيت حادثة الإفك وفيها من الشناعة والبشاعة ما فيها، ومع ذلك هي بنص القرآن: {لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَّكُم بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ} (11) النور. وها هو سراقة بن مالك -رضي الله عنه- يلحق النبي -صلى الله عليه وسلم- فكان أول النهار جاهداً على نبي الله، وكان آخر النهار مسلحة له ،فواقع الأمة اليوم قد بلغ من الترهل والخمول ما يجعل يقظة الأمة أجمع لا تتحقق إلا حين تبلغ الغاية في الذل والانهيار والمهانة، فالمسلم يرفض ذلك شرعاً وديناً ويسعى لدفعه، لكنه قدَراً يعلم أن عاقبته إلى خير بإذن الله، وفي التاريخ عبرة: ألم يكن اجتياح التتار والمغول لبلاد الإسلام، والغزو الصليبي رافداً مهمّاً من روافد يقظة الأمة ونهوضها، بعد أن وصلت إلى مرحلة شبيهة بما نحن فيه اليوم؟ فما أجدر بالصالحين اليوم أن ينظروا بعين التفاؤل، وأن ينصرفوا للعمل والجد، ويَدَعُوا عنهم اليأس والتخذيل؛ فكيد أهل الفساد في بوار، ودين الله ظاهر: {وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ} (8) المنافقون.
إخوة الإسلام
المسلمون يؤمنون بأن في المحن منحاً، وبأن النصر مع الصبر، وبأن مع العسر يسراً: {وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} (139) آل عمران. وقال الله تعالى :{حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّواْ أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُواْ جَاءهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَن نَّشَاء وَلاَ يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ } (110) يوسف ،ومن تأمل سيرة النبي -صلى الله عليه وسلم- وجد أنه يعتني بتعزيز روح التفاؤل لدى أصحابه في المواقف الحرجة، فحين أتاه خباب -رضي الله عنه- يشتكي له ما لقي من المشركين قال له: (وَاللَّهِ, لَيُتِمَّنَّ هَذَا الْأَمْرَ حَتَّى يَسِيرَ الرَّاكِبُ مِنْ صَنْعَاءَ إِلَى حَضْرَمَوْتَ لَا يَخَافُ إِلَّا اللَّهَ أَوْ الذِّئْبَ عَلَى غَنَمِهِ، وَلَكِنَّكُمْ تَسْتَعْجِلُونَ) رواه البخاري. وفي غزوة الأحزاب حين اشتد الكرب بالمؤمنين، وبلغت القلوب الحناجر، وظن المنافقون الظنون بربهم -تبارك وتعالى- فتح النبي -صلى الله عليه وسلم- باب الفأل أمام أصحابه، فعَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ -رضي الله عنه- قَالَ أَمَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- بِحَفْرِ الْخَنْدَقِ، قَالَ: وَعَرَضَ لَنَا صَخْرَةٌ فِي مَكَانٍ مِنْ الخَنْدَقِ لا تَأْخُذُ فِيهَا الْمَعَاوِلُ، قَالَ: فَشَكَوْهَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فَجَاءَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ عَوْفٌ: وَأَحْسِبُهُ قَالَ: وَضَعَ ثَوْبَهُ، ثُمَّ هَبَطَ إِلَى الصَّخْرَةِ فَأَخَذَ الْمِعْوَلَ فَقَالَ: (بِسْمِ اللَّهِ), فَضَرَبَ ضَرْبَةً فَكَسَرَ ثُلُثَ الْحَجَرِ وَقَالَ:(اللَّهُ أَكْبَرُ أُعْطِيتُ مَفَاتِيحَ الشَّامِ، وَاللَّه! إِنِّي لأُبْصِرُ قُصُورَهَا الْحُمْرَ مِنْ مَكَانِي هَذَا), ثُمَّ قَالَ: (بِسْمِ اللَّهِ), وَضَرَبَ أُخْرَى فَكَسَرَ ثُلُثَ الْحَجَرِ فَقَالَ: (اللَّهُ أَكْبَرُ أُعْطِيتُ مَفَاتِيحَ فَارِسَ، وَاللَّهِ! إِنِّي لأُبْصِرُ الْمَدَائِنَ وَأُبْصِرُ قَصْرَهَا الأَبْيَضَ مِنْ مَكَانِي هَذَا), ثُمَّ قَالَ: (بِسْمِ اللَّهِ), وَضَرَبَ ضَرْبَةً أُخْرَى فَقَلَعَ بَقِيَّةَ الْحَجَرِ فَقَالَ: (اللَّهُ أَكْبَرُ أُعْطِيتُ مَفَاتِيحَ الْيَمَنِ، وَاللَّهِ! إِنِّي لأُبْصِرُ أَبْوَابَ صَنْعَاءَ مِنْ مَكَانِي هَذَا) رواه أحمد ، فإشاعة الروح الإيجابية والتفاؤل ينبغي أن تكون واقعية، ومستندة إلى السنن الربانية، لا أن تكون مجرد تخدير للمشاعر والعواطف، فضلاً عن تلمس المنامات أو السعي إلى تنزيل ما صح وما لم يصح من أخبار الفتن الملاحم .
أقول قولي وأستغفر الله لي ولكم
الخطبة الثانية ( سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا )
الحمد لله رب العالمين . اللهم لك الحمد على نعمة الإسلام والايمان .ولك الحمد أن جعلتنا من أمة محمد عليه الصلاة والسلام. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له . وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
أما بعد أيها المسلمون
فلا تيأسوا ،واعلموا أن بعد الجوع شبعاً، وبعد الضمأِ ريّاً، وبعد السهر نوماً، وبعد المرض
عافية، وسوف يصل الغائب، ويهتدي الضال، ويفك العاني، وينقشع الظلام, {فَعَسَى اللّهُ أَن يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِّنْ عِندِهِ} (52) المائدة. وبشر الليل بصبح صادق يطارده على رؤوس الجبال ومسارب الأودية، بشر المهموم بفرج مفاجئ يصل في سرعة الضوء ولمح البصر، بشر المنكوب بلطف خفي وكف حانية وادعة ، وإذا رأيت الصحراء تمتد وتمتد ،فاعلم أن وراءها رياضاً خضراء وارفة الظلال, وإذا رأيت الحبل يشتد ويشتد ،فاعلم أنه سوف ينقطع، فمع الدمعة بسمة، ومع الخوف أمناً، ومع الفزع سكينة, فالنار لا تحرق إبراهيم التوحيد لأن الرعاية الربانية فتحت نافذة برداً وسلاماً, والبحر لا يغرق كليم الرحمن لأن الصوت القوي الصادق نطق بـ {كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ} (62) الشعراء. والمعصوم في الغار بشر صاحبه بأنه وحده معنا ،فنزل الأمن والفتح والسكينة. إذن فلا تضق ذرعاً ،فمن المحال دوام الحال، وأفضل العبادة انتظار الفرج، والأيام دول، والدهر قلب، والليالي حبالى، والغيب مستور، والحكيم كل يوم هو في شأن، ولعل الله يحدث بعد ذلك أمراً، وإن مع العسر يسر .
الدعاء