خطبة عن (التسبيح)
يوليو 10, 2023خطبة عن (العلم والخشية)
يوليو 11, 2023الخطبة الأولى ( رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ )
الحمد لله رب العالمين . اللهم لك الحمد على نعمة الإسلام والايمان .ولك الحمد أن جعلتنا من أمة محمد عليه الصلاة والسلام. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له . وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
أما بعد أيها المسلمون
يقول الله تعالى في محكم آياته : (هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ (7) رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ (8) رَبَّنَا إِنَّكَ جَامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لَا رَيْبَ فِيهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ) (7) :(9) آل عمران
إخوة الإسلام
لقاؤنا اليوم -إن شاء الله تعالى – مع هذه الآية من كتاب الله العزيز، نتدبرها ،ونتفهم معانيها ، ونسبح في بحار مراميها ،ونعمل إن شاء الله بما جاء فيها ،مع قوله تعالى : (رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ ) (8) آل عمران ، والمعنى : يا ربنا، لا تجعلنا مثل هؤلاء الذين زاغت قلوبهم عن الحق ،فصدوا عن سبيلك، ولا تملها فتصرفها عن هُدَاك ،بعد إذ هديتنا له، فوفقتنا للإيمان بمحكم كتابك ومتشابهه ،ربنا آمنا بما تشابه من آي كتاب الله، وأن المحكم من آيه من تنـزيل ربنا ووحيه ،فاصرف عنا ما ابتلى به الذين زاغت قلوبهم من اتباع متشابه آي القرآن، ابتغاءَ الفتنة وابتغاءَ تأويله ،الذي لا يعلمه غيرُ الله، وهب لنا من عندك توفيقًا وثباتًا للذي نحن عليه ،من الإقرار بمحكم كتابك ومتشابهه ، فإنك أنت المعطي عبادك التوفيقَ والسدادَ للثبات على دينك، وتصديق كتابك ورسلك،
فقُلوبُ العِبادِ بين يَديِ الرَّحمنِ يُقلِّبُها كيفَ يَشاءُ؛ ولذلك كان أكثرُ دُعاءِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ علَيه وسلَّم: “يا مُقلِّبَ القلوبِ، ثَبِّتْ قلبي على دِينِك”؛ وذلك طلَبًا للثَّباتِ على الدِّينِ خوفًا مِن الزَّيغِ أو الضَّلالِ، ففي سنن الترمذي : (شَهْرُ بْنُ حَوْشَبٍ قَالَ قُلْتُ لأُمِّ سَلَمَةَ يَا أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ مَا كَانَ أَكْثَرُ دُعَاءِ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- إِذَا كَانَ عِنْدَكِ قَالَتْ كَانَ أَكْثَرُ دُعَائِهِ « يَا مُقَلِّبَ الْقُلُوبِ ثَبِّتْ قَلْبِي عَلَى دِينِكَ ». قَالَتْ قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا لأَكْثَرِ دُعَائِكَ يَا مُقَلِّبَ الْقُلُوبِ ثَبِّتْ قَلْبِي عَلَى دِينِكَ قَالَ « يَا أُمَّ سَلَمَةَ إِنَّهُ لَيْسَ آدَمِيٌّ إِلاَّ وَقَلْبُهُ بَيْنَ أُصْبُعَيْنِ مِنْ أَصَابِعِ اللَّهِ فَمَنْ شَاءَ أَقَامَ وَمَنْ شَاءَ أَزَاغَ ». فَتَلاَ مُعَاذٌ (رَبَّنَا لاَ تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا) ، وفي رواية للإمام أحمد : (عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- كَانَ يُكْثِرُ أَنْ يَقُولَ « يَا مُقَلِّبَ الْقُلُوبِ ثَبِّتْ قَلْبِي عَلَى دَينِكَ وَطَاعَتِكَ ». فَقِيلَ لَهُ يَا رَسُولَ اللَّهِ – قَالَ عَفَّانُ فَقَالَتْ لَهُ عَائِشَةُ – إِنَّكَ تُكْثِرُ أَنْ تَقُولَ « يَا مُقَلِّبَ الْقُلُوبِ ثَبِّتْ قَلْبِي عَلَى دَيْنِكَ وَطَاعَتِكَ ». قَالَ « وَمَا يُؤْمِنُنِي وَإِنَّمَا قُلُوبُ الْعِبَادِ بَيْنَ أُصْبُعَىي الرَّحْمَنِ إِنَّهُ إِذَا أَرَادَ أَنْ يُقَلِّبَ قَلْبَ عَبْدٍ قَلَّبَهُ ». قَالَ عَفَّانُ « بَيْنَ أُصْبُعَيْنِ مِنْ أَصَابِعِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ ».وفيه أيضا : أن (أَبَا إِدْرِيسَ الْخَوْلاَنِيَّ يَقُولُ سَمِعْتُ النَّوَّاسَ بْنَ سَمْعَانَ الْكِلاَبِيَّ يَقُولُ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ « مَا مِنْ قَلْبٍ إِلاَّ وَهُوَ بَيْنَ أُصْبُعَيْنِ مِنْ أَصَابِعِ رَبِّ الْعَالَمِينَ إِنْ شَاءَ أَنْ يُقِيمَهُ أَقَامَهُ وَإِنْ شَاءَ أَنْ يُزِيغَهُ أَزَاغَهُ. وَكَانَ يَقُولُ يَا مُقَلِّبَ الْقُلُوبِ ثَبِّتْ قُلُوبَنَا عَلَى دِينِكَ وَالْمِيزَانُ بِيَدِ الرَّحْمَنِ عَزَّ وَجَلَّ يَخْفِضُهُ وَيَرْفَعُهُ ».
