خطبة عن حديث (عَجَبًا لأَمْرِ الْمُؤْمِنِ إِنَّ أَمْرَهُ كُلَّهُ خَيْرٌ)
فبراير 2, 2019خطبة عن الصحابي: (عُمَيْرُ بْنُ سَعْدٍ)
فبراير 2, 2019الخطبة الأولى ( وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى)
الحمد لله رب العالمين . اللهم لك الحمد على نعمة الإسلام والايمان .ولك الحمد أن جعلتنا من أمة محمد عليه الصلاة والسلام. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له . وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
أما بعد أيها المسلمون
يقول الله تعالى في محكم آياته :(وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) (260) البقرة
إخوة الإسلام
لقاؤنا اليوم -إن شاء الله- مع هذه الآية الكريمة من كتاب الله العزيز ، نتدبرها ، ونتفهم معانيها ، ونبحث عن مراميها ، ونعمل بما جاء فيها .وبداية ، تعالوا بنا في رحلة قصيرة ، حول أقوال أهل التأويل والتفسير فيها : ففي قوله تعالى : ( وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي ..) (260) البقرة ، فقد ذكر شيخ المفسرين الإمام أبو جعفر الطبري رحمه الله في تفسيره اختلاف السلف في سبب سؤال إبراهيم عليه السلام، ويمكن تلخيص ما ذكره في أربعة أقوال : القول الأول: أنه سأل هذا السؤال بغرض الحصول على عين اليقين، بعد أن توافر في قلبه علم اليقين ، فقد رأى دابة قد تقسمتها السباع والطير , فسأل ربه أن يريه كيفية إحيائه إياها ،مع تفرق لحومها في بطون طير الهواء وسباع الأرض ، ليرى ذلك عيانا , فيزداد يقينا برؤيته ذلك عيانا إلى علمه به خبرا (قالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ ) قالَ بَلى: يَا رَبِّ عَلِمْتُ وَآمَنْتُ، (وَلكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي)، أَيْ: لِيَسْكُنَ قَلْبِي إِلَى الْمُعَايَنَةِ وَالْمُشَاهَدَةِ، فأَرَادَ أَنْ يَصِيرَ لَهُ عِلْمُ الْيَقِينِ عَيْنَ الْيَقِينِ، لِأَنَّ الْخَبَرَ لَيْسَ كَالْمُعَايَنَةِ, فأراه الله ذلك مثلا بما أخبر أنه أمره به . القول الثاني: أن هذا السؤال بسبب المناظرة والمحاجة التي جرت بينه وبين النمروذ في ذلك، حيث تاق قلبه لمعاينة الإحياء، من غير شك. القول الثالث: أن هذا السؤال ليطمئن قلب إبراهيم باصطفاء الله له خليلاً، فسأل ربه أن يريه علامة عاجلة تدلُّ على ذلك. القول الرابع: أنَّه عليه السلام شكَّ في قدرة الله على إحياء الموتى، علماً أن «الشك» هنا ليس هو الشك الذي يذكره الأصوليون، والذي يعني : (التوقف بين أمرين ولا مزية لأحدهما على الآخر) ؛ كما نبَّه إلى ذلك ابن عطية رحمه الله ، وإنما يقصد بالشك : (هو الخواطر الشيطانية العارضة ) .ثم قال الطبري رحمه الله: «وأولى هذه الأقوال بتأويل الآية ما صحَّ الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ففي الصحيحين : (عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ – رضى الله عنه – قَالَ ،: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ – صلى الله عليه وسلم – : « نَحْنُ أَحَقُّ بِالشَّكِّ مِنْ إِبْرَاهِيمَ إِذْ قَالَ : ( رَبِّ أَرِنِى كَيْفَ تُحْيِى الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي )فتكون مسألته ربه ما سأله أنْ يريه من إحياء الموتى لعارض من الشيطان عرض في قلبه، كالذي ذكرنا عن ابن زيد آنفاً من أنَّ إبراهيم لما رأى الحوت الذي بعضه في البر وبعضه في البحر، قد تعاوره دواب البر ودواب البحر وطير الهواء؛ ألقى الشيطان في نفسه فقال: متى يجمع الله هذا من بطون هؤلاء؟ فسأل إبراهيم حينئذٍ ربه أنْ يريه كيف يحيي الموتى ليعاين ذلك عياناً، فلا يقدر بعد ذلك الشيطان أنْ يلقي في قلبه مثل الذي ألقى فيه عند رؤيته ما رأى من ذلك، فقال له ربه: أو لم تؤمن؟ يقول: أو لم تصدق يا إبراهيم بأني على ذلك قادر؟ قال: بلى يا ربِّ، لكن سألتك أن تريني ذلك ليطمئن قلبي، فلا يقدر الشيطان أن يلقي في قلبي مثل الذي فعل عند رؤيتي هذا الحوت»
أيها المسلمون
وفي قول نبي الله إبراهيم ( عليه السلام ) : (رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى ) فلم تكن هذه المسألة من إبراهيم عليه السلام بالأمر الهيِّن، لأنها أولاً غيبٌ لا يعلمه إلا الله، ولا يدرك كنهه إلا هو سبحانه، والإيمان بالغيب من أعز صفات المتقين كما قال الله تعالى: {هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ} [البقرة: ٢، ٣] ولسنا مأمورين بالبحث عن هذه الكيفية، ولأنها ثانياً بدرت من رجلٍ كريم على الله قد اتخذه الله خليلاً لما حلَّ بقلبه من الإيمان والتجرد والصدق مع الله سبحانه، ولأنها ثالثاً تنبئ عن وجود خاطرٍ في القلب لا يصدر عادة ممن كمل إيمانهم، ولذلك جاء الاستفهام عقب مسألة إبراهيم عليه السلام مباشرة: «أوَ لم تؤمن؟»، فمسألة إبراهيم عليه السلام رؤية الكيفية التي بها يحيي الله الموتى ليست بالهينة. وهنا تعجبُ من أمرين: الأمر الأول: أنَّ إبراهيم عليه السلام مع رسوخ قدمه وعلوِّ شأنه وصِدق إيمانه يعرِض مسألة على ربه يريد بها أنْ يدفع الخاطر الذي يلقيه عليه الشيطان مما ينافي الإيمان. والأمر الآخر وهو أعجب: أن الله تعالى – وهو الرحمن الرحيم – لا يُعرِض عن هذه المسألة لكونها في ظاهرها تدلُّ على هذا الخاطر، وإنما برحمته سبحانه يجيب إبراهيم عن مسألته ويدلُّه على ما تقرُّ عينه به من معاينة الإحياء.
أيها المسلمون
والدرس التربوي الكبير في هذا الموقف الذي خلَّده القرآن الكريم : أنَّ الخواطر والشبهات والوساوس والأفكار مما يتسلط به الشيطان على عباده الصالحين، مهما علت منازلهم، فهم بحاجة دائمة إلى التخلص منها ببرد اليقين ومعاينة الحقيقة، لا الكبت ولا الإعراض ولا الاستدلال بوجودها على سوء حال حاملها. فهذا إبراهيم عليه السلام كما يقول عطاء بن أبي رباح: «دخل قلبه بعض ما يدخل قلوب الناس»، أي من الخواطر والوساوس الشيطانية. والدرس التربوي الآخر هو : التعاطي الإيجابي مع أولئك الذين طفت على قلوبهم خواطر ووساوس وأفكار لا ينبغي أنْ تصدر من أمثالهم، برحمة وعطف وحجة بينة ومصداقية في الطرح، لتزول هذه الوساوس والأفكار عن قلوبهم بالكلية، وليندحر الشيطان اللعين
أقول قولي وأستغفر الله لي ولكم
الخطبة الثانية ( وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى)
الحمد لله رب العالمين . اللهم لك الحمد على نعمة الإسلام والايمان .ولك الحمد أن جعلتنا من أمة محمد عليه الصلاة والسلام. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له . وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
أما بعد أيها المسلمون
ثم نأتي إلى قوله تعالى : (قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) (260) البقرة قال المفسّرون: أَمَرَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ أَنْ يَذْبَحَ تِلْكَ الطُّيُورَ، وَيَنْتِفَ رِيشَهَا وَيَقْطَعَهَا وَيَخْلِطَ رِيشَهَا وَدِمَاءَهَا وَلُحُومَهَا بَعْضَهَا بِبَعْضٍ، فَفَعَلَ ثُمَّ أَمَرَهُ أَنْ يَجْعَلَ أَجْزَاءَهَا عَلَى الْجِبَالِ وَاخْتَلَفُوا فِي عَدَدِ الْأَجْزَاءِ وَالْجِبَالِ، فَقَالَ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا وَقَتَادَةُ: أُمِرَ أَنْ يَجْعَلَ كُلَّ طَائِرٍ أَرْبَعَةَ أَجْزَاءٍ، وَيَجْعَلَهَا عَلَى أَرْبَعَةِ أَجْبُلٍ، عَلَى كُلِّ جَبَلٍ رُبْعًا مِنْ كُلِّ طَائِرٍ، وَقَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ وَالسُّدِّيُّ: جَزَّأَهَا سَبْعَةَ أَجْزَاءٍ وَوَضَعَهَا عَلَى سبعة أجبل وأمسك رؤوسهن، ثم دعاهنّ فقال: تعالين بإذن الله، فَجَعَلَتْ كُلُّ قَطْرَةٍ مِنْ دَمِ طَائِرٍ تَطِيرُ إِلَى الْقَطْرَةِ الْأُخْرَى وَكُلُّ رِيشَةٍ تَطِيرُ إِلَى الرِّيشَةِ الْأُخْرَى وَكُلُّ عَظْمٍ يَصِيرُ إِلَى العظم الآخر وكل بضعة لحم تَصِيرُ إِلَى الْأُخْرَى، وَإِبْرَاهِيمُ يَنْظُرُ حَتَّى لَقِيَتْ كُلُّ جُثَّةٍ بَعْضَهَا بعضا في السماء بِغَيْرِ رَأْسٍ، ثُمَّ أَقْبَلْنَ إِلَى رؤوسهن سَعْيًا فَكُلَّمَا جَاءَ طَائِرٌ مَالَ بِرَأْسِهِ، فَإِنْ كَانَ رَأْسُهُ دَنَا مِنْهُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ تَأَخَّرَ حَتَّى الْتَقَى كُلُّ طَائِرٍ بِرَأْسِهِ، فَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: (ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا)، وقِيلَ: الْمُرَادُ بِالسَّعْيِ الْإِسْرَاعُ وَالْعَدْوُ، وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِهِ المشي دون الطير وَقِيلَ: السَّعْيُ بِمَعْنَى: الطَّيَرَانِ، وجاء في تفسير(السعدى) قوله : وهذا فيه أيضا أعظم دلالة حسية على قدرة الله وإحيائه الموتى للبعث والجزاء، فأخبر تعالى عن خليله إبراهيم أنه سأله أن يريه ببصره كيف يحيي الموتى، لأنه قد تيقن ذلك بخبر الله تعالى، ولكنه أحب أن يشاهده عيانا ليحصل له مرتبة عين اليقين، فلهذا قال الله له: { قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي } وذلك أنه بتوارد الأدلة اليقينية مما يزداد به الإيمان ويكمل به الإيقان ويسعى في نيله أولو العرفان، فقال له ربه { فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ } أي: ضمهن ليكون ذلك بمرأى منك ومشاهدة وعلى يديك. { ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءًا } أي: مزقهن، اخلط أجزاءهن بعضها ببعض، واجعل على كل جبل، أي: من الجبال التي في القرب منه، جزء من تلك الأجزاء { ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا } أي: تحصل لهن حياة كاملة، ويأتينك في هذه القوة وسرعة الطيران، ففعل إبراهيم عليه السلام ذلك وحصل له ما أراد ،وهذا من ملكوت السماوات والأرض الذي أراه الله إياه في قوله تعالى : { وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ} الانعام (75) ، ثم قال تعالى: { وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ } (260) البقرة ، أي: ذو قوة عظيمة سخر بها المخلوقات، فلم يستعص عليه شيء منها، بل هي منقادة لعزته خاضعة لجلاله، ومع ذلك فأفعاله تعالى تابعة لحكمته، لا يفعل شيئا عبثا
أيها المسلمون
وهكذا يتبين لنا الأمر جليا : فمعنى الآية ظاهرٌ في أنَّ إبراهيم عليه السلام خاطب ربه سائلاً إياه أن يريه كيفية إحياء الموتى عياناً، فسأله ربه وهو أعلم به عن إيمانه، حيث يدل ظاهر السؤال على وجود خواطر في القلب حول هذه المسألة، فأجابه إبراهيم ببقاء إيمانه، وأنه بسؤاله يريد أن يطمئن قلبه حتى لا تغلبه تلك الخواطر العارضة، فأمره الله تعالى أن يأخذ أربعة أجناس من الطير، ثم يذبحها ويقطعها أشلاء ثم يجعل هذه الأشلاء فوق عددٍ من الجبال موزعة عليها، وأمره بعد ذلك أنْ يدعو الأجناس من الطير الممزقة فتلتئم ثم تأتيه مسرعة كهيئتها قبل أن يذبحها؛ ليرى بأم عينيه إمكانية إحياء الموتى.
الدعاء