خطبة حول قوله تعالى ( اللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثَى)

  الخطبة الأولى ( اللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثَى وَمَا تَغِيضُ الْأَرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ) 

 الحمد لله رب العالمين . اللهم لك الحمد على نعمة الإسلام والايمان .ولك الحمد أن جعلتنا من أمة محمد عليه  الصلاة والسلام. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له . وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين 

                                  أما بعد  أيها المسلمون    

يقول الله تعالى في محكم آياته : (اللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثَى وَمَا تَغِيضُ الْأَرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ (8) عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِ) (8) ،(9)  الرعد

إخوة الإسلام

موعدنا اليوم -إن شاء الله- مع آية من كتاب الله ، نتلوها ، ونتفهم معانيها ، ونسبح في بحار مراميها ، ونعمل -إن شاء الله- بما جاء فيها ، مع قوله تعالى : (اللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثَى وَمَا تَغِيضُ الْأَرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ) (8) الرعد ، قال القرطبي : فيها مسائل ، ومنها : الأولى : قوله تعالى : الله يعلم ما تحمل كل أنثى :أي من ذكر وأنثى ، صبيح وقبيح ، صالح وطالح ; فالله سبحانه منفرد بعلم الغيب وحده لا شريك له ; واختلف العلماء في تأويل قوله : وما تغيض الأرحام وما تزداد فقال ابن عباس وقتادة : المعنى ما تسقط قبل التسعة الأشهر ، وما تزداد فوق التسعة ;  الثانية : في هذه الآية دليل على أن الحامل تحيض ; وهو مذهب مالك والشافعي في أحد قوليه ، الثالثة : في هذه الآية دليل على أن الحامل قد تضع حملها لأقل من تسعة أشهر وأكثر ، وأجمع العلماء على أن أقل الحمل ستة أشهر ، وجاء في تفسير الوسيط لطنطاوي قوله : لقد صور الله سبحانه وتعالى سعة علمه تصويراً عميقاً ، تقشعر منه الجلود ، وترتجف له المشاعر ، وساق سنة من سننه التي لا تتغير ولا تتبدل ، فالله وحده هو الذى يعلم ما تحمله كل أنثى في بطنها من علقة أو مضغة ومن ذكر أو أنثى ، وهو وحده – سبحانه – الذى يعلم ما يكون في داخل الأرحام من نقص في الخلقة أو زيادة فيها ، ومن نقص في مدة الحمل أو زيادة فيها ، ومن نقص في العدد أو زيادة فيه ،  

