خطبة عن التحاكم إلى الشريعة (ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا)
ديسمبر 7, 2019خطبة عن صلة الرحم وقطيعة الرحم وحديث ( الرَّحِمُ شِجْنَةٌ فَمَنْ وَصَلَهَا وَصَلْتُهُ وَمَنْ قَطَعَهَا قَطَعْتُهُ)
ديسمبر 7, 2019الخطبة الأولى (قَالُوا إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ ،فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ )
الحمد لله رب العالمين . اللهم لك الحمد على نعمة الإسلام والايمان .ولك الحمد أن جعلتنا من أمة محمد عليه الصلاة والسلام. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له . وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
أما بعد أيها المسلمون
يقول الله تعالى في محكم آياته عن أهل الجنة : (وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ (25) قَالُوا إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ (26) فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ (27) إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ) (25) :(28) الطور
إخوة الإسلام
لقد دعا الله عز وجل عباده إلى تدبر القرآن ، فقال الله تعالى : {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آَيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ} [ص: 29]، وفي نفس الوقت ،فقد أنكر الله على من أعرض عن تدبر القرآن ، فقال الله تعالى : {أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ أَمْ جَاءَهُمْ مَا لَمْ يَأْتِ آَبَاءَهُمُ الْأَوَّلِينَ} [المؤمنون: 68]، واليوم إن شاء الله موعدنا مع آيات من كتاب الله ، نتدبرها ، ونسبح في بحار معانيها ، ونرتشف من رحيقها المختوم ، مع قوله تعالى : (وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ (25) قَالُوا إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ (26) فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ (27) إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ) (25) : (28) الطور ، وقد جاء في تفسير ابن كثير (مختصرا ) : أن أهل الجنة أقبلوا يتحادثون ويتساءلون عن أعمالهم وأحوالهم في الدنيا، فقال بعضهم لبعض : لقد كنا في الدار الدنيا ونحن بين أهلينا خائفين من ربنا، مشفقين من عذابه وعقابه ، فتصدق الله تعالى علينا وأجارنا مما نخاف ، وقد كنا في الدنيا نتضرع إلى الله تعالى ، فاستجاب الله لنا ، وأعطانا سؤالنا . وعن عائشة ( رضي الله عنها ) أنها قرأت هذه الآية : (فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ (27) إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ) (27) : (28) الطور ، فقالت: اللهم منّ علينا، وقنا عذاب السموم، إنك أنت البر الرحيم
فهؤلاء المؤمنون قد كساهم الله جل وعلا أعظم الحلل، وأنزلهم الله جل وعلا أجل المنازل، وأفاء الله تبارك وتعالى عليهم من رحمته، ودفع الله جل وعلا عنهم كل نقمة، يجلس بعضهم إلى بعض فيتخاطبون، فإذا جلسوا في مجلس لا لغو فيه ولا تأثيم ، تذاكروا برحمة من الله وفضل ما من الله به عليهم في الدنيا، فنقل الله جل وعلا – وهو أصدق القائلين- كلامهم ، والذي سيكون يوم القيامة وفي قوله تعالى : { قَالُوا إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ} [الطور:26] أي: خائفين وجلين من عذاب الله تبارك وتعالى، فالله سبحانه وتعالى لا يأمن مكره إلا القوم الخاسرون، ولا يقنط من رحمته إلا الضالون، فالمؤمن يجعل الخوف والرجاء كجناحي الطائر، فالله جل وعلا لو أوكلنا إلى أعمالنا لهلكنا، ولكننا نسأل الله أن يكلنا إلى رحمته وفضله وعفوه؛ فإن الدنيا لا تطيب إلا