خطبة عن قوله تعالى (وَاصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ)
مارس 23, 2019خطبة حول قوله تعالى (يُدَبِّرُ الْأَمْرَ يُفَصِّلُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ بِلِقَاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ)
مارس 23, 2019الخطبة الأولى ( وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ)
الحمد لله رب العالمين . اللهم لك الحمد على نعمة الإسلام والايمان .ولك الحمد أن جعلتنا من أمة محمد عليه الصلاة والسلام. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له . وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
أما بعد أيها المسلمون
يقول الله تعالى في محكم آياته : (وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ) البقرة (235) ، وقال الله تعالى : (لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) (284) البقرة ، وقال الله تعالى : (قُلْ إِنْ تُخْفُوا مَا فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَيَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) (29) آل عمران
إخوة الإسلام
القرآن الكريم: هو أساس رسالة التوحيد، وهو المصدر القويم للتشريع، ومنهل الحكمة والهداية، والرحمة المسداة للناس، وهو النور المبين للأمة، والمحجة البيضاء التي لا يزغ عنها إلا هالك ، وموعدنا اليوم إن شاء الله مع آية من كتاب الله ، نتلوها ، ونتفهم معانيها ، ونسبح في بحار مراميها ، ونعمل إن شاء الله بما جاء فيها ، مع قوله تعالى : (وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ) البقرة (235) ،قال التستري: في قوله: {واعلموا أَنَّ الله يَعْلَمُ مَا في أَنفُسِكُمْ فاحذروه} البقرة (235) ، أي: علم الله ما في غيب أنفسكم ،قبل خلقه لكم ،من فعل حركة أو سكون ،بخير أمر به وأعان على فعله، وفعل ما نهى عنه، ولم يعصم من نزل به، وخلى من شاء مع الهوى لإظهار فعل ما نهى عنه، ولم يعصم عدلًا منه وحكمًا، فكان معنى قوله: {مَا في أَنفُسِكُمْ} أي ما ستفعلونه، {فاحذروه} أي اضرعوا إليه فيه حتى يكون هو الذي يتولى الأمر بالمعونة والتوفيق على الطاعة، ويعصم عن النهي بالنصر والتأييد. ألا ترون إلى قول عبدالله بن مسعود رضي الله عنهما: اللهم إن كنا عندك في أم الكتاب أشقياء محرومين فامْحُ ذلك عنا وأثبتنا سعداء مرحومين، فإنك تمحو ما تشاء، وتثبت وعندك أم الكتاب. وقال ابن عطية: وقوله تعالى: { وَاعْلَمُوا } إلى آخر الآية: تحذير من الوقوع فيما نهى عنه، وتوقيف على غفره وحلمه في هذه الأحكام التي بيَّنَ ووسَّعَ فيها من إباحة التعريض ونحوه. وقال ابن عاشور: ابتدأ الخطاب (وَاعْلَمُوا ) لما أريد قطع هواجس التساهل والتأول، في هذا الشأن، ليأتي الناس ما شرع الله لهم عن صفاء سريرة من كل دخل وحيلة، ولما هدّدهم الله سبحانه وتعالى بأنه مطلع على ما في أنفسهم، وحذرهم منه، أردف ذلك بالصفتين الجليلتين ليزيل عنهم بعض روع التهديد والوعيد، والتحذير من عقابه، ليعتدل قلب المؤمن في الرجاء والخوف، وختم بهاتين الصفتين المقتضيتين المبالغة في الغفران والحلم، ليقوي رجاء المؤمن في إحسان الله تعالى، وطمعه في غفرانه وحلمه إن زل وهفا،
أيها المسلمون
