خطبة حول حديث ( اللَّهُ أَكْبَرُ كَبِيرًا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ كَثِيرًا)
فبراير 4, 2023خطبة حول نعيم أهل الجنة وقوله تعالى( دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ)
فبراير 7, 2023الخطبة الأولى ( نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَنْ نَشَاءُ )
الحمد لله رب العالمين . اللهم لك الحمد على نعمة الإسلام والايمان .ولك الحمد أن جعلتنا من أمة محمد عليه الصلاة والسلام. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له . وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
أما بعد أيها المسلمون
يقول الله تعالى في محكم آياته: (وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاءُ نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَنْ نَشَاءُ وَلَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (56) وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ) (56) ،(57) يوسف
إخوة الإسلام
إن المتأمل والمتدبر لهذه الآيات المباركات يتبين له: أنها تحدثنا عن نعم الله تعالى على عبده، وأنه سبحانه كما أنعَمَ على يوسُفَ بالخَلاصِ مِن السِّجنِ، ومكَّنَ له في أرضِ مصرَ ينزِلُ منها أيَّ مَنزِلٍ شاءَه، فهو سبحانه يُصيبُ برَحمتِه مَن يشاءُ مِن عبادِه المتَّقينَ، ولا يُضيعُ أجرَ مَن أحسَنَ شيئًا مِن العمَلِ الصَّالحِ، وأن ثواب الآخرةِ عندَ اللهِ لأهلِ الإيمانِ والتَّقوى- الَّذين يخافونَ عِقابَ اللهِ، ويُطيعونَه في أمرِه ونَهيِه- أعظَمُ مِن ثوابِ الدُّنيا. ففي أوقات المحنة والشدة يكون الإنسان في أشد الحاجة إلى أن يكسوه الله بكساء الرحمة، بما تحمله من معانى الاطمئنان والسكينة والأمن والأمل في الخروج من الأحوال الصعبة التي تقذف الحياة بنى آدم فيها. وسحابات الرحمة ونسمات السكينة ودفء الاطمئنان تجد طريقها بسهولة إلى حياة المحسنين. فنبي الله يوسف (عليه السلام) عاش محناً وابتلاءات لا يقوى على تحملها سوى أولى العزم من البشر، وقد أحسن في مواجهتها حين عالجها بالصبر، والترفع عن الجزع أو الضجر، ولم تدفعه إساءات البشر من حوله – بما في ذلك من أقرب الناس إليه إخوته- إلى التخلي عن أخلاقياته الراسخة، فبادل الإساءة بالإحسان. فكانت الإجادة والصبر والذكاء في مواجهة المواقف الصعبة جوهر رحمة الله تعالى بنبيه يوسف، فرحمة الله أقرب ما تكون إلى المحسنين
وفي قوله تعالى:(نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَنْ نَشَاءُ ): فهذه الرحمة هي التي أصابت نبي الله (إبراهيم) في النار، فكانت بردا وسلاما، وهي التي أصابت يونس في بطن الحوت، فجاءه النداء : (فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ) (88) الانبياء، وهذه الرحمة هي التي أصابت نبي الله (يوسف)، في غيابة الجب، وفي السجن، فكان الخطاب: (كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ) (24) يوسف، وهذه الرحمة هي التي أصابت نبي الله (موسى) وهو رضيع، فكان النداء: ( أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِي وَعَدُوٌّ لَهُ وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي) (39) طه، وهذه الرحمة هي التي أصابت نبي الله (أيوب)، حينما نادى ربه: (أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ) (83) الأنبياء، فتنزلت الرحمة: (فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ) (84) الأنبياء، وهذه الرحمة هي التي أصابت أبا البشر (آدم) وأمنا (حواء) حينما تابا ورجعا: (فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ) (37) البقرة، (قَالَا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ) (23) الأعراف، وهذه الرحمة هي التي جاءت على لسان نبي الله سليمان حين قال: (وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ) (19) النمل، فبرحمة الله تعالى يتبدل الحال: من العسر يسرا، ومن الضيق فرجا، ومن الخوف أمنا، ومن القيد حرية، ومن الهوان على الناس عزا ومقاما عليا،
فالله سبحانه وتعالى هو الرحمن الرحيم، وهو أرحم الراحمين، الذي وسعت رحمته كل شيء ، قال تعالى: (وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ) الأعراف : 156، وفي صحيح مسلم : (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ « إِنَّ لِلَّهِ مِائَةَ رَحْمَةٍ أَنْزَلَ مِنْهَا رَحْمَةً وَاحِدَةً بَيْنَ الْجِنِّ وَالإِنْسِ وَالْبَهَائِمِ وَالْهَوَامِّ فَبِهَا يَتَعَاطَفُونَ وَبِهَا يَتَرَاحَمُونَ وَبِهَا تَعْطِفُ الْوَحْشُ عَلَى وَلَدِهَا وَأَخَّرَ اللَّهُ تِسْعًا وَتِسْعِينَ رَحْمَةً يَرْحَمُ بِهَا عِبَادَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ». ومن رحمة الله بعباده: إرسال الرسل، وإنزال الكتب والشرائع، لتستقيم حياتهم على سنن الرشاد، بعيدا عن الضنك والعسر والضيق, قال تعالى: (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ) الأنبياء : 107، ورحمته تعالى هي التي تدخل عباده المؤمنين الجنة يوم القيامة، ولن يدخل أحد الجنة بعمله، ففي الصحيحين: (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ – رضي الله عنه – قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ – صلى الله عليه وسلم – «لَنْ يُنَجِّيَ أَحَدًا مِنْكُمْ عَمَلُهُ». قَالُوا وَلاَ أَنْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ «وَلاَ أَنَا، إِلاَّ أَنْ يَتَغَمَّدَنِي اللَّهُ بِرَحْمَةٍ، سَدِّدُوا وَقَارِبُوا، وَاغْدُوا وَرُوحُوا، وَشَيْءٌ مِنَ الدُّلْجَةِ. وَالْقَصْدَ الْقَصْدَ تَبْلُغُوا»، ويضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم مثلا حتى تصل صورة سعة الرحمة إلى قلب كل قلق فيهدأ: ففي الصحيحين: (عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ – رضي الله عنه – قَدِمَ عَلَى النَّبِيِّ – صلى الله عليه وسلم – سَبْيٌ، فَإِذَا امْرَأَةٌ مِنَ السَّبْي قَدْ تَحْلُبُ ثَدْيَهَا تَسْقِي، إِذَا وَجَدَتْ صَبِيًّا فِي السَّبْي أَخَذَتْهُ فَأَلْصَقَتْهُ بِبَطْنِهَا وَأَرْضَعَتْهُ، فَقَالَ لَنَا النَّبِيُّ – صلى الله عليه وسلم – «أَتَرَوْنَ هَذِهِ طَارِحَةً وَلَدَهَا فِي النَّارِ». قُلْنَا لاَ وَهْىَ تَقْدِرُ عَلَى أَنْ لاَ تَطْرَحَهُ. فَقَالَ «اللَّهُ أَرْحَمُ بِعِبَادِهِ مِنْ هَذِهِ بِوَلَدِهَا»، ويورد ابن القيم – رحمه الله – عن بعض العارفين أنه رأى في بعض السكك بابًا قد فُتِح وخرج منه صبي يستغيث ويبكي، وأمُّه خلفه تطرده، حتى خرج، فأغلقت الباب في وجهه ودخلت، فذهب الصبي غير بعيد، ثم وقف مفكرًا، فلم يجد مأوى غير البيت الذي أُخرِج منه، ولا مَن يؤويه غير والدته، فرجع مكسور القلب حزينًا، فوجد الباب مرتجًا مغلقًا، فتوسَّده ووضع خدَّه على عتبة الباب، ونام، فخرجت أمُّه، فلمَّا رأته على تلك الحال، لم تملك أن رمت بنفسها عليه، والتزمته، تقبِّله وتبكي، وتقول: يا ولدي، أين تذهب عنِّي؟ مَن يُؤويك سواي؟! أين تذهب عنِّي؟ مَن يؤويك سواي؟! ألم أقل لك: لا تخالفني، ولا تحملني بمعصيتك على خلاف ما جبلت عليه من الرحمة بك، والشفقة عليك، وإرادة الخير لك؟ ثم ضمته إلى صدرها، ودخلت به بيتها، فتأمل قولها: لا تحملني بمعصيتك على خلاف ما جُبِلت عليه من الرحمة بك، والشفقة عليك.