بذكره جل وعلا، والآخرة لا تطيب إلا بعفوه، والجنة لا تطيب إلا برؤيته سبحانه وتعالى، فالله يخبر عنهم بأنهم يقولون: {إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ} [الطور:26]، فهذا الخوف الذي يعتري قلبك في الدنيا هو سبب الأمن يوم القيامة، أما من انكب على ظهره ، ومشى يبحث عن الشهوات ، ويتقلب في الشبهات، ويؤذي هذا ، ويحارب هذا، ويكفر بالله، ويخرج من ذنب إلى ذنب، ولا يخشى أحداً ولا يخاف ، وهو مطمئن بأنه لن يتسلط عليه أحداً، فمن كان هذا حاله ، فهو لا يمكن أن يأمن عند الرب تبارك وتعالى يوم القيامة . وقد قام الربيع بن خثيم رضي الله عنه الليل كله يتلوا آية واحدة هي قوله تعالى : {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ} [الجاثية:21]، وثبت في حديث صحيح عن نبينا صلى الله عليه وسلم أنه قام ليلة يقرأ آية واحدة من كتاب الله : {إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [المائدة:118]. فما زال نبينا صلى الله عليه وسلم يقرؤها حتى طلع الفجر صلوات الله وسلامه عليه.فهذا الخوف الذي يملأ قلوبنا نفرح به؛ لأن الخوف من الله جل وعلا أعظم وسائل نيل الأمن يوم القيامة، قال سبحانه: {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ} [الرحمن:46] وقال جل ذكره: {وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى} [النازعات:40]، وذكر تعالى الجنة ونعيمها ثم قال: {ذَلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي وَخَافَ وَعِيدِ} [إبراهيم:14]
أيها المسلمون
وفي قوله تعالى : (إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ) (28) الطور، فقد دلت هذه الآية الكريمة على أن الدعاء من أرجى الأعمال عند الرب تبارك وتعالى، وقد كانت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها تتأول القرآن فتدعو فتقول في دعائها : (اللهم قنا برحمتك عذاب السموم؛ إنك أنت البر الرحيم )؛ فالدعاء يصل الخلق بالخالق، ويعبر عن إيمان عميق ،بأن هناك إلهاً قديراً على كل شيء، وبيده الأمر كله، ويقدم المساعدة لمن يطلبها وفى أي وقت ، فهو سبحانه بابه مفتوح ، لا يغلق في وجه أحد مهما عظم أمره، فلنحرص على أن نلجأ إليه في كل وقت وخصوصاً في الشدة ، وقد مر بالأنبياء مواقف صعبة ،لم ينقذهم منها إلا صدق دعائهم، حيث كانت لهم في هذه المواقف أنبل الكلمات ،وأجمل الألفاظ ،التي تجسد حسن التوسل ، ومناجاة الله وحده، وحبذا لو خالط هذا الدعاء البكاء من خشية الله ، فالبكاء في الدعاء أمر مستحب ، وقد مدح الله تعالى البكائين من خشيته، وأشاد بهم في كتابه الكريم ، فقال الله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ سُجَّدًا (107) وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولًا (108) وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا) (107) :(109) الاسراء ، وفي سنن الترمذي : (عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- :« لاَ يَلِجُ النَّارَ رَجُلٌ بَكَى مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ حَتَّى يَعُودَ اللَّبَنُ فِي الضَّرْعِ ) ، وفي الصحيحين : قال صلى الله عليه وسلم : “سَبْعَةٌ يُظِلهُمُ اللهُ في ظِلهِ يَوْمَ لا ظِل إلا ظلهُ . .”، وفي آخر الحديث، قال : “ورَجُلٌ ذَكَرَ الله خالِياً فَفَاضَتْ عَيْنَاهُ” . وفي سنن الترمذي : (عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ : « عَيْنَانِ لاَ تَمَسُّهُمَا النَّارُ عَيْنٌ بَكَتْ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَعَيْنٌ بَاتَتْ تَحْرُسُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ».