 أيها المسلمون

وقوله تعالى : (اللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثَى وَمَا تَغِيضُ الْأَرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ) (8) الرعد ، فاللهُ سبحانَهُ وتعالى موصوفٌ بعِلْمٍ أزَليٍّ أبديٍّ كسائرِ صفاتِهِ لا يَقبلُ الزيادةَ والنقصانَ، حتى أنفاسُ أهْلِ الجنَّةِ في الجنَّةِ وأهلِ النارِ في النارِ يَعلَمُهَا، لا تَخفَى عليهِ خافيةٌ، واللهُ تعالى مُطَّلِعٌ علينَا ،وعَلى مَا في صُدورِنا ،ومَا تُخْفِيهِ نفوسُنا، وهوَ سبحانَهُ وتعالى يعلمُ مَا تحمِلُهُ كلُّ أنثى مِنْ وَلَدٍ على أيِّ حالٍ هوَ : مِنْ ذُكُورَةٍ وأُنُوثَةٍ وتمامٍ وخِدَاجٍ أي نقصانٍ (كالذي ليسَ لهُ مِشيةٌ سليمةٌ وحُسْنٍ وقُبْحٍ وطولٍ وقِصَرٍ وغيرِ ذلكَ)، وقد استَدلَّ عُلماءُ أهْلِ السنَّةِ والجماعةِ بهذه الآية الكريمة على تنْزيهِ اللهِ عنِ الشكلِ والصورةِ والحدِّ والكمِّيَّةِ والمقدارِ، يقول سبحانه وتعالى: ” وَكُلُّ شَيْءٍ عِندَهُ بِمِقْدَارٍ”. فالعرشُ هوَ أكبرُ المخلوقاتِ حجْمًا ،ولا أحدَ يعلمُ مِساحةَ العرشِ إلا اللهُ، حَتى الملائكةُ الذينَ يطوفونَ حولَهُ أيْ حولَ العرشِ لا يَعلمونَ مِساحةَ العرشِ ، وهذا العرشُ لهُ كمِّيَّةٌ ولهُ مِقدارٌ ، فإذًا هَذا العرْشُ احتاجَ لمنْ خصَّصَهُ لمنْ جعلَهُ عَلى هذِه الكمّيّةِ، عَلى هذَا المقدارِ، وكذلكَ السمـواتُ السبْعُ والأرَضونَ السبعُ ومَا فيهمَا ومَا بينهُما، حتى الخردلةُ، مَنِ الذِي خصَّصَها جعَلَها عَلى هذِه الكميةِ ؟ عَلى هَذا المقدارِ؟ هوَ اللهُ وحدَهُ الذِي ليسَ كمِثْلِه شَيءٌ الذِي خلَقَ العرْشَ إظهارًا لقُدرتِهِ ،ولم يتَّخذْهُ مكانًا لذاتِهِ، فلوْ كانَ اللهُ جِسْمًا لهُ كميةٌ ومِقدارٌ ،لاحتاجَ لمنْ جعلَهُ عَلى هَذِهِ الكميةِ، عَلى هذَا المقدارِ، والمحتاجُ لا يَكونُ إِلهًا، فكُلُّ شيءٍ يجرِي في هذِه الدُّنيا وفي الآخرةِ فهوَ بمشيئةِ اللهِ يجرِي ويحصلُ لِقولِهِ تعَالى: ” إنًّا كُلَّ شيء خَلَقناهُ بقدَر”، أمّا قوله تعالى : ” عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِ ” فمعناه أن اللهَ تعالى يعلَمُ ما غابَ عنِ الخَلْقِ ، فاللهُ تعالى “عالم الغيبِ” أي ما غابَ عنِ الخلقِ “والشهادةِ”  أي ومَا شاهدوهُ، واللهُ سبحانَهُ وتعَالى أكبرُ مِن كُلِّ كبيرٍ قدْرًا وعظَمةً، فهوَ العظيمُ الشأنِ الذي كلُّ شيءٍ دونَهُ.