وفي قوله تعالى: (نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَنْ نَشَاءُ ): فمن رحمة الله ستر الذنوب في الدنيا، وغفرانها في الآخرة: ففي صحيح البخاري: (عَنْ صَفْوَانَ بْنِ مُحْرِزٍ الْمَازِنِيِّ قَالَ بَيْنَمَا أَنَا أَمْشِي مَعَ ابْنِ عُمَرَ – رضى الله عنهما – آخِذٌ بِيَدِهِ إِذْ عَرَضَ رَجُلٌ ، فَقَالَ كَيْفَ سَمِعْتَ رَسُولَ اللَّهِ – صلى الله عليه وسلم – فِي النَّجْوَى فَقَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ – صلى الله عليه وسلم – يَقُولُ « إِنَّ اللَّهَ يُدْنِي الْمُؤْمِنَ فَيَضَعُ عَلَيْهِ كَنَفَهُ، وَيَسْتُرُهُ فَيَقُولُ أَتَعْرِفُ ذَنْبَ كَذَا أَتَعْرِفُ ذَنْبَ كَذَا فَيَقُولُ نَعَمْ أَيْ رَبِّ. حَتَّى إِذَا قَرَّرَهُ بِذُنُوبِهِ وَرَأَى فِي نَفْسِهِ أَنَّهُ هَلَكَ قَالَ سَتَرْتُهَا عَلَيْكَ فِي الدُّنْيَا، وَأَنَا أَغْفِرُهَا لَكَ الْيَوْمَ. فَيُعْطَى كِتَابَ حَسَنَاتِهِ)، وفي صحيح مسلم: (عَنْ أَبِي مُوسَى عَنِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ « إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يَبْسُطُ يَدَهُ بِاللَّيْلِ لِيَتُوبَ مُسِيءُ النَّهَارِ وَيَبْسُطُ يَدَهُ بِالنَّهَارِ لِيَتُوبَ مُسِيءُ اللَّيْلِ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ مِنْ مَغْرِبِهَا ».
أقول قولي وأستغفر الله لي ولكم
الخطبة الثانية ( نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَنْ نَشَاءُ )
الحمد لله رب العالمين . اللهم لك الحمد على نعمة الإسلام والايمان .ولك الحمد أن جعلتنا من أمة محمد عليه الصلاة والسلام. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له . وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
أما بعد أيها المسلمون
وما زال حديثنا موصولا حول قوله تعالى: (نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَنْ نَشَاءُ ): فرحمة في الدنيا بالعطاء، ورحمته في الآخرة بوافر الجزاء، فلله عظيم الشكر والامتنان: قال تعالى: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [الزمر: 53]، فلا شك أن رحمة الله ورضوانه والتي بهما ينال المؤمن سعادة الدنيا، وفلاح الآخرة، تحتاج إلى تلمس نفحات الرحمن، ومواطن الرحمات، ونوجزها في أربع قضايا: الأولى: الإيمان والعقيدة الصافية من لوث الشرك، والاعتصام بالعروة الوثقى؛ حبل النجاة، ودعوة الرسل جميعًا، فهي من أعظم ما يجلب للمسلم الرحمة الواسعة؛ قال تعالى: {فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَاعْتَصَمُوا بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ} [النساء: 175]. الثانية: اتخاذ سيد المرسلين وإمام المتقين قدوةً لك في كل ما يعمل وما يَذَرُ، فاتباع منهجه رحمة لا يُوفَّق إليها إلا من أحب النبي صلى الله عليه وسلم اتباعًا، وسار على نهجه اقتفاء؛ قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [الحديد: 28]. الثالثة: من تتابع إحسانه في عبادة ربه، وإحسانه في معاملة خلقه، فقد سار إلى رحمة ربه؛ قال تعالى: {إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} [الأعراف: 56]. الرابعة: إذا استولى على قلب المؤمن الرحمة والرأفة على من في الأرض نزلت عليه رحمات من في السماء؛ ففي سنن الترمذي بسند صحيح: (عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- « الرَّاحِمُونَ يَرْحَمُهُمُ الرَّحْمَنُ ارْحَمُوا مَنْ فِي الأَرْضِ يَرْحَمْكُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ الرَّحِمُ شُجْنَةٌ مِنَ الرَّحْمَنِ فَمَنْ وَصَلَهَا وَصَلَهُ اللَّهُ وَمَنْ قَطَعَهَا قَطَعَهُ اللَّهُ »
الدعاء