خطبة عن حديث (يَدْخُلُ الْجَنَّةَ أَقْوَامٌ أَفْئِدَتُهُمْ مِثْلُ أَفْئِدَةِ الطَّيْر)
فبراير 9, 2019خطبة عن قوله تعالى (فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ)
فبراير 9, 2019الخطبة الأولى (وَاللَّهِ مَا الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلاَّ مِثْلُ مَا يَجْعَلُ أَحَدُكُمْ إِصْبَعَهُ فِي الْيَمِّ فَلْيَنْظُرْ بِمَ يَرْجِعُ)
الحمد لله رب العالمين . اللهم لك الحمد على نعمة الإسلام والايمان .ولك الحمد أن جعلتنا من أمة محمد عليه الصلاة والسلام. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له . وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
أما بعد أيها المسلمون
روى مسلم في صحيحه : ( حَدَّثَنَا قَيْسٌ قَالَ سَمِعْتُ مُسْتَوْرِدًا أَخَا بَنِى فِهْرٍ يَقُولُ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- : « وَاللَّهِ مَا الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلاَّ مِثْلُ مَا يَجْعَلُ أَحَدُكُمْ إِصْبَعَهُ هَذِهِ – وَأَشَارَ يَحْيَى بِالسَّبَّابَةِ – فِي الْيَمِّ فَلْيَنْظُرْ بِمَ يَرْجِعُ ».
إخوة الإسلام
لقاؤنا اليوم -إن شاء الله- حول معنى هذا الحديث النبوي الشريف ، وما يرشد إليه من الزهد في الدنيا ، ومعرفة حقيقتها ، والزهد فيها ، وعدم الاغترار بها ، والخوض في شهواتها ، ففي قوله صلى الله عليه وسلم : (وَاللَّهِ مَا الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلاَّ مِثْلُ مَا يَجْعَلُ أَحَدُكُمْ إِصْبَعَهُ فِي الْيَمِّ فَلْيَنْظُرْ بِمَ يَرْجِعُ ) أي : ما مثل الدنيا من نعيمها وزمانها (فِي الآخِرَةِ ) أي : في جنبها ومقابلة نعيمها وأيامها (إِلاَّ مِثْلُ) جعل أحدكم (إِصْبَعَهُ فِي الْيَمِّ) أي : مغموسا في البحر ذي الماء الكثير ،(فَلْيَنْظُرْ بِمَ يَرْجِعُ) أي : فليتأمل أحدكم بأي شيء يرجع أصبع أحدكم من ذلك الماء ،وليتفكر بأي مقدار من البلة الملتصقة من اليم يرجع أصبعه إلى صاحبه ، فمنح الدنيا ومحنها في كسب الجاه والمال من الأمور الفانية السريعة الزوال ، فلا ينبغي لأحد أن يفرح ويغتر بسعتها ، ولا يجزع ويشكو من ضيقها ، بل يقول في الحالتين : لا عيش إلا عيش الآخرة ! فإنه قاله – صلى الله عليه وسلم – مرة في يوم الأحزاب ، وأخرى في حجة الوداع وجمعية الأصحاب ، ثم يعلم أن الدنيا مزرعة الآخرة ، وأن الدنيا ساعة فيصرفها في الطاعة . قال الطيبي رحمه الله : وضع موضع قوله فلا يرجع بشيء كأنه – صلى الله عليه وسلم – يستحضر تلك الحالة في مشاهدة السامع ، ثم يأمره بالتأمل والتفكر هل يرجع بشيء أم لا ؟ وهذا تمثيل على سبيل التقريب وإلا فأين المناسبة بين المتناهي وغير المتناهي ؟، وقال الإمام النووي في “شرح مسلم” أنه لا يعلق من الماء فيها كثير ؛ فما الدنيا بالنسبة إلى الآخرة في قصر مدتها ، وفناء لذاتها ، ودوام الآخرة ، ودوام لذاتها ونعيمها ، إلا كنسبة الماء الذي يعلق بالأصبع إلى باقي البحر ، وكتب الحسن البصري إلى أمير المؤمنين عمر بن عبدالعزيز كتابا فيه: ” أما بعد: فإن الدنيا دار ظعن ليست بدار مقام، وإنما أنزل إليها آدم عقوبة، فاحذرها يا أمير المؤمنين؛ فإن الزاد منها تركها، والغنى فيها فقرها، تذل من أعزها، وتفقر من جمعها، فاحذر هذه الدنيا الغرارة الخداعة، سرورها مشوب بالحزن، فلو أن الخالق لم يخبر عنها خبرا، ولم يضرب لها مثلا لكانت قد أيقظت النائم، ونبهت الغافل، فكيف وقد جاء من الله عنها زاجر؟. فما لها عند الله قدر ولا وزن، ما نظر إليها منذ خلقها، ولقد عرضت على نبينا محمد مفاتيحها وخزائنها، فأبى أن يقبلها، وكره أن يحب ما أبغض خالقه، أو يرفع ما وضع مليكه. زواها الله عن الصالحين اختيارا، وبسطها لأعدائه اغترارا، أفيظن المغرور بها المقتدر عليها أنه أكرم بها؟، ونسي ما صنع الله بمحمد عليه الصلاة والسلام حين شد على بطنه الحجر، والله ما أحد من الناس بسط له في الدنيا، فلم يخف أن يكون قد مكر به، إلا كان قد نقص عقله، وعجز رأيه”.
