خطبة عن ذكر الله وحديث (خَلَّتَانِ لاَ يُحْصِيهِمَا رَجُلٌ مُسْلِمٌ إِلاَّ دَخَلَ الْجَنَّةَ)
سبتمبر 17, 2019خطبة عن آداب المجلس وحديث: مَنْ جَلَسَ فِي مَجْلِسٍ فَكَثُرَ فِيهِ لَغَطُهُ)
سبتمبر 21, 2019الخطبة الأولى ( أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ )
الحمد لله رب العالمين . اللهم لك الحمد على نعمة الإسلام والايمان .ولك الحمد أن جعلتنا من أمة محمد عليه الصلاة والسلام. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له . وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
أما بعد أيها المسلمون
يقول الله تعالى في محكم آياته : (أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ) (85) البقرة
إخوة الإسلام
تعالوا بنا اليوم -إن شاء الله- إلى لمحات جلية، ووقفات ندية، مع مقطع من آية من كتاب الله العزيز، فيها حكم وعبر ودرر، نحاول فيها ـ إن شاء الله تعالى ـ أن نقف على جميل معانيها، فهي على قصرها، فقد حوت خيراً كثيراً، واشتملت على معانٍ جليلة، تمثل في حقيقتها قاعدة من القواعد، ومنهجا ومنهاجا، سواءً في علاقة الإنسان مع ربه، أو في علاقته مع الخلق، أو مع النفس. نعم فهي قبس وضاء، وبدر منير، وسراج وهاج، وإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم قد أوتي جوامع الكلم، واختصر له الكلام اختصاراً، فيقول الجملة الواحدة من كلمتين أو ثلاث، ثم تجد تحتها من المعاني ما يستغرق العلماء في شرحها صفحاتٍ كثيرة، فما ظنك بكلام الله جل وعلا الذي يهب الفصاحة والبلاغة من يشاء؟! ، فتعالوا إلى قوله تعالى : (أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ) (85) البقرة قال السدي في تفسيرها : “إن الله تعالى أخذ على بني إسرائيل في التوراة أن لا يقتل بعضهم بعضاً، ولا يخرج بعضهم بعضاً من ديارهم، وأيما عبد أو أمة وجدتموه من بني إسرائيل فاشتروه بما قام من ثمنه وأعتقوه، فكانت قريظة حلفاء الأوس، والنضير حلفاء الخزرج، وكانوا يقتتلون في حرب سمير فيقاتل بنو قريظة وحلفاؤهم وبنو النضير وحلفاؤهم وإذا غلبوا أخربوا ديارهم وأخرجوهم منها، وإذا أَسَر رجل من الفريقين جمعوا له حتى يفدوه وإن كان الأسير من عدوهم، فتُعَيِّرهم الأعراب وتقول: كيف تقاتلونهم وتفدونهم قالوا: إنا أُمِرنا أن نفديهم، فيقولون: فلم تقاتلونهم؟ قالوا: إنا نستحيي أن يستذل حلفاؤنا”. فعيَّرهم الله تعالى بذلك، وقال فضيلة المرحوم الشيخ محمد الخضر حسين( شيخ الأزهر سابقا) : «وإنما سمى- سبحانه- عصيانهم بالقتل والإخراج من الديار كفرا لأن من عصى أمر الله- تعالى- بحكم عملي معتقدا أن الحكمة والصلاح فيما فعله، بحيث يتعاطاه دون أن يكون في قلبه أثر من التحرج، ودون أن يأخذه ندم وحزن من أجل ما ارتكب. فقد خرج بهذه الحالة النفسية عن سبيل المؤمنين، وفي الآية الكريمة دليل واضح على أن الذي يؤمن ببعض ما تقرر في الدين بالدليل القاطع ويكفر ببعضه، يدخل في زمرة الكافرين لأن الإيمان كل لا يتجزأ» .
