خطبة عن (المُسَارَعَةُ إِلَى الْخَيْرَاتِ وَاغْتِنَامُ الْأَوْقَاتِ)
أكتوبر 23, 2025الخطبة الأولى خصومة الانسان لربه ،وقوله تعالى ( خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ )
الحمد لله رب العالمين . اللهم لك الحمد على نعمة الإسلام والايمان .ولك الحمد أن جعلتنا من أمة محمد عليه الصلاة والسلام. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له . وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
أما بعد أيها المسلمون
يقول الله تعالى في محكم آياته : (خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ) (4) النحل
إخوة الإسلام
نسعد اليوم -إن شاء الله تعالى- بلحظات طيبة مع آية من كتاب الله تعالى ،نتلوها ،ونتدبرها ، ونتفهم معانيها ،ونسبح في بحار مراميها ،ونرتشف من رحيقها المختوم ،مع قوله تعالى : (خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ) (4) النحل، وقد جاء في أسباب النزول : أن هذه الآية نَزَلَت فِي أُبَيِّ بْنِ خَلَفٍ الْجُمَحِيِّ حِينَ جَاءَ بِعَظْمٍ رَمِيمٍ إِلَى رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم، فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ، أَتُرَى اللَّهَ يُحيِي هذا بعد ما قَدْ رَمَّ؟، وفي المستدرك على شرط الشيخين : (عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : جاء العاص بن وائل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بعظم حائل ففته فقال : يا محمد أيبعث الله هذا بعدما أرم ؟ قال : نعم يبعث الله هذا يميتك ثم يحييك ثم يدخلك نار جهنم قال فنزلت الآيات :{ أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ} يس (77) ،وفي تفسير ابن كثير قال : ينبهنا الله تعالى إلى أنه خلق جنس الإنسان من نطفة ،أي :ضعيفة مهينة ،فلما استقل الانسان ودرج ،فإذا هو يخاصم ربه تعالى ويكذبه ،ويحارب رسله ،وهو إنما خلق ليكون عبدا لا ضدا ،كما قال تعالى : (وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْمَاءِ بَشَرًا فَجَعَلَهُ نَسَبًا وَصِهْرًا وَكَانَ رَبُّكَ قَدِيرًا (54) وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُهُمْ وَلَا يَضُرُّهُمْ وَكَانَ الْكَافِرُ عَلَى رَبِّهِ ظَهِيرًا) (54) ،(55) الفرقان ،وقال الله تعالى : (أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ (77) وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ (78) قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ) (77) :(79) يس . وفي الحديث الذي رواه الإمام أحمد وابن ماجه : (عَنْ بُسْرِ بْنِ جَحَّاشٍ الْقُرَشِيِّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- بَصَقَ يَوْماً فِي كَفِّهِ فَوَضَعَ عَلَيْهَا أَصْبُعَهُ ثُمَّ قَالَ « قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ بَنِى آدَمَ أَنَّى تُعْجِزُنِي وقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ مِثْلِ هَذِهِ حَتَّى إِذَا سَوَّيْتُكَ وَعَدَلْتُكَ مَشَيْتَ بَيْنَ بُرْدَيْنِ وَلِلأَرْضِ مِنْكَ وَئِيدٌ فَجَمَعْتَ وَمَنَعْتَ حَتَّى إِذَا بَلَغَتِ التَّرَاقِىَ قُلْتَ أَتَصَدَّقُ وَأَنَّى أَوَانُ الصَّدَقَةِ ».، وقال السعدى في تفسيره :{ خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ }أي : لم يزل يدبرها ويرقيها وينميها حتى صارت بشرا تاما كامل الأعضاء الظاهرة والباطنة، قد غمره بنعمه الغزيرة، حتى إذا استتم فخر بنفسه وأعجب بها { فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ } يحتمل أن المراد: فإذا هو خصيم لربه، يكفر به، ويجادل رسله، ويكذب بآياته. ونسي خلقه الأول وما أنعم الله عليه به، من النعم فاستعان بها على معاصيه، ويحتمل أن المعنى: أن الله أنشأ الآدمي من نطفة، ثم لم يزل ينقله من طور، إلى طور حتى صار عاقلا متكلما، ذا ذهن ورأي: يخاصم ويجادل، فليشكر العبد ربه الذي أوصله إلى هذه الحال التي ليس في إمكانه القدرة على شيء منها، وفي الوسيط لطنطاوي قال : أي : خلق – سبحانه – الإِنسان . من مَنِىٍّ يُمنى ، أو من ماء مهين خلقا عجيبا في أطوال مختلفة ، لا يجهلها عاقل ،ثم أخرجه بقدرته من بطن أمه إلى ضياء الدنيا ،ثم رعاه برعايته ولطفه إلى أن استقل وعقل .حتى إذا ما وصل هذا الإِنسان إلى تلك المرحلة التي يجب معها الشكر لله – تعالى – الذى رباه ورعاه ،إذا به ينسى خالقه ،ويجحد نعمه ،وينكر شريعته ، ويكذب رسله ويخاصم ويجادل بلسان فصيح من بعثه الله – تعالى – لهدايته وإرشاده، ..وكان المنتظر منه بعد أن خلقه الله – تعالى – بقدرته ،ورباه برحمته ورعايته ،أن يشكر خالقه على ذلك ،وأن يخلص العبادة له ،لكنه لم يفعل ما كان منتظرا منه ،بل فعل ما يناقض ذلك من الإِشراك والمجادلة في أمر البعث وغيره . و(الانسان) في القرآن يأتي عن البشر من حيث الخلق وعن البشر العُصاة منهم ،وهم الأغلبية .ومع خلق الانسان من نطفة قذرة فقد اصبح خصما لخالقه جل وعلا ،وتتجلى هذه الخصومة في أن يتخذ الشيطان عدو الانسان وليا من دون الله جل وعلا .ويجعل وحي الشيطان فوق الوحي الإلهي .