أيها المسلمون
ولنا مع قوله تعالى : (رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ ) (8) آل عمران ،وقفات: أما الوقفة الأولى : أن قوله تعالى: { رَبَّنَا لَا تُزِغْ } : فالزيغ هو الميل عن الاستقامة ، فالزائغ: هو المائل عن الطريق المستقيم في طلب الحق، وعلى هذا يكون المعنى : أن الذين في قلوبهم زيغ، أي ميل عن طلب الحق، وعدم أَخْذٍ بالمنهج المستقيم، لا يتجهون إلى المحكم من القرآن، بل يتبعون ما تشابه منه؛ لأنه بُغيتُهم، ويجدون في الاشتباه ما يتفق مع اعوجاج نفوسهم، وعدم استقامة تفكيرهم، وما ينطوي عليه مقصدهم الباطل؛ فإن اعوجاج القلوب يجيء من تحكم الهوى في النفس، وإذا تحكم الهوى وسيطرت الشهوات المختلفة، كشهوة التسلط والغلب وحب السلطان، وشهوة المال، وشهوة النساء، وشهوة المفاسد، فإن القلوب تَرْكُس، وتَفْسُد، وتعوج، فلا تطلب الحق لذات الحق، بل تطلب ما يحقق شهوة النفس، وأولئك لأنهم لا يطلبون الحق يتبعون المتشابه، يتقصَّوْنه ويتعرفون مواضع الريب، ليثيروا الشبهات حول الحق، ويشككون الناس فيه؛ طلباً لفتنة الناس عن دينهم وخدعهم، وإثارة الريب في قلوبهم، بأوهام يثيرونها، وشبهات يفتعلونها.
وأما الوقفة الثانية : فإن قوله تعالى: {بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا} : فيه تحقيق للدعاء على سبيل التلطف؛ إذ أسندوا (الهدى) إلى الله تعالى، فكان ذلك كرماً منه، ولا يرجع الكريم في عطيته، وقد استعاذ النبي صلى الله عليه وسلم من السلب بعد العطاء، ومن القبض بعد البسط ، ومن فجاءة نقمته وتحول عافيته ، فقد روى مسلم في صحيحه : (عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ قَالَ كَانَ مِنْ دُعَاءِ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- « اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ زَوَالِ نِعْمَتِكَ وَتَحَوُّلِ عَافِيَتِكَ وَفُجَاءَةِ نِقْمَتِكَ وَجَمِيعِ سَخَطِكَ ».
وأما الوقفة الثالثة : فقوله سبحانه: {وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً} فهذا بقية الدعاء والضراعة التي تجري على ألسنة الراسخين في العلم، وهي من تعليم الله سبحانه وتعالى، وهذا الدعاء يتضمن طلب الرحمة، وقد تضمن الأول طلب تثبيت الإيمان، وهو أول أبواب الرحمة، والأصل لكل رحمة؛ فبعد أن علمنا سبحانه الضراعة بأن لا تميل قلوبنا، وجَّهنا لطلب الأثر كذلك وهو الرحمة، ورحمة الله تَفَضُّل وإنعام على العبد؛ لأنه وما يملك مِلك لله تعالى، يتصرف فيه كما يتصرف المالك في ملكه، وليس لأحد عند رب العالمين حساب. و(الرحمة) المطلوبة كلمة شاملة جامعة، فتجمع النصر في الدنيا والقرار والاطمئنان فيها، والنعيم في الآخرة.