واللّه سبحانه وتعالى لا يحذّر الإنسان من شيء إلاّ إذا كان ممّا يغضبه سبحانه، وفي قوله تعالى: {وَاعْلَمُوا أَنَّ اللّه يَعْلَمُ ما فِي أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ} البقرة (235) ، فيه نهاية التّحذير من الوقوع فيما نهى اللّه عنه، ذلك أنّ اللّه توعّد عباده على ما يقع في ضمائرهم، وأرشدهم إلى إضمار الخير دون الشرّ؛ لأنّ الآية تفيد إحاطة علم اللّه تعالى بكلّ شيء؛ فهو تنبيه على أنّه تعالى لمّا كان عالمًا بالسّرّ والعلانية، وجب الحذر في كلّ ما يفعله الإنسان في سرّه وعلانيته، فيتفرّع على هذا: وجوب أن لا يضمر الإنسان في نفسه ما لا يرضاه اللّه عزّ وجلّ. فخشية اللّه، والحذر ممّا يحيك في الصّدور ، وأن الله يطّلع عليه هي الضّمانة الأخيرة، مع التّشريع، لتنفيذ التّشريع. فإذا هزّ الضّمير البشري هزّة الخوف والحذر، فصحَا وارتعش رعشة التّقوى والتحرّج، عاد فسكب فيه الطّمأنينة للّه، والثّقة بعفو اللّه، وحلمه وغفرانه: {وَاعْلَمُوا أَنَّ اللّه غَفُورٌ حَلِيمٌ} البقرة (235) ،فهو غفور يغفر خطيئة القلب الشّاعر باللّه، الحذَر من مكنونات القلوب. وهو حليم لا يُعجّل بالعقوبة فلعلّ عبده الخاطئ أن يتوب”. وهكذا القرآن الكريم يحذّر غاية التّحذير ،ثمّ يفتح باب الأمل، فاللّه لم يؤيس عباده من رحمته، ولم يقنطهم من عائدته، فذكر بعد الوعيد الوعد، فقال بعد هذا التّحذير: {وَاعْلَمُوا أَنَّ اللّه غَفُورٌ حَلِيمٌ} البقرة (235).
أيها المسلم
فويحك أيها المتمادي في معاصيك ، فإن كانت جراءتك على معصية الله لاعتقاد أن الله لا يراك، فما أعظم كفرك، وإن كان علمك باطلاعه عليك، فما أشد وقاحتك، وأقل حياءك! قال الله تعالى (يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلاَ يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لاَ يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ وَكَانَ اللّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطاً ) [النساء:108]. فمن أعجب الأشياء أن تعرف الله ثم تعصيه، وتعلم قدر غضبه ثم تعرض له، وتعرف شدة عقابه ثم لا تطلب السلامة منه، وتذوق ألم الوحشة في معصيته ثم لا تهرب منها ولا تطلب الأنس بطاعته. قال قتادة: ( ابن آدم، والله إن عليك لشهوداً غير متهمة في بدنك، فراقبهم، واتق الله في سرك وعلانيتك، فإنه لا يخفى عليه خافية، الظلمة عنده ضوء، والسر عنده علانية، فمن استطاع أن يموت وهو بالله حسن الظن فليفعل، ولا قوة إلا بالله ). قال الله تعالى : (وَمَا كُنتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلَا أَبْصَارُكُمْ وَلَا جُلُودُكُمْ وَلَكِن ظَنَنتُمْ أَنَّ اللَّهَ لَا يَعْلَمُ كَثِيراً مِّمَّا تَعْمَلُونَ (22) وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنتُم بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُم مِّنْ الْخَاسِرِينَ ) [فصلت:22،23]. وقال ابن الأعرابي: ( آخر الخاسرين من أبدى للناس صالح أعماله، وبارز بالقبيح من هو أقرب إليه من حبل الوريد ). فإن تقوى الله في الغيب، وخشيته في السر، دليل كمال الإيمان، وسبب حصول الغفران، ودخول الجنان، بها ينال العبد كريم الأجر وكبيره، قال الله تعالى : (إِنَّمَا تُنذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمَن بِالْغَيْبِ فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ وَأَجْرٍ كَرِيمٍ) [يس:11] وقال الله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُم بِالْغَيْبِ لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ [الملك:12] ،وقال الله تعالى 🙁 وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ (31) هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ (32) مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَن بِالْغَيْبِ وَجَاء بِقَلْبٍ مُّنِيبٍ (33) ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ (34) لَهُم مَّا يَشَاؤُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ ) [ق:31-35]. وكان من دعاء النبي صلى الله عليه وسلم كما في مسند أحمد : { أَسْأَلُكَ خَشْيَتَكَ فِى الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ وَكَلِمَةَ الْحَقِّ فِى الْغَضَبِ وَالرِّضَا وَالْقَصْدَ فِى الْفَقْرِ وَالْغِنَى وَلِذَّةَ النَّظَرِ إِلَى وَجْهِكَ وَالشَّوْقَ إِلَى لِقَائِكَ وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ ضَرَّاءَ مُضِرَّةٍ وَمِنْ فِتْنَةٍ مُضِلَّةٍ اللَّهُمَّ زَيِّنَّا بِزِينَةِ الإِيمَانِ وَاجْعَلْنَا هُدَاةً مَهْدِيِّينَ ». فالعبد يخشى الله سراً وعلانية، ظاهراً وباطناً، فإن أكثر الناس قد يخشى الله في العلانية وفي الشهادة، ولكن الشأن خشية الله في الغيب إذا غاب عن أعين الناس فقد مدح الله من خافه بالغيب. وكان بكر المزني يدعو لإخوانه: ( زهّدنا الله وإياكم في الحرام، زهادة من أمكنه الحرام والذنب في الخلوة فعلم أن الله يراه فتركه ). وقال بعضهم: ( ليس الخائف من بكى فعصر عينيه، إنما الخائف من ترك ما اشتهى من الحرام إذا قدر عليه ).
أقول قولي وأستغفر الله لي ولكم
الخطبة الثانية ( وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ)
الحمد لله رب العالمين . اللهم لك الحمد على نعمة الإسلام والايمان .ولك الحمد أن جعلتنا من أمة محمد عليه الصلاة والسلام. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له . وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
أما بعد أيها المسلمون
مازال حديثنا موصولا عن قوله تعالى : (وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ) البقرة (235) ، فاحذروا أن توقعوا أنفسكم وأولادكم في فخاخ أعداء الدين ، وتوردوهم شباك الحاقدين ، فهم يزينون لكم كل قبيح ، ويظهرون لكم كل خسيس أنه مليح ، فاحذروهم وحذروا المسلمين من شرهم وكيدهم فأنتم بذلك خير الناصحين . واحذروا أصدقاء السوء وأصحاب الشر ودعاة الفسق والضلال ، فشياطين الإنس كثير ، ومع كثرة مغريات هذه الحياة الانفتاحية ،فستحصل مفاسد عظيمة ، وويلات جسيمة ، تئن منها مجتمعات المسلمين واحذروا أن تقدّموا لأولادكم هدية محرمة يبوء بإثمها الجميع ، ويقع فريستها الصغير والكبير وتبقى تبعتها على جالبها ومحضرِها ، فتكون وبالاً وحملاً ثقيلاً يوم ترى الولدان شيباً ، واحذروا من الهدايا التي يكون فيها تضييع للوقت وقتل للحياء وتدمير للأخلاق ، وإزهاق للأنفس البريئة . واحذروا ثم احذروا ذنوب الخلوات الخطيرة ، فربما مات العبد وختم له بخاتمة سيئة بسبب خلوته بمحارم الله ، واستيلاء الشيطان عليه وانتهاكها ، ولو كان بين الناس ومعهم لاستحيا منهم ، فالله أحق أن يستحيا منه ، وكونوا على حذر من ذنوبكم ولا تستصغروا شيئاً منها ، فربما يصبح الصغير كبيراً ، ولا تستطيع أن تنفك عنه ، فتبوء بالخسارة في الدارين ، بل راقب الله تعالى في كل أحوالك ، واعلم أنه معك بعلمه مطلع عليك في كل شؤونك ، فاستحيوا من الله حق الحياء ، واحذروا سطوته وغضبه ، فهو سبحانه رحيم ، غفور ، تواب ، كريم ، فلا تغضبوه سبحانه بارتكاب ما حرم عليكم . (وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ) البقرة (235)
الدعاء