أيها المسلمون
لقد خلق الله تبارك وتعالى الإنسان في أحسن تقويم، وخَلقُ الإنسان من أعظم الدلائل على خالقه وفاطره. ففي الإنسان من العجائب الدالة على عظمة الله وقدرته ما تنقضي الأعمار في الوقوف على بعضه، وتعجز العقول عن إدراك كنهه، وتعجز الألسنة عن وصفه، قال الله تعالى : {فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ مِمَّ خُلِقَ (5) خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ (6) يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ (7) إِنَّهُ عَلَى رَجْعِهِ لَقَادِرٌ} [الطارق: 5 – 8]. وقد أمرنا الله عزَّ وجلَّ بالنظر والتفكر في خلق الإنسان، نظر اعتبار وتفكر، وتأمل وتدبر، كما قال سبحانه: {وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ} [الذاريات: 21]. ولو فكر الإنسان في نفسه لزجره ما يعلم من عجائب خلقها عن كفره كما قال سبحانه: {قُتِلَ الْإِنْسَانُ مَا أَكْفَرَهُ (17) مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ (18) ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ (20) ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ (21) ثُمَّ إِذَا شَاءَ أَنْشَرَهُ} [عبس: 17 – 22]. وقد بين الله عزَّ وجلَّ أطوار خلق الآدمي من ابتداء خلقه إلى آخر ما يصير إليه فقال سبحانه: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ (12) ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ (13) ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ} [المؤمنون: 12 – 14]. وقال النبي – صلى الله عليه وسلم -: «إِنَّ أحَدَكُمْ يُجْمَعُ خَلْقُهُ فِي بَطْنِ أُمِّهِ أرْبَعِينَ يَوْماً، ثُمَّ يَكُونُ عَلَقَةً مِثْلَ ذَلِكَ، ثُمَّ يَكُونُ مُضْغَةً مِثْلَ ذَلِكَ، ثُمَّ يَبْعَثُ اللهُ مَلَكاً فَيُؤْمَرُ بِأرْبَعِ كَلِمَاتٍ، وَيُقال لَهُ: اكْتُبْ عَمَلَهُ، وَرِزْقَهُ، وَأجَلَهُ وَشَقِيٌّ أوْ سَعِيدٌ، ثُمَّ يُنْفَخُ فِيهِ الرُّوحُ» متفق عليه ،وقد وكل الله بالرحم ملكاً، فإذا تم للنطفة في الرحم أربعون أو بضع وأربعون ليلة، بعث الله إليها ملكاً فصورها، وخلق سمعها وبصرها، وجلدها ولحمها وعظامها، وسوي أو غير سوي، وذكر أو أنثى، كل ذلك حسب أمر ربه، لا يزيد على ما أمر ولا ينقص. فالملائكة : {لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [التحريم: 6]. وقال النبي – صلى الله عليه وسلم -: «يَدْخُلُ الْمَلَكُ عَلَى النُّطْفَةِ بَعْدَ مَا تَسْتَقِرُّ فِي الرَّحِمِ، بِأرْبَعِينَ، أوْ خَمْسَةٍ وَأرْبَعِينَ لَيْلَةً، فَيَقُولُ: يَا رَبِّ! أشَقِيٌّ أوْ سَعِيدٌ؟ فَيُكْتَبَانِ؟ فَيَقُولُ: أيْ رَبِّ! أذَكَرٌ أوْ أنْثَى؟ فَيُكْتَبَانِ، وَيُكْتَبُ عَمَلُهُ وَأثَرُهُ وَأجَلُهُ وَرِزْقُهُ، ثُمَّ تُطْوَى الصُّحُفُ، فَلا يُزَادُ فِيهَا وَلا يُنْقَصُ» أخرجه مسلم
وهذا الإنسان الذي خلقه الله في أحسن تقويم، وجعله أفضل العالمين، خلقه الله ليبقى أبد الآباد، وما سواه يفنى إلا من استثناه الله. وكل فرد من بني آدم سينتقل من حال إلى حال، ومن دار إلى دار كما قال سبحانه: {لَتَرْكَبُنَّ طَبَقًا عَنْ طَبَقٍ} [الانشقاق: 19]. فأول طباقه كونه نطفة .. ثم علقة .. ثم مضغة .. ثم جنيناً .. ثم مولوداً .. ثم رضيعاً .. ثم فطيماً .. ثم طفلاً .. ثم شاباً .. ثم شيخاً .. ثم هرماً .. إلى جميع أحوال الإنسان المختلفة عليه .. إلى أن يموت ثم يبعث .. ثم يوقف بين يدي الله .. ثم يحاسب .. ثم يصير إلى الجنة أو النار حسب عمله .. فهذه ستة عشر طبقاً. ويركب أثناء هذه الأحوال أطباقاً عديدة: فينتقل من حال إلى حال كالصحة والمرض .. والعافية والبلاء .. والغنى والفقر .. والسعادة والشقاء .. وهكذا حتى يستقر في دار القرار في الجنة أو النار .. فذلك آخر أطباقه التي يعلمها العباد. فسبحان من هذا خلقه .. وهذا أمره .. وهذه قدرته.
وقد خلق الله الإنسان في كبد كما قال سبحانه: {لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي كَبَدٍ} [البلد: 4]. فابن آدم يكابد مصائب الدنيا، وشدائد الآخرة، فلا تلقاه إلا في مشقة، فالإنسان مخلوق في شدة بكونه في الرحم، ثم عند ولادته، ثم هو على خطر عظيم عند بلوغه حال التكليف، ومكابدة المعيشة، والأمر والنهي، والبلاء والامتحان. ثم مكابدة الموت، وما بعده في البرزخ، ثم مكابدة أهوال يوم القيامة، ثم مكابدة العذاب في النار، ولا راحة له إلا في الجنة. فينبغي له أن يسعى في عمل يريحه من هذه الشدائد، ويوجب له الفرح والسرور الدائم في الجنة، وذلك بالإيمان والأعمال الصالحة.
وخلق الله الإنسان في أحسن تقويم، وجعل فيه تسعة أبواب: بابان للسمع وهما الأذنان .. وبابان للبصر وهما العينان .. وبابان للشم وهما في الأنف .. وبابان لخروج فضلات البول والغائط .. وباب للكلام والنفس، والطعام والشراب وهو الأنف.
وكما أن في النبات الحلو والمر .. والنافع والضار .. وذا الأزهار والثمار .. وذا الشوك والسم، فكذلك في الإنسان المسلم والكافر ..والمطيع والعاصي .. وذو الإيمان والأعمال الصالحة .. وذو الشر والفساد .. ولكل أجل .. ولكل عمل .. ولكل مقعد إما في الجنة أو النار .. وكل راجع إلى ربه .. ومحاسب على عمله: {إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ (25) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ} [الغاشية: 25، 26].
إن خلق الإنسان بهذا التكوين العجيب، وبهذه الخصائص الفريدة، وبهذه الوظائف اللطيفة المتنوعة الكثيرة، لآيات تدهش العقول، وتحير الألباب، ولكننا نسيناها لطول تكرارها، ولقربها منا، وإلفنا لها. وإن هذا الإنسان هو العجيبة الكبرى في هذه الأرض كما قال سبحانه: {وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ} [الذاريات: 21]. ولكنه يغفل عن قيمته، وعن أسراره الكامنة في كيانه، حين يغفل قلبه عن الإيمان، وحين يحرم نعمة اليقين.
وآيات الرب تبارك وتعالى في خلقه ومخلوقاته تبصرة وذكرى، يتبصر بها من عمى القلب، ويتذكر بها من غفلته، فيعظم من خلقه. فالمضاد للعلم، إما عمى القلب، وزواله بالتبصر، وإما غفلته، وزواله بالتذكر. وأعظم وأفضل ما أنفقت فيه الأنفاس .. التفكر في آيات الله .. وعجائب صنعه .. والانتقال منها إلى تعلق القلب بالله .. وتعظيمه وتوقيره سبحانه دون شيء من مخلوقاته بتوحيده والإيمان به .. وطاعته، وعبادته. وهذا الإنسان عجيبة في تكوينه الجسماني في أسرار هذا الجسد .. وعجيبة في تكوينه الروحي في أسرار هذه النفس. وحيثما وقف الإنسان يتأمل عجائب نفسه، التقى بأسرار تدهش وتحير، خلق أعضائه وتوزيعها، وأشكالها ووظائفها، وفي كل عضو من أعضائه، بل في كل جزء من عضو، خارقة تحير الألباب، لو كانت هناك عقول.
أقول قولي وأستغفر الله لي ولكم
الخطبة الثانية ( خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ )
الحمد لله رب العالمين . اللهم لك الحمد على نعمة الإسلام والايمان .ولك الحمد أن جعلتنا من أمة محمد عليه الصلاة والسلام. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له . وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
أما بعد أيها المسلمون
إن سبب الخسران في الدنيا والآخرة الفكر فيما يفنى، والجهد في غير محله، والجلوس على موائد الشيطان، والإعراض عن موائد الرحمن. وإن الرابح حقاً من حجز المقاعد كلها للدين، الفكر واللسان، والسمع والبصر، والقلب والعقل، والروح والبدن، وبقية الجوارح، قال الله تعالى :{فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ مِمَّ خُلِقَ (5) خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ (6) يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ} [الطارق: 5 – 7]. ثم انظر إلى صنع الخالق البارئ المصور، كيف صورها فأحسن صورها، وشق لها السمع والبصر، والفم والأنف، وسائر المنافذ؟. ثم تأمل كيف مد اليدين والرجلين كالأعمدة، وبسطهما، وقسم رؤوسهما بالأصابع، ثم قسمهما بالأنامل، وزود أطرافها بالأظفار؟. ثم انظر كيف خلق سبحانه من تلك النطفة الأعضاء الباطنة من القلب والمعدة، والكبد والطحال، والرئة والرحم، والأمعاء والمثانة والمرارة؟. كل منها له قدر يخصه .. وعمل يخصه .. ومنفعة تخصه .. وشكل يخصه. فسبحان الخلاق العليم: {الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى (2) وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى} [الأعلى: 2، 3].
ثم انظر إلى حكمة العليم الحكيم في تركيب العظام قواماً للبدن، وعماداً له، وكيف قدرها ربها بتقادير مختلفة، وأشكال مختلفة: فمنها الصغير والكبير .. والطويل والقصير .. والمنحني والمستدير .. والمصمت والمجوف .. وركب بعضها على بعض، وربط بعضها ببعض؟. وتأمل كيف اختلفت أشكالها باختلاف منافعها، كالأضراس فإنها لما جعلت آلة للطحن جعلت عريضة، ولما كانت الأسنان آلة للقطع جعلت مستدقة محددة. ولما كان الإنسان محتاجاً إلى الحركة للتردد في حاجته لم يجعل عظامه عظماً واحداً، بل عظاماً متعددة، وجعل بينها مفاصل حتى تتيسر بها الحركة، وكان قدر كل واحد منه وشكله، على حسب الحركة المطلوبة منه. وشد سبحانه أسر تلك المفاصل والأعضاء، وربط بعضها ببعض بأوتار ورباطات أنبتها من العظم، وأدخل بعض العظام في بعض، على شكل الذكر والأنثى، فإذا أراد الإنسان أن يحرك جزءاً من بدنه لم يمتنع عليه، ولولا المفاصل لتعذر ذلك عليه. فسبحان من هذا خلقه، وهذه قدرته، وهذه حكمته، وهذا صنعه. ثم تأمل حكمة اللطيف الخبير كيف كسا العظام العريضة كعظام الظهر والرأس كسوة من اللحم تناسبها، والعظام الدقيقة كسوة تناسبها كالأصابع والمتوسطة كذلك كعظام الذراعين والعضدين. فالإنسان مركب على ثلاثمائة وستين عظماً، فلو زادت واحداً أو نقصت واحداً، لاختل تركيب الجسم ونظامه، واضطربت حركة الإنسان. ومن عجائب خلق الإنسان ما فيه من الأمور الباطنة التي لا تشاهد كالقلب والكبد، والطحال والأمعاء، والرئة والمعدة، والمثانة والمرارة، وسائر ما في بطنه من الآلات العجيبة. فما أعظم قدرة الله، وما أعظم صنعه في هذه النطفة، كيف جعلها إنساناً، وبث منها البشرية المنتشرة على وجه الأرض؟. فمن هذه عظمته، وهذه نعمه، وهذا صنعه، كيف لا يعبده الإنسان ويطيعه، وهو الذي خلقه وصوره، وشق سمعه وبصره؟. أما يخاف هذا الإنسان يوماً عبوساً قمطريراً، قال الله تعالى : {يَوْمَ لَا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ} [غافر: 52].
الدعاء