 أيها المسلمون

فمن أصول الإيمان : اليقين بأنه لا يقع شيء إلا بقدر الله ،ووفق ما يشاء الله تعالى, فإن تقدم الطب ،وتمكن من معرفة بعض الأسباب المانعة للحمل ،وتمكن من علاجها ،فهو بقدر الله تعالى, وإن لم يتمكن الطب من علاج بعض حالات غير ممكنة العلاج أو مجهولة الأسباب فهو بقدر الله تعالى, وليس لأحد أن يدعي العلم بقدر الله تعالى ، وقد ذكر القرآن الكريم خمسا تتعلق بحياة الإنسان ومصيره؛ يقول الله تعالى : “إِنّ اللّهَ عِندَهُ عِلْمُ السّاعَةِ وَيُنَزّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الأرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مّاذَا تَكْسِبُ غَداً وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنّ اللّهَ عَلَيمٌ خَبِيرٌ”[لقمان:34]، وأطلق التعبير (وَيَعْلَمُ مَا فِي الأرْحَامِ)على الله، فشمل كل مغيب عن مشروع الإنسان المقبل ومستقبله ،ومصيره بعد الحساب ،مما ليس بمقدور بشر إدراكه فضلا عن الإحاطة بتفاصيله ، ولا يعارض القرآن إذن معرفة الطب حالياً ببعض أحوال الجنين، لأن المحجوب هو العلم المحيط به قبل أن يخلَّق ، وقد سُئل فضيلة الشيخ محمد بن صالح العثيمين -رحمه الله-: كيف نوفق بين علم الأطباء الآن بذكورة الجنين وأنوثته، وقوله تعالى: (وَيَعْلَمُ مَا فِي الأرْحَامِ)؟فأجاب بقوله: ( قبل أن أتكلم عن هذه المسألة أحب أن أبين أنه لا يمكن أن يتعارض صريح القرآن الكريم مع الواقع أبداً، وأنه إذا ظهر في الواقع ما ظاهره المعارضة ،فإما أن يكون الواقع مجرد دعوى لا حقيقة له، وإما أن يكون القرآن الكريم غير صريح في معارضته؛ لأن صريح القرآن الكريم وحقيقة الواقع كلاهما قطعي، ولا يمكن تعارض القطعيين أبداً, فإذا تبين ذلك فقد قيل: إنهم الآن توصلوا بواسطة الآلات الدقيقة للكشف عما في الأرحام، والعلم بكونه أنثى أو ذكراً، فإن كان ما قيل باطلاً فلا كلام، وإن كان صدقاً فإنه لا يعارض الآية، حيث إن الآية تدل على أمر غيبي ،هو متعلق علم الله تعالى في هذه الأمور الخمسة، والأمور الغيبية في حال الجنين هي: مقدار مدته في بطن أمه ،وحياته ،وعمله ،ورزقه، وشقاوته أو سعادته، وكونه ذكراً أم أنثى قبل أن يخلَّق، أما بعد أن يخلق فليس العلم بذكورته أو أنوثته من علم الغيب؛ لأنه بتخليقه صار من علم الشهادة، إلا أنه مستتر في الظلمات الثلاث التي لو أزيلت لتبين أمره) ، وفي قوله تعالى : “اللّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلّ أُنثَىَ وَمَا تَغِيضُ الأرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ وَكُلّ شَيْءٍ عِندَهُ بِمِقْدَارٍ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشّهَادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِ” [الرعد:8-9]،أكدت الآية الكريمة قصر العلم التفصيلي المسبق بكل مقدر الحدوث قبل وقوعه على الله تعالى وحده، لكنها جمعت لله تعالى وحده ما هو بالنسبة للبشر غيب لم يقع بعد، فضلا عما هو شهادة متحقق الحدوث, وراعت ترتيب علم الله تعالى بالغيب بالنسبة للبشر ليناظر غيض الأرحام ، وترتيب العلم بالشهادة ليناظر زيادتها , ويعرف هذا الأسلوب عند اللغويين باسم “اللف والنشر” ويعني أن الأرحام تغيض قبيل تخلّق الجنين وازديادها, وبالفعل ينقبض الرحم ويغور للداخل قبل وقوع الإخصاب، وتشكل الخريطة الوراثية، ولا يمكن لأحد حينئذ سوى الله تعالى وحده العلم بخصائص الجنين أو ذكورته وأنوثته ، والخلاصة أن الله تعالى يعلم بمستقبل ومصير الإنسان المقبل الذي لم يتخلق بعد حال غيض الأرحام تماما كما هو حال زيادتها بعد تخلقه.

                                أقول قولي وأستغفر الله لي ولكم

الخطبة الثانية ( اللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثَى وَمَا تَغِيضُ الْأَرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ) 

 الحمد لله رب العالمين . اللهم لك الحمد على نعمة الإسلام والايمان .ولك الحمد أن جعلتنا من أمة محمد عليه  الصلاة والسلام. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له . وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين 

