خطبة عن (الْجَهْلُ)
ديسمبر 4, 2024الخطبة الأولى ( وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ يُرْسِلَ الرِّيَاحَ مُبَشِّرَاتٍ )
الحمد لله رب العالمين . اللهم لك الحمد على نعمة الإسلام والايمان .ولك الحمد أن جعلتنا من أمة محمد عليه الصلاة والسلام. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له . وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
أما بعد أيها المسلمون
يقول الله تعالى في محكم آياته : (وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ يُرْسِلَ الرِّيَاحَ مُبَشِّرَاتٍ وَلِيُذِيقَكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَلِتَجْرِيَ الْفُلْكُ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) (46) الروم
إخوة الإسلام
لقاؤنا اليوم -إن شاء الله تعالى- مع مائدة القرآن الكريم ،نتلو هذه الآية ،ونتدبرها ،ونتفهم معانيها، ونغوص في بحار مراميها ،ونجمع من لآلئها، ونرتشف من رحيقها المختوم ، فالمتأمل والمتدبر في قوله تعالى : (وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ يُرْسِلَ الرِّيَاحَ مُبَشِّرَاتٍ وَلِيُذِيقَكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَلِتَجْرِيَ الْفُلْكُ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) (46) الروم ،يتبين له أن لله عز وجل في خلقه آيات باهرة، ومعجزات قاهرة، تبهر العقول، وتملك النفوس، وتخوف العباد، وتقهر الأقوياء، وله سبحانه وتعالى جند في الأرض كما له جند في السماء، من الملائكة والإنس والجن، ومن الحيوان والوحش والطير، ومن الزواحف والحشرات والطفيليات والجمادات، ومن الكواكب والأنجم والنيازك، ومن البحار والرياح والزلازل والأعاصير والبراكين والأوبئة، في البر والبحر، وفي الأرض والأجواء، لا يعلم عدتها إلا الله تعالى، ولا يدرك قوتها إلا هو سبحانه، وهي تأتمر بأمره عز وجل، يسلطها على من شاء من خلقه فلا يقف أمامها شيء، حتى تنهي مهمتها، وتؤدي وظيفتها ، قال الله تعالى :﴿ وَإِذَا أَرَادَ اللهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلَا مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَالٍ ﴾ [الرعد:11].
والرياح خلق من خلق الله تعالى ،لا يراها البشر، ولكنهم يحسونها، ويرون آثارها، تكون الرياح رحمة تارة ، وتكون عذابا بأمر خالقها ومدبرها جل في علاه تارة أخرى ،فالرياح من أعظم الآيات الدالة على عظمة الخالق وقدرته، ووجوب إخلاص العبادة له وحده لا شريك له؛ ولذا جاء في معرض ذكر آيات الله تعالى الدالة على ربوبيته وألوهيته: ذكر الرياح وتدبيرها، فقال الله تعالى :﴿ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ آَيَاتٌ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ ﴾ [الجاثية:5]، والرياح آية في حال كونها رحمة من الله تعالى يرحم بها عباده ،كما تبينه هذه الآية : ﴿ وَمِنْ آَيَاتِهِ أَنْ يُرْسِلَ الرِّيَاحَ مُبَشِّرَاتٍ وَلِيُذِيقَكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ ﴾ [الرُّوم:46] ،وفي آية أخرى ،يقول الله تعالى : ﴿أَمَّنْ يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُمَاتِ البَرِّ وَالبَحْرِ وَمَنْ يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ أَئِلَهٌ مَعَ اللهِ تَعَالَى اللهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ ﴾ [النمل:63].، وقال الله تعالى : (وَهُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا (48) لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا وَنُسْقِيَهُ مِمَّا خَلَقْنَا أَنْعَامًا وَأَنَاسِيَّ كَثِيرًا) (48) ،(49) الفرقان ، وكما أن الرياح آية من آيات الرحمة ، فإن الريح هي أيضا آية عظيمة من آيات الله تعالى في حال كونها عذابا؛ فقد عدد الله عز وجل جملة من آياته الدالة على قدرته سبحانه، وذكر منها آية إهلاك عاد بالريح ،فقال الله تعالى : ﴿ وَفِي عَادٍ إِذْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ العَقِيمَ * مَا تَذَرُ مِنْ شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلَّا جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ ﴾ [الذاريات41: 42].، وكما في قوله تعالى : (أَمْ أَمِنْتُمْ أَنْ يُعِيدَكُمْ فِيهِ تَارَةً أُخْرَى فَيُرْسِلَ عَلَيْكُمