خطبة عن (يَا عِبَادَ اللَّهِ فَاثْبُتُوا)
فبراير 13, 2025خطبة عن (رَأَيْتُ اللَّهَ)
فبراير 15, 2025الخطبة الأولى ( مِنْ حُسْنِ إِسْلاَمِ الْمَرْءِ تَرْكَهُ مَا لاَ يَعْنِيهِ )
الحمد لله رب العالمين . اللهم لك الحمد على نعمة الإسلام والايمان .ولك الحمد أن جعلتنا من أمة محمد عليه الصلاة والسلام. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له . وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
أما بعد أيها المسلمون
روى الامام الترمذي في سننه : (عَنْ عَلِىِّ بْنِ حُسَيْنٍ قَالَ :قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- : « إِنَّ مِنْ حُسْنِ إِسْلاَمِ الْمَرْءِ تَرْكَهُ مَا لاَ يَعْنِيهِ »
إخوة الإسلام
لقاؤنا اليوم -إن شاء الله تعالى- مع هذا الأدب النبوي الكريم، فهذا الحديث النبوي هو عظيم الفائدة ،كبير النفع ،وهو أصل كبير في تأديب النفس وتهذيبها ،وصيانتها عن الرذائل والنقائص ،وترك ما لا جدوى فيه ولا نفع ،قال ابن رجب رحمه الله : هذا الحديث أصل من أصول الأدب، وقال حمزة الكناني رحمه الله :هذا الحديث ثلث الإسلام، وقال ابن عبد البر (رحمه الله) :كلامه صلى الله عليه وسلم هذا من الكلام الجامع للمعاني الكثيرة الجليلة في الألفاظ القليلة، وهو ما لم يقُلْه أحد قبله، وفي قوله صلى الله عليه وسلم : « إِنَّ مِنْ حُسْنِ إِسْلاَمِ الْمَرْءِ تَرْكَهُ مَا لاَ يَعْنِيهِ »؛ أي: من جملة محاسن إسلام الإنسان، وكمال إيمانه : تركه ما لا يُهمه من شؤون الدنيا، سواء من قول أو فعل. قال ابن تيمية رحمه الله :(ولا سيما كثرة الفضول فيما ليس بالمرء إليه حاجة من أمر دين غيره ودنياه) ،وقيل: فإن اقتصر الإنسان على ما يعنيه من الأمور، سَلِمَ من شر عظيم، والسلامة من الشر خير، وقال الشيخ عبدالرحمن السعدي رحمه الله : إن من لم يترك ما لا يعنيه، فإنه مسيء في إسلامه، وقال ابن القيم رحمه الله : وقد جمع النبي صلى الله عليه وسلم الورع كله في كلمة واحدة، فقال: (من حسن إسلام المرء: تركُه ما لا يعنيه)، فهذا يعم الترك لما لا يعني: من الكلام، والنظر، والاستماع، والبطش، والمشي، والفكر، وسائر الحركات الظاهرة والباطنة، فهذه كلمة شافية في الورع ) ،وترك ما لا يعني يشمل أيضا: المحرمات، أو المشتبهات، أو المكروهات، وفضول المباحات التي لا يحتاج إليها، وما لا يعني قد تكون في النفس، وقد تكون في الناس، فقد يكون من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه في نفسه، أو تركه ما لا يعنيه في أمور الناس، فمن الأشياء التي تركها ما لا يعنيه في نفسه مثل اللهو واللعب، أو السفر الذي لا فائدة من ورائه، لا فائدة دينية، كطلب العلم، ولا فائدة دنيوية مشروعة، كالعلاج أو التجارة، هذا اللهو، أو اللعب، أو الأسفار هل تعنيك في دنياك أو آخرتك؟ كلا – بل إنها وبال على صاحبها ؛لأنها تورده موارد الهلاك. ويدخل في هذا مثلاً مطالعة الأخبار الدقيقة، وقراءة المجلات أو الصحف في مقالاتها التي لا خير فيها، ولا بركة ترجى من وراء قراءتها؛ وقال الغزالي: حدّ ما لا يعنيك في الكلام أن تتكلم بما لو سكت عنه لم تأثم ولا تتضرّر حالاً ولا مآلاً، قال: فإن شغلت بما لا يعنيك فإنك مضيع زمانك ومحاسب على عمل لسانك، إذ تستبدل الذي هو أدنى بالذي هو خير، ولو صرفته في الذكر والدعاء ربما انفتح لك من نفحات الله ما يعظم جدواه، ومن قدر على أن يأخذ كنزاً من كنوز الجنة وأخذ بدله بدرة كان خاسراً، فينبغي ألا يشتغل إلا بما فيه صلاحه معاشاً ومعاداً بتحصيل ما لا بد منه في قوام البدن وبقاء النوع الإنساني، ثم بالسعي في الكمالات العلمية والفضائل العلية، التي هي وسيلة لنيل السعادة الأبدية، والفوز بالنعم السرمدية، وأن يعرض عما عدا ذلك: وذلك إنما يكون بالمراقبة ومعرفة أنه فيما يأتيه بمرأى ومسمع من الله سبحانه وتعالى، وأنه لا يخفى عليه شيء من شأنه. قال معروف: علامة مقت الله للعبد أن تراه مشتغلاً بما لا يعنيه، فإنّ من اشتغل بما لا يعنيه فاته ما يعنيه.
أيها المسلمون
كما أرشدنا النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث :إلى الطريق الذي يبلغ به العبد كمال دينه ،وحسن إسلامه ،وصلاح عمله ، فبيّن أن مما يزيد إسلام المرء حسنا ،أن يدع ما لا يعنيه ولا يفيده في أمر دنياه وآخرته ، ففي الحديث توجيه للأمة بالاشتغال بما ينفعها ،ويقرّبها من ربّها ، كما جاء في الحديث الذي رواه الإمام مسلم : (عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- « الْمُؤْمِنُ الْقَوِىُّ خَيْرٌ وَأَحَبُّ إِلَى اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِ الضَّعِيفِ وَفِى كُلٍّ خَيْرٌ احْرِصْ عَلَى مَا يَنْفَعُكَ وَاسْتَعِنْ بِاللَّهِ وَلاَ تَعْجِزْ) فأرشد صلى الله عليه وسلم إلى اغتنام الأوقات بالخيرات ، فإن الدنيا مزرعة للآخرة ، وعمر الدنيا قصير ،فهو كظل شجرة ،يوشك أن يذهب سريعا ،لذا فالإنسان العاقل الذي جعل الآخرة همّه، والجنة مأربه ،يغتنم أوقاته كلها ،فاهتمام المرء وانشغاله بما يعنيه فيه فوائد عظيمة ،فالنفس إن لم تشغلها بالطاعة شغلتك بالمعصية ، فمن اشتغل بالناس نسي أمر نفسه ،وأوشك اشتغاله بالناس أن يوقعه في أعراضهم بالقيل والقال ،كما أن انشغال المرء بنفسه وبما يعينه فيه حفظ للوقت ،ومسارعة في الخير ،فضلا عما يورثه ذلك على مستوى المجتمع من حفظ الثروات ، وتنمية المكتسبات، وإشاعة روح الجدية والعمل ،والإخاء والتعاون .
والتَرك المقصود في هذا الحديث يشمل أمورا كثيرة ، منها ترك فضول النظر ، لما في التطلع إلى متاع الدنيا من إفساد للقلب ،وإشغال للبال ،يقول الشيخ عبدالرحمن السعدي رحمه الله في تفسير قوله تعالى : {وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى} (131) طه : ” أي: لا تمد عينيك معجبا، ولا تكرر النظر مستحسنا إلى أحوال الدنيا والممتعين بها، من المآكل والمشارب اللذيذة، والملابس الفاخرة، والبيوت المزخرفة، والنساء المجملة، فإن ذلك كله زهرة الحياة الدنيا، تبتهج بها نفوس المغترين، وتأخذ إعجابا بأبصار المعرضين، ويتمتع بها – بقطع النظر عن الآخرة – القوم. الظالمون، ثم تذهب سريعا، وتمضي جميعا، وتقتل محبيها وعشاقها، فيندمون حيث لا تنفع الندامة ” .
