خطبة حول حديث ( تُحْشَرُونَ حُفَاةً عُرَاةً غُرْلاً )
نوفمبر 19, 2022خطبة عن (مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ)
نوفمبر 21, 2022الخطبة الأولى ( وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الْأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الْأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ )
الحمد لله رب العالمين . اللهم لك الحمد على نعمة الإسلام والايمان .ولك الحمد أن جعلتنا من أمة محمد عليه الصلاة والسلام. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له . وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
أما بعد أيها المسلمون
يقول الله تعالى في محكم آياته : (وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الْأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الْأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (21) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْهَا إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ) السجدة (22) ،(21)
إخوة الإسلام
لقد دعانا الله عز وجل إلى تدبر القرآن ، فقال الله تعالى : {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آَيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ} [ص: 29]، واليوم -إن شاء الله- موعدنا مع آية من كتاب الله ، نتدبرها ، ونسبح في بحار معانيها ، ونرتشف من رحيقها المختوم ، مع قوله تعالى : (وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الْأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الْأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) السجدة (21) ، فكثيرا ما يذكر الله جل وعلا في كتابه الكريم العذاب الأكبر، ويتوعد بالعذاب الشديد، فتتداعى على الذهن أسماء هذا العذاب كالحميم والزقوم والغسلين، وتنبعث في القلب صور السلاسل والأغلال والسرابيل والأصفاد، وترد على الفكر مشاهد الحساب والوزن والمساءلة والسوْق إلى الجحيم… إلى آخر ما هنالك من مشاهد وصور ومواقف وعرصات، ترتعد منها قلوب الذين يخشون ربهم، وتوجل منها نفوس عمرت بطاعة الله، وهذا الوعيد لهو كاف في ردع النفوس عن الهوى، وزجرها عن الردى ، ولكن -ومع ذلك- تتقحم النفوس في شهواتها، وترتع في مراتع الغي والضلال ، وتتجاوز الحدود الإلهية، فتجد الله سبحانه وتعالى يتوعد المعاندين والمفسدين بعذاب – دون العذاب الأكبر – لعل النفوس تتراجع عن غيها، وتفيق من سكرتها – فيبين الله تعالى أن ما أحلّه بالمعاندين من المثلات والنكال في الحياة الدنيا هو من العذاب الأدنى، فقال الله عز من قائل: {وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} ، وجاء في تفسير (الفخر الرازي) موضحا الحكمة من ذلك: (حصل في عذاب الدنيا أمران: أحدهما أنه قريب، والآخر أنه قليل صغير، وحصل في عذاب الآخرة – أيضا- أمران: أحدهما أنه بعيد، والأخر أنه عظيم كثير، لكن القرب في عذاب الدنيا هو الذي يصلح للتخويف به، فإن العذاب العاجل وإن كان قليلا قد يحترز منه بعض الناس أكثر مما يحترز من العذاب الشديد إذا كان آجلا، وكذا الثواب العاجل قد يرغب فيه بعض الناس، ويستبعد الثواب العظيم الآجل، وأما في عذاب الآخرة فالذي يصلح للتخويف به هو العظيم والكبير، لا البعيد لما بيّنا، فقال في عذاب الدنيا { الْعَذَابِ الْأَدْنَى }؛ ليحترز العاقل عنه، ولو قال: {لنذيقنهم من العذاب الأصغر} ما كان يحترز عنه؛ لصغره وعدم فهم كونه عاجلا، وقال في عذاب الآخرة: (الْعَذَابِ الْأَكْبَرِ) ؛ لذلك المعنى، ولو قال: دون العذاب الأبعد الأقصى لما حصل التخويف به، مثل ما يحصل بوصفه بالكبر، وبالجملة فقد اختار الله تعالى في العذابين الوصف الذي هو أصلح للتخويف من الوصفين الآخرين فيهما، لحكمة بالغة)
أيها المسلمون