أيها المسلمون
ويقول سيد قطب في تفسيره: لقد عاش المؤمنون على حذر من هذا اليوم، عاشوا في خشية من لقاء ربهم، عاشوا مشفقين من حسابه، عاشوا كذلك وهم في أهلهم، حيث الأمان الخادع. ولكنهم لم ينخدعوا، وحيث المشغلة الملهية، ولكنهم لم ينشغلوا، عندئذ مَنَّ الله عليهم ووقاهم عذاب السموم، الذي يتخلل الأجسام كالسم الحار اللاذع! ،وقاهم هذا العذاب مِنَّة منه وفضلاً، لما علم من تقواهم وخشيتهم وإشفاقهم ، وهم يعرفون هذا، ويعرفون أن العمل لا يدخل صاحبه الجنة ،إلا بمنة من الله وفضل، فما يبلغ العمل أكثر من أن يشهد لصاحبه أنه بذل جهده، ورغب فيما عند الله. وهذا هو المؤهل لفضل الله . وقد كانوا مع الإشفاق والحذر والتقوى يدعون الله: { إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلُ نَدْعُوهُ }. . وهم يعرفون من صفاته البر بعباده والرحمة بعبيده: { إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ}. وكذلك ينكشف سر الوصول في تناجي هؤلاء الناجين المكرمين في دار النعيم .
أقول قولي وأستغفر الله لي ولكم
الخطبة الثانية ( فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ )
الحمد لله رب العالمين . اللهم لك الحمد على نعمة الإسلام والايمان .ولك الحمد أن جعلتنا من أمة محمد عليه الصلاة والسلام. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له . وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
أما بعد أيها المسلمون
وفي قوله تعالى : (قَالُوا إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ) الطور (26) ، قال المناويّ: الشّفقة: هي صرف الهمّة إلى إزالة المكروه عن النّاس. وروى مسلم في صحيحه : (عَنْ أَبِى ذَرٍّ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- :« إِنِّي لأَعْلَمُ آخِرَ أَهْلِ الْجَنَّةِ دُخُولاً الْجَنَّةَ وَآخِرَ أَهْلِ النَّارِ خُرُوجًا مِنْهَا رَجُلٌ يُؤْتَى بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَيُقَالُ اعْرِضُوا عَلَيْهِ صِغَارَ ذُنُوبِهِ وَارْفَعُوا عَنْهُ كِبَارَهَا. فَتُعْرَضُ عَلَيْهِ صِغَارُ ذُنُوبِهِ فَيُقَالُ عَمِلْتَ يَوْمَ كَذَا وَكَذَا كَذَا وَكَذَا وَعَمِلْتَ يَوْمَ كَذَا وَكَذَا كَذَا وَكَذَا. فَيَقُولُ نَعَمْ. لاَ يَسْتَطِيعُ أَنْ يُنْكِرَ وَهُوَ مُشْفِقٌ مِنْ كِبَارِ ذُنُوبِهِ أَنْ تُعْرَضَ عَلَيْهِ. فَيُقَالُ لَهُ فَإِنَّ لَكَ مَكَانَ كُلِّ سَيِّئَةٍ حَسَنَةً. فَيَقُولُ رَبِّ قَدْ عَمِلْتُ أَشْيَاءَ لاَ أَرَاهَا هَا هُنَا ». فَلَقَدْ رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- ضَحِكَ حَتَّى بَدَتْ نَوَاجِذُهُ). ومن الآثار والأقوال الواردة في (الشفقة) : قال إبراهيم التّيميّ: “ينبغي لمن لم يحزن أن يخاف أن يكون من أهل النّار؛ لأنّ أهل الجنّة قالوا: الحمد للّه الّذي أذهب عنّا الحزن. وينبغي لمن لم يشفق أن يخاف أن لا يكون من أهل الجنّة لأنّهم قالوا: إنّا كنّا قبل في أهلنا مشفقين”. وعن الحسن البصريّ رحمه اللّه قال : {وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ ما آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ} [المؤمنون:60] ، قال: “كانوا يعملون ما عملوا من أنواع البرّ وهم مشفقون أن لا ينجيهم ذلك من عذاب اللّه”. ومن فوائد (الشفقة) : أنها طريق موصل إلى الجنّة ، وهي دليل على كمال الإيمان وحسن الإسلام ، والشفقة تثمر الألفة والمحبّة بين النّاس ، وهي مظهر من مظاهر مراقبة اللّه عزّ وجلّ. وفي الشفقة الأمن من الفزع الأكبر يوم القيامة ، وهي دليل على قرب العبد من ربّه ومحبّته له.
الدعاء