ومن الأمور التي يشملها الترك في الحديث : ترك فضول الكلام ، ولغو الحديث ؛ لأنه يتعلق بجارحة خطيرة ، ألا وهي جارحة اللسان ،وقد امتدح الله عباده المؤمنين بقوله تعالى : { وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ } (المؤمنون : 3) ، فمن صان لسانه عن فضول القول ،سَلِمَ من انزلاقه فيما لا يحبه الله ويرضاه ، وحمى منطقه من الغيبة والنميمة ، ولذلك حث الشرع في مواطن كثيرة على لزوم الصمت إلا بما فيه ذكر الله تعالى ،والأمر بالمعروف ، والنهي عن المنكر ، قال الله عز وجل : { لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا} (النساء : 114) . ويدخل في هذا الخوض في المسائل التي لا ينبني عليها عمل ،كما هي القاعدة العظيمة الفاذة من قواعد عقيدة المسلمين “كل مسألة لا ينبني عليها عمل، فالخوض فيها من التكلف الذي نهينا عنه”؛ ومن أمثلة ذلك الخوض في كيفية صفات الله، فترى الشيطان يوحي في عقول أوليائه، التفكير كيف يد الله؟ كيف عرش الله؟ كيف كلام الله؟ كيف قدم الله؟ وهكذا من المسائل التي لا يجوز الخوض في التفكير فيها مطلقاً، بل إننا نؤمن بها، ونسلم بها، ونقر بها على ظاهرها المفهوم منها من المعاني في كلام العرب، لا نغير عليها بسهام التأويل أو التحريف أو التشبيه والتجسيم، بل نتلقاها بالقبول كما تلقاها السلف الصالح. وكذلك الخوض في تفاصيل القضاء والقدر، فالخوض في تفاصيل القضاء والقدر وإعمال العقل فيها ينتج عنه إلحاد، وتكذيب بأوامر الشرع، وما جاءت به الرسل؛ فنحن نؤمن أن ما يجري بقضاء الله وقدره، ونؤمن أن للإنسان إرادة ومشيئة داخلة تحت إرادة الله ومشيئته، نؤمن بهذه القواعد الكلية، لكن لا نخوض بعقولنا القاصرة في أشياء لم يعطى للعقل المجال للخوض فيها؛ لأنها من الأمور الغيبية.
ومما نهينا عن الخوض فيه :السؤال عما لا فائدة فيه، والاشتغال بما لا يفيد في البحث كاسم كلب أصحاب الكهف ما عدد مسامير سفينة نوح؟ وهكذا من المسائل التي يشتغل بعض طلبة العلم بالبحث فيها وليست مما يفيده بل هي داخلة قطعاً في هذا الحديث.
ويدخل فيها كذلك كثير من الهوايات التي يشتغل بها الناس اليوم، كالاشتغال بجمع الطوابع مثلاً؟ أو الاشتغال بجمع التحف النادرة؟ فماذا يفيدنا الاشتغال بهذه الأشياء؟ ماذا يفيد الاشتغال بقراءة كتب بالفلوكلور الشعبي، والتقاليد الشعبية، أو الأكلات الشعبية الموجودة في بلدان العالم، بعض الناس عندهم هوايات عجيبة تدل فعلاً على أن عقولهم فارغة، وليس عندهم ما يشتغلون به، ولا يعرفون من كتاب الله وسنة رسوله ما يفيدهم وينفعهم؛ ولذلك ينصرفون لهذه الهوايات،
أقول قولي وأستغفر الله لي ولكم
الخطبة الثانية ( مِنْ حُسْنِ إِسْلاَمِ الْمَرْءِ تَرْكَهُ مَا لاَ يَعْنِيهِ )
الحمد لله رب العالمين . اللهم لك الحمد على نعمة الإسلام والايمان .ولك الحمد أن جعلتنا من أمة محمد عليه الصلاة والسلام. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له . وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
أما بعد أيها المسلمون
وينبغي أن يُعلم أن الضابط الصحيح لترك ما لا يعني هو الشرع ، لا مجرد الهوى والرأي ، لذلك جعله النبي صلى الله عليه وسلم أمارة على حسن إسلام المرء ، فإن البعض يدع أمورا قد دلّت عليها الشريعة ، بدعوى أنها تدخّل في شؤون الآخرين ، فيعرض عن إسداء النصيحة للآخرين ، ويترك ما أمره الله به من الأمر بالمعروف ، والنهي عن المنكر ، بحجة احترام الخصوصيات ، وكل هذا مجانبة للشرع ، وبعد عن هدى النبوة ؛ فإنه صلى الله عليه وسلم كان تاركا لما لا يعنيه ، ومع ذلك كان ناصحا مرشدا ، آمرا بالمعروف ، ناهيا عن المنكر ، عاملا بأمر الله في حلّه وترحاله .
ومن الفوائد الكثيرة التي يمكن أن نستنبطها من هذا الحديث: أنه ينبغي للإنسان أن يدع ما لا يعنيه؛ لأن ذلك أحفظ لوقته، وأسلم لدينه. وفي ترك اللغو والفضول دليل على كمال إسلام المرء. وفيه الحث على استثمار الوقت بما يعود على العبد بالنفع. والبُعد عن سفاسف الأمور ومرذولها. وأن التدخل فيما لا يعني يؤدي إلى الشقاق بين الناس. والحديث أصل عظيم للكمال الخلقي، وزينة للإنسان بين ذويه وأقرانه. وفي الحديث حثٌّ على الاشتغال فيما يعني المرءَ من شؤون دِينه ودنياه، فإذا كان مِن حُسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه، فمِن حُسنه إذًا اشتغالُه
فيما يعنيه.
الدعاء