وجُعِلَت الرحمة من عند الله؛ لأن تيسير أسبابها، وتكوين مهيئاتها بتقدير الله؛ إذ لو شاء لكان الإنسان معرضاً لنزول المصائب والشرور في كل لمحة؛ فإنه محفوف بموجودات كثيرة، حية وغير حية، هو تلقاءها في غاية الضعف، لولا لطف الله به بإيقاظ عقله لاتقاء الحوادث، وبإرشاده لاجتناب أفعال الشرور المهلكة، وبإلهامه إلى ما فيه نفعه، وبجعل تلك القوى الغالبة له قوى عمياء، لا تهتدي سبيلاً إلى قصده، ولا تصادفه إلا على سبيل الندور؛ ولهذا قال تعالى: {اللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ} (الشورى:19) ،ومن أجلى مظاهر اللطف أحوال الاضطرار والالتجاء ،وقال الرازي: “واعلم أن تطهير القلب عما لا ينبغي مُقَدَّم على تنويره بما ينبغي، فهؤلاء المؤمنون سألوا ربهم أولاً أن لا يجعل قلوبهم مائلة إلى الباطل والعقائد الفاسدة، ثم إنهم أتبعوا ذلك بأن طلبوا من ربهم أن ينور قلوبهم بأنوار المعرفة، وجوارحهم وأعضائهم بزينة الطاعة”. وقال الشيخ الشعراوي رحمه الله: “إن الراسخين في العلم يطلبون رحمة هبة، لا رحمة حق؛ فليس هناك مخلوق له حق على الله إلا ما وهبه الله له. والراسخون في العلم يطلبون من الله الرحمة من الوقوع في الهوى بعد أن هداهم الله”.
وأما الوقفة الرابعة : فقد خُتمت الآية الكريمة بما يدل على أن هبة (الرحمة) شأن من شؤون العلي القدير، ووصف من أوصافه، فقال سبحانه على ألسنة الضارعين المبتهلين: {إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ } في هذا تأكيد رحمة الله ،فكأن العبد يقول: إلهي هذا الذي طلبته منك في هذا الدعاء عظيم بالنسبة إلي، لكنه حقير بالنسبة إلى كمال كرمك، وغاية جودك ورحمتك، فأنت {الوهاب} الذي من هبتك حصلت حقائق الأشياء وذواتها وماهياتها ووجوداتها، فكل ما سواك فمن جودك وإحسانك وكرمك.
أقول قولي وأستغفر الله لي ولكم
الخطبة الثانية ( رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ )
الحمد لله رب العالمين . اللهم لك الحمد على نعمة الإسلام والايمان .ولك الحمد أن جعلتنا من أمة محمد عليه الصلاة والسلام. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له . وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
أما بعد أيها المسلمون
وقوله تعالى : (رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ ) (8) آل عمران ،فقد تضمنت هذه الدعوات المباركات كثيراً من المنافع والفوائد ، ومنها : أن العلم باللَّه تعالى هو أشرف العلوم على الإطلاق – وأن الرسوخ في العلم هو قدر زائد على مجرد العلم، فإن الراسخ في العلم يقتضي أن يكون عالماً محققاً – وأن سؤال اللَّه تعالى الثبات على الإيمان هو أعظم مقاصد الشارع المطلوبة – وأنه ينبغي للعبد أن يستحضر دوماً نعم اللَّه تعالى عليه، وخاصة نعمة الدين- وأنه كما أن التوسل إلى اللَّه تعالى بأسمائه وصفاته، كذلك يتوسل إليه بصفاته المنفية عنه تعالى (إنَّ اللَّه لاَ يُخْلِفُ المِيعَادَ) . وهذا النفي يتضمّن صفات الكمال، ومنها كمال صدقه وقدرته جلَّ وعَلا – وأنّ الإنسان لا يملك قلبه؛ لأنه بين إصبعين من أصابع الرحمن يُقلِّبه كيف يشاء، فيسأل اللَّه ألاَّ يزغه – وأن التخلية تكون قبل التحلية، يعني يُفرغ المكان من الشوائب والأذى، ثم يطهر، دلَّ عليه قوله: (رَبَّنَا لاَ تُزِغْ قُلُوبَنَا) ثم قال: (وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً) – وأن العطاء يكون على قدر المعطي؛ لقوله تعالى: (وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً)، – وأن كل الخلق لا غنى لهم عن دعاء ربهم في جلب المنافع، ودفع المضار.
الدعاء