أيها المسلمون
والمتأمل والمتدبر لقوله تعالى : (أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ) (85) البقرة ، يجد في عصرنا الحاضر أناسا ممن يدَّعون الإسلام يقولون: نحن نؤمن بالقرآن الكريم، ونخضع لأحكامه، ولكن في بعض المجالات دون بعض، فهم يقبلون أحكامه في مجال العقائد والعبادات والأخلاق، ولكن لا يقبلونها في شئون التشريع والاقتصاد والسياسة وغيرها. وبعضهم يقبل الأخذ بها في التشريع، ولكن في محيط الأسرة والأحوال الشخصية ، لا في محيط المجتمع، وأمور الحكم والسياسة والاقتصاد، والعلاقات الدولية. والعجيب أن يصدر هذا ممن يدَّعي الإسلام، ويزعم أنه رضي بالله ربًّا، وبالإسلام دينًا، وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبيا ورسولاً، وبالقرآن إمامًا ودستورا وحاكما، فكيف يصدر هذا ممن يعتقد أن القرآن كتاب الله، وأن كل ما بين دفتي المصحف كلام الله سبحانه؟ ، هل يستدرك هؤلاء على ربهم؟ أو هم يدَّعون أنهم أعلم منه بمصالح خلقه؟ أو أبرُّ بهم منه جَلَّ شأنه؟ هل يحسب هؤلاء أنهم أنداد لله تعالى، ينازعونه في خلقه، ويشاركونه في حكمه؟ ألَا ساءَ ما يحكمون! كيف يكون المخلوق ندًّا للخالق؟ وكيف يكون الإنسان المحدَث الفاني المحدود العاجز، ندًّا للرب الأعلى، الأول بلا ابتداء، والآخر بلا انتهاء. صاحب المشيئة المطلقة، والقُدرة القاهرة، الذي لا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء؟ ولقد رأينا مَن زعم أن “القرآن المكي” وحده هو الملزِم لنا. وأما “القرآن المدني” فلا يلزمنا لأنه يتعرض لأمور من أمور حياتنا قد تتغير وتتطور، فلا يجوز أن نُجَمِّدها بقرآن ولا سُنّة! ، وهذا ما أنكره القرآن على بني إسرائيل أشدَّ الإنكار، وقرعهم عليه أبلغ التقريع، وتوعدهم عليه بأقسى الوعيد حين انتقوا من أحكام التوراة ما يعجبهم فأخذوا به، وأهملوا منها ما لا يروق لهم. فقال سبحانه: {أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (85) أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآَخِرَةِ فَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ} (البقرة:85،86) .
كما حذَّر الله تعالى رسوله صلى الله عليه وسلم ـ وهو تحذير لكل أمته من بعده ـ أن يفتنه أهل الكتاب عن بعض ما أنزل الله إليه من الكتاب، فلا يحكم به، ولا يعمل بموجبه، يقول الله تبارك وتعالى: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ} (المائدة:49). وذمَّ القرآن أبلغ الذم طائفة من المنافقين يرفضون حكم الله ورسوله إذا دُعوا إليه ولا يذعنون له إلا فيما يوافق أهواءهم ومصالحهم الخاصة، ونفي عنهم الإيمان نفيًا صريحًا. يقول الله سبحانه: {وَيَقُولُونَ آَمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ (47) وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ (48) وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ (49) أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمِ ارْتَابُوا أَمْ يَخَافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (50) إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} (النور:47 – 51). هذا هو موقف المؤمنين إذا دُعوا إلى حكم الله ورسوله: إذعان بلا تردد، وطاعة بلا تلكّؤ؛ {وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}. ذلك أن عقد الإيمان بالله ربًّا، وبمحمد رسولاً، وبالقرآن إمامًا، يقتضي ويوجب ويلزم الرضا بما رضيه الله ورسوله، والالتزام بما ألزما به، وإلا كان الإيمان لفظًا بلا معنى، ودعوى بلا حقيقة: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} (الأحزاب:36). أما الآخرون الذين لا يُذعنون بحكم الله ورسوله، إلا إذا كان لهم فيه حق ومصلحة وهوى، فهم مرضى القلوب، المرتابون: {فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} (المائدة:45) و {وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ} (النور:47).