                                  أما بعد  أيها المسلمون    

ويأتي الحديث مؤيداً نسق القرآن الكريم في قصر الغيب المطلق عن علم البشر على حال غيض الأرحام قبل تخلق الجنين دون حال ازديادها بعد تخلقه؛ ففي الحديث الذي رواه البخاري وغير واحد: (عَنِ ابْنِ عُمَرَ – رضى الله عنهما – عَنِ النَّبِىِّ – صلى الله عليه وسلم – قَالَ « مَفَاتِيحُ الْغَيْبِ خَمْسٌ لاَ يَعْلَمُهَا إِلاَّ اللَّهُ ، لاَ يَعْلَمُ مَا تَغِيضُ الأَرْحَامُ إِلاَّ اللَّهُ ، وَلاَ يَعْلَمُ مَا فِى غَدٍ إِلاَّ اللَّهُ ، وَلاَ يَعْلَمُ مَتَى يَأْتِى الْمَطَرُ أَحَدٌ إِلاَّ اللَّهُ ، وَلاَ تَدْرِى نَفْسٌ بِأَىِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِلاَّ اللَّهُ ، وَلاَ يَعْلَمُ مَتَى تَقُومُ السَّاعَةُ إِلاَّ اللَّهُ »  ،  قال ابن كثير: “هذه مفاتيح الغيب التي استأثر الله تعالى بعلمها فلا يعلمها أحد.. فعلم وقت الساعة لا يعلمه نبي مرسل ولا ملك مقرب.. وكذلك إنزال الغيث لا يعلمه إلا الله، ولكن إذا أمر به علمته الملائكة، ومن يشاء الله من خلقه، وكذلك لا يعلم ما في الأرحام مما يريد أن يخلقه تعالى سواه، ولكن إذا أمر علمته الملائكة، ومن شاء الله من خلقه، وكذا لا تدري نفس ماذا تكسب غدا، وما تدري نفس بأي أرض تموت.. وقد وردت السنة بتسمية هذه الخمس مفاتيح الغيب” ، وقد ورد في الحديث أن الملائكة تعلم بحال الجنين منذ بدء تكون النطفة, ففي الحديث الذي رواه البخاري ومسلم : (عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ – رضى الله عنه – عَنِ النَّبِىِّ – صلى الله عليه وسلم – قَالَ « وَكَّلَ اللَّهُ بِالرَّحِمِ مَلَكًا فَيَقُولُ أَىْ رَبِّ نُطْفَةٌ ، أَىْ رَبِّ عَلَقَةٌ ، أَىْ رَبِّ مُضْغَةٌ . فَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَقْضِىَ خَلْقَهَا قَالَ أَىْ رَبِّ ذَكَرٌ أَمْ أُنْثَى أَشَقِىٌّ أَمْ سَعِيدٌ فَمَا الرِّزْقُ فَمَا الأَجَلُ فَيُكْتَبُ كَذَلِكَ فِى بَطْنِ أُمِّهِ » ، يقول فضيلة الشيخ عبد المجيد الزنداني: “وإذًا هناك نصوص قد بينت بجلاء أن الأمر المحجوب عن علم غير الله إنما هو في مرحلة ما قبل تكون الجنين، فعلمنا أن الأرحام قبل أن تزداد حتى يراها كل المحيطين بالحامل تعاني من حالة تقلص وانكماش وغور ونقصان, وفي تلك الفترة حال الجنين المرتقب محجوب عن علم غير الله تعالى.., (فهو) مفتاح من مفاتيح الغيب يفتح على أبواب مغلقة، ولا يملكه دون الخالق سبحانه أحد.. وأما حمل الغيض على دم الحيض (أو السقط) فلا يتفق مع كونه مفتاحا للغيب لأنه لن ينشأ منه جنين, وبإجماع علماء المسلمين مفتاح الغيب متعلق بالإنسان الذي سيخلق ،وقد تقرر في علم الله تعالى أن له مستقبلا مغيبا ، وليس دم الحيض (أو السقط) كذلك. وفي مرحلة الغيض يستحيل على إنسان أن يعرف صفات الجنين المقبل.. ولو جئت بصفين؛ وقلت: أنا سأصنع من هذه الأحجار بناء ، فهل سيعلم أحد السامعين يقينا أيكون من الصفين مدرسة أم مستشفى؟ فيلا أم عمارة ؟ هكذا الجنين في مرحلة الغيض لا يعلم أحد -غير الله تعالى- بما سيكون عليه حاله” ، وحقا ما قال ربنا :(اللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثَى وَمَا تَغِيضُ الْأَرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ) (8) الرعد

                                                الدعاء