أيها المسلمون
وفي شأن الدنيا ، ومعرفة حقيقتها ، يقول الله تعالى: ﴿ اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ ﴾ [الحديد: 20]. وقال الله تعالى: ﴿ إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعَامُ حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ ﴾ [يونس: 24]. وقال تعالى: ﴿ وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِرًا * الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا ﴾ [الكهف: 45- 46]. وفي السنة النبوية المطهرة الكثير والكثير من الأحاديث التي بين فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم حقيقة الدنيا ، وما بينها وبين الدار الآخرة من تفاوت في المنزلة والمتاع والبقاء ، فقد روى مسلم في صحيحه : (عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- مَرَّ بِالسُّوقِ دَاخِلاً مِنْ بَعْضِ الْعَالِيَةِ وَالنَّاسُ كَنَفَتَهُ فَمَرَّ بِجَدْىٍ أَسَكَّ مَيِّتٍ فَتَنَاوَلَهُ فَأَخَذَ بِأُذُنِهِ ثُمَّ قَالَ : « أَيُّكُمْ يُحِبُّ أَنَّ هَذَا لَهُ بِدِرْهَمٍ ». فَقَالُوا مَا نُحِبُّ أَنَّهُ لَنَا بِشَيْءٍ وَمَا نَصْنَعُ بِهِ قَالَ « أَتُحِبُّونَ أَنَّهُ لَكُمْ ». قَالُوا وَاللَّهِ لَوْ كَانَ حَيًّا كَانَ عَيْبًا فِيهِ لأَنَّهُ أَسَكُّ فَكَيْفَ وَهُوَ مَيِّتٌ فَقَالَ « فَوَ اللَّهِ لَلدُّنْيَا أَهْوَنُ عَلَى اللَّهِ مِنْ هَذَا عَلَيْكُمْ ». وعَنْ أُبَىِّ بْنِ كَعْبٍ قَالَ ،قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- « إِنَّ مَطْعَمَ ابْنِ آدَمَ جُعِلَ مَثَلاً لِلدُّنْيَا وَإِنْ قَزَّحَهُ وَمَلَّحَهُ فَانْظُرُوا إِلَى مَا يَصِيرُ » رواه أحمد وصححه الألباني. وروى الترمذي في سننه وصححه (عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ نَامَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- عَلَى حَصِيرٍ فَقَامَ وَقَدْ أَثَّرَ فِي جَنْبِهِ فَقُلْنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ لَوِ اتَّخَذْنَا لَكَ وِطَاءً . فَقَالَ « مَا لِي وَمَا لِلدُّنْيَا مَا أَنَا فِي الدُّنْيَا إِلاَّ كَرَاكِبٍ اسْتَظَلَّ تَحْتَ شَجَرَةٍ ثُمَّ رَاحَ وَتَرَكَهَا ». وفيه (عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ قَالَ ،قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- : « لَوْ كَانَتِ الدُّنْيَا تَعْدِلُ عِنْدَ اللَّهِ جَنَاحَ بَعُوضَةٍ مَا سَقَى كَافِرًا مِنْهَا شَرْبَةَ مَاءٍ ». وعن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: « حَقٌّ عَلَى اللَّهِ أَنْ لاَ يَرْتَفِعَ شَيْءٌ مِنَ الدُّنْيَا إِلاَّ وَضَعَهُ » رواه البخاري. وفي صحيح مسلم : (عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ قَالَ ،قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- : « الدُّنْيَا سِجْنُ الْمُؤْمِنِ وَجَنَّةُ الْكَافِرِ ».