أيها المسلمون
والقرآن الكريم وحدة لا تتجزّأ، وتعاليمه وأحكامه مترابطة متكاملة، بين بعضها وبعض ما يشبه الوحدة العضوية بين أعضاء الجسم الواحد، فبعضها يُؤثِّر في بعض. ولا يجوز أن يُفصل منها جزء أو أكثر عن سائر الأجزاء. فالعقيدة تغذي العبادة، والعبادة تغذي الأخلاق، وكلها تغذي الجانب العملي والتشريعي في الحياة. ولا يسوغ في منطق الإيمان، ولا منطق العقل أن يقرأ المسلم قول الله تعالى : {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} (البقرة:183)، فيقول: سمعنا وأطعنا. ولكنه إذا قرأ في نفس السورة قوله سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى} (البقرة:178) قال: سمعنا وعصينا! ، لماذا؟ لأن الآية الأولى في مجال العبادات، والأخرى في مجال العقوبات! ومعنى هذا أن الإنسان أصبح معقبًا لحكم الله تعالى، يأخذ منه ويَدَع، ويقبل منه ويرد بهواه وحده، والله لا معقب لحكمه، أو يأخذ من سورة البقرة آية الكرسي: {اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ} (البقرة:255). ولا يأخذ منها آية: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (278) فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ} (البقرة:278،279). لأن آية الكرسي في الإلهيات، وآيات الربا في المعاملات! ، ومثل ذلك يقال فيمن يقبل من سورة المائدة قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ} (المائدة:6) ، ويرفض من السورة قوله تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} (المائدة:38). أو يقبل من نفس السورة قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِن اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (87) وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلَالًا طَيِّبًا} (المائدة:87،88) ، ويرفض بعدها بآية واحدة قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} (المائدة:90) ، ويقبل من سورة الحج قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} (الحج:77) ، ويرد الآية التي بعدها: {وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ} (الحج:78) ، بل في هذه الآية يقول تعالى: {فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآَتُوا الزَّكَاةَ} (الحج:78)، فيقول: آخُذ الصلاة، ولا آخذ الزكاة، لأن الصلاة شعيرة روحية خالصة، أما الزكاة ففريضة تتعلق بالمال والاقتصاد، فأنا أقبل تلك، ولا أقبل هذه! يا للعجب! هل غدا العبد أعلم من ربه؟ أو بات المخلوق أعلى من خالقه؟!! ،إنه لم يعد ندًّا لله فحسب، بل زاد على ذلك، فجعل من نفسه محكمة عُليا للتمييز، أو للنقض والإبرام، فينقُضُ ما شاء له عقله أو هواه أن ينقض من أحكام الله، ويُبرم ما شاء له أن يُبرم!
أقول قولي وأستغفر الله لي ولكم
الخطبة الثانية ( أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ )
الحمد لله رب العالمين . اللهم لك الحمد على نعمة الإسلام والايمان .ولك الحمد أن جعلتنا من أمة محمد عليه الصلاة والسلام. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له . وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
أما بعد أيها المسلمون
إن تعاليم القرآن كلها واجبة التنفيذ، ولا فرق فيها بين ما يُسَمَّى “روحيًّا” وما يُسمى “ماديًّا”، ما يُعتبر من “شئون الدين” وما يُعتبر من “شئون الدنيا”، ما يتعلق بحياة “الفرد” وما يتعلق بحياة “الجماعة” . فهذه التسميات والعناوين لا وجود لها في كتاب الله تعالى، ولا توجد فوارق معتبرة بين بعضها وبعض، ما دامت كلها في دائرة أمر الله سبحانه أو نهيه. ومَنْ فتح المصحف وقرأ سورة الفاتحة، ثم شرع في سورة البقرة، وجد أول ما يطالعه وصف المتقين المهتدين بكتاب الله بأنهم: {الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} (البقرة:3)، فقرن بين الجانب الاعتقادي “الإيمان بالغيب”، والجانب الشعائري “إقامة الصلاة”، والجانب الاقتصادي “الإنفاق مما رزق الله”.
أيها المسلمون
ومَنْ تدبَّر القرآن وجد أنه ـ في تعليلاته للأحكام والأوامر والنواهي ـ يربط الجوانب الروحية والمادية والأخلاقية والاجتماعية والاقتصادية بعضها ببعض، دون فصل أو تمييز. فهو يعلِّل الأمر بالصلاة بعِلَّة أخلاقية حين يقول: {وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِن الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ} (العنكبوت:45) ، ويعلِّل الأمر بالزكاة ـ الفريضة المالية الإسلامية ـ بعِلَّة أخلاقية أيضًا فيقول: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا} (التوبة:103). ويعلِّل الحج ـ وهو شعيرة تعبدية ـ بعِلَّة اقتصادية واجتماعية، مع العِلَّة الروحية فيقول: {وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ (27) لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ} (الحج:27، 28). ويعلِّل الأمر باجتناب الخمر والميسر واعتبارها رجسًا من عمل الشيطان بعِلَّة اجتماعية وروحية، فيقول: {إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ} (المائدة:91) فهذا هو منهج القرآن: الربط بين جوانب الحياة كلها برباط لا ينفصم؛ لأنها هكذا في الواقع، كما بيَّنا ذلك في حديثنا عن أصل “شمول الإسلام”. وإذا كانت الحياة كلها مترابطة متلازمة، فلا بد أن تكون الأحكام التي تُشرع لها كلها مترابطة متلازمة كذلك، وذلك هو حكم الله: {وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} (المائدة:50). وحقا ما قال ربنا : (أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ) (85) البقرة
الدعاء