فالعذاب الأدنى: هو كل عذاب عذب الله تعالى به أمة من الأمم ،أو فردا من الأفراد، في دار الدنيا ،أو في دار البرزخ ، وسواء أكان هذا العذاب عاما كعذاب قوم نوح، أم كان خاصا، كما حصل لقارون، وسواء أكان حسيا كالغرق والخسف والمسخ والزلزلة والصيحة، أم كان معنويا، كطمس الأبصار، والختم على القلوب، والطبع عليها، وعدم إجابة الدعاء، وتسليط الشياطين، وسواء أكان هذا الذنب تطاولا على الخالق كالشرك، وتكذيب الرسل، أم كان تعديا على المخلوقين كقتل المستضعفين، والتطفيف في الموازين، وقد يعجل الله العقوبة ويباغت بالذنب ، فقد قال الله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِّن نَّبِيٍّ إِلاَّ أَخَذْنَا أَهْلَهَا بِالْبَأْسَاء وَالضَّرَّاء لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ * ثُمَّ بَدَّلْنَا مَكَانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ حَتَّى عَفَواْ وَّقَالُواْ قَدْ مَسَّ آبَاءنَا الضَّرَّاء وَالسَّرَّاء فَأَخَذْنَاهُم بَغْتَةً وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ} الاعراف 94 ،95، ، وقال سبحانه وتعالى : {أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَن يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتاً وَهُمْ نَآئِمُونَ * أَوَ أَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَن يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ} الاعراف 97 ،98، ، وقد يجمع الله على المعاندين عذاب الدنيا وعذاب البرزخ، كما قال الله سبحانه وتعالى مخبرا عن قوم فرعون وأنه سلط الله عليهم الطوفان والجراد والقمل، قال الله تعالى : {فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ وَالْجَرَادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفَادِعَ وَالدَّمَ آيَاتٍ مُّفَصَّلاَتٍ فَاسْتَكْبَرُواْ وَكَانُواْ قَوْمًا مُّجْرِمِينَ * وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرِّجْزُ قَالُواْ يَا مُوسَى ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِندَكَ لَئِن كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرَآئِيلَ} الاعراف 133 ، 134، وقال جل ثناؤه عن عذابهم في قبورهم: {النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ} غافر 46، فالنار التي يعرضون عليها غدوا وعشيا؛ إنما يعرضون عليها وهم في قبورهم،
أيها المسلمون
هذا وقد يتأخر العذاب الدنيوي، ويظن المغرور أنه على خير؛ خاصة إذا رأى نعم الله متوالية عليه، ومننه مترادفة إليه، ولا يعلم أن ما بينه وبين عذاب الله إلا كلمح البصر، كما وقع لقوم لوط (عليه السلام)، حينما كذبوه وخالفوا أمره، فدعا ربه عليهم؛ فإذا المراسيم الإلهية تتنزل بهلاكهم : (فو الله ما كان بين إهلاك أعداء الله ونجاة نبيه وأوليائه إلا ما بين السحر وطلوع الفجر؛ وإذا بديارهم قد اقتلعت من أصولها ورفعت نحو السماء، حتى سمعت الملائكة نباح الكلاب، ونهيق الحمير، فبرز المرسوم الذي لا يرد، من عند الرب الجليل، على يدي عبده ورسوله جبرائيل، بأن يقلبها عليهم، كما أخبر به في محكم التنزيل، فقال عز من قائل: {فَلَمَّا جَاء أَمْرُنَا جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِّن سِجِّيلٍ مَّنضُودٍ} هود 82، ، فجعلهم آية للعالمين، وموعظة للمتقين، ونكالا وسلفا لمن شاركهم في أعمالهم من المجرمين)
وقد يؤجل الله تعالى العذاب إلى الدار الآخرة؛ وذلك زيادة في النكال والعذاب ، قال الله تعالى : {وَلاَ يَحْزُنكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَن يَضُرُّواْ اللَّهَ شَيْئاً يُرِيدُ اللَّهُ أَلاَّ يَجْعَلَ لَهُمْ حَظًّا فِي الآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} آل عمران 176،. ويحسب الكافر أن ما يملي له الله خير لنفسه ، قال تعالى : {وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِّأَنفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُواْ إِثْمًا وَلَهْمُ عَذَابٌ مُّهِينٌ} آل عمران 178، ويظن من لا خلاق له ،ولا علم عنده ،أنهم على هدى مستقيم؛ لما يرى من تمتعهم بالحياة، وسلامتهم من النكال، ولا يعلم أن ما هم فيه من متاع الحياة إنما هو من تعجيل جزائهم على أعمالهم، قال الله تعالى: {وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُم بِهَا فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنتُمْ تَفْسُقُونَ} الاحقاف 20، قال ابن كثير -رحمه الله- في تفسير هذه الآية: (فجوزوا من جنس عملهم، فكما متعوا أنفسهم واستكبروا عن اتباع الحق، وتعاطوا الفسق والمعاصي؛ جازاهم الله تبارك وتعالى بعذاب الهون، وهو الإهانة والخزي والآلام الموجعة، والحسرات المتتابعة، والمنازل في الدركات المفظعة)، وقال الله تعالى موضحا أن ما يرزقون في هذه الحياة من المال والبنين وسعة العيش؛ إنما هو من المسارعة لهم في جزاء أعمالهم: {أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُم بِهِ مِن مَّالٍ وَبَنِينَ * نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَل لاَّ يَشْعُرُونَ} المؤمنون 55،56، ، ويتنزل التوجيه القرآني تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم وللمؤمنين ألا يحزنهم تمتع الذين كفروا، ولا يغرنهم تقلبهم في البلاد ، قال الله تعالى : {لاَ يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُواْ فِي الْبِلاَدِ * مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ} آل عمران 196 ، 197،، وما ربك بظلام للعبيد؛ فهؤلاء قوم عملوا للحياة، ونذروا أنفسهم للحياة، رغبوا أن تكون حسناتهم في هذه الحياة؛ فكان الجزاء من جنس العمل قال الله تعالى: {مَن كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لاَ يُبْخَسُونَ * أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ إِلاَّ النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُواْ فِيهَا وَبَاطِلٌ مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} هود 15 ،16،
أقول قولي وأستغفر الله لي ولكم
الخطبة الثانية ( وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الْأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الْأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ )
الحمد لله رب العالمين . اللهم لك الحمد على نعمة الإسلام والايمان .ولك الحمد أن جعلتنا من أمة محمد عليه الصلاة والسلام. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له . وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
أما بعد أيها المسلمون
ومن الملاحظ أن بين الذنب وبين العقوبة تناسبا عظيما، فإذا منع العباد زكاة أموالهم؛ منعوا القطر من السماء، وإذا تركوا التحاكم إلى كتاب الله؛ جعل الله بأسهم بينهم، وإذا طلب كثرة المال من طريق الربا، محق الله أمواله، وقد قال ابن القيم -رحمه الله- : (فعقوبات الشارع جاءت على أتم الوجوه، وأوفقها للعقل، وأقومها بالمصلحة،…إلى أن يقول: وعقوبات الذنوب نوعان: شرعية وقدرية، فإذا أقيمت الشرعية رفعت العقوبات القدرية أو خففتها، ولا يكاد الرب تعالى يجمع على عبده بين العقوبتين إلا إذا لم يف أحدهما برفع موجب الذنب) ، ويقول أيضا: (والمقصود أن عقوبات السيئات تتنوع: إما في القلب، وإما في البدن، وإما فيهما، وعقوبات في دار البرزخ بعد الموت، وعقوبات يوم عود الأجسام في الدار الآخرة، فالذنب لا يخلو من عقوبة البتة، ولكن لجهل العبد لا يشعر بما هو فيه من العقوبة؛ لأنه بمنزلة السكران والمخدر والنائم الذي لا يشعر بالألم، فإذا استيقظ وصحى أحس بالمؤلم، فترتب العقوبات على الذنوب كترتب الإحراق علي النار، والكسر على الانكسار، وقد تقارن المضرة الذنب، وقد تتأخر عنه إما يسيرا وإما مدة، كما يتأخر المرض عن سببه أن يقارنه، وكثيرا ما يقع الغلط للعبد في هذا المقام، ويذنب الذنب فلا يرى أثره عقيبه، ولا يدري أنه يعمل، وعمله على التدريج شيئا فشيئا، كما تعمل السموم والأشياء الضارة حذو القذة بالقذة) ،وصدق الله العظيم إذ يقول في كتابه الكريم : (وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الْأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الْأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (21) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْهَا إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ) السجدة (22) ،(21)
الدعاء