فمن الملاحظ في الآيات الكريمة ، وفي الأحاديث الشريفة ، أن الدنيا موصوفة بأنها لهو ولعب ، وأنها لا تساوي شيئاً عند الله ، ولا قيمة لها بجانب الآخرة ، وهي مذمومة في جميع أحوالها إلا ما كان لله، وأنها كلها متاع، وهي عرض زائل وزمنها قصير جداً لا يُمكّن المرء من قضاء حاجاته فيها، والمؤمن لا يركن لها لأنها سجنه وإنما يُطلق من سجنه ويُفك أسره بموته إذا قدم على ربه، ولو كانت الدنيا تعدل عند الله شيئاً ذا قيمة لوهبها الصالحين من عباده ،ولكنه عز وجل ادخر لهم كرامته ، كما في سنن الترمذي بسند حسن (عَنْ قَتَادَةَ بْنِ النُّعْمَانِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ « إِذَا أَحَبَّ اللَّهُ عَبْدًا حَمَاهُ الدُّنْيَا كَمَا يَظَلُّ أَحَدُكُمْ يَحْمِى سَقِيمَهُ الْمَاءَ » ، فإذا علم الموفق أن عباد الله الصالحين الذين يُحبهم قد أكرمهم بحجب الدنيا وزهرتها عنهم، ونزههم عن فتنتها ،وأخلصهم له ولعبادته ،وادّخر لهم كرامته عنده يوم يلقونه بقلوب مطمئنة ،ونفوسٍ راضيةٍ ،بما قدره ربهم الرحيم بهم جلّت قدرته ،وتعالت حكمته ؛ فكيف يأسى بعد ذلك إنسانٌ عاقلٌ على ما يفوته من حطام الدنيا وزخارفها الزائلة عمّا قريب. قال أبو عبدالله النباجيّ: (إذا كان عندك ما أعطى الله عز وجل نوحاً وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمداً لا تراه شيئاً، وإنما تريد ما أعطى الله نمرود وفرعون وهامان فمتى تفلح)
أقول قولي وأستغفر الله لي ولكم
الخطبة الثانية (وَاللَّهِ مَا الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلاَّ مِثْلُ مَا يَجْعَلُ أَحَدُكُمْ إِصْبَعَهُ فِي الْيَمِّ فَلْيَنْظُرْ بِمَ يَرْجِعُ)
الحمد لله رب العالمين . اللهم لك الحمد على نعمة الإسلام والايمان .ولك الحمد أن جعلتنا من أمة محمد عليه الصلاة والسلام. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له . وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
أما بعد أيها المسلمون
والزهد في الدنيا : هو ترك ما لا يحتاج إليه من الدنيا ،وإن كان حلالا ،والاقتصار على الكفاية والورع وترك الشبهات، فللزهد في الدنيا حقيقة وأصل وثمرة: أما حقيقته : فهو عزوف النفس عن الدنيا وانزواؤها عنها طوعاً مع القدرة عليه. وأما أصله : فهو العلم والنور الذي يشرق في القلب حتى ينشرح به الصدر ويتضح به أن الآخرة خير وأبقى ،وأن نسبة الدنيا إلى الآخرة أقل من نسبة حصى إلى جوهرة. وأما ثمرته : فهي القناعة من الدنيا بقدر الضرورة وهو قدر زاد الراكب. فالأصل نور المعرفة فيثمر حال الانزواء ويظهر على الجوارح بالكف إلا عن قدر الضرورة في زاد الطريق. والزهد على درجات إحداها : أن يزهد ونفسه مائلة إلى الدنيا ولكن يجاهدها وهذا متزهد وليس بزاهد ولكن بداية الزهد التزهد ، الثانية : أن تفر نفسه عن الدنيا ولا تميل إليها لعلمه أن الجمع بينها وبين نعيم الآخرة غير ممكن فتسمح نفسه بتركها كما تسمح نفس من يبذل درهماً ليشتري جوهرة وإن كان الدرهم محبوباً عنده وهذا زهد. الثالثة : أن لا تميل نفسه إلى الدنيا ولا تنفر عنها بل يكون وجودها وعدمها عنده بمثابة واحدة ويكون المال عنده كالماء وخزانه الله تعالى كالبحر فلا يلتفت قلبه إليه رغبة ونفوراً . وهذا هو الأكمل لأن الذي يبغض شيئاً فهو مشغول به كالذي يحبه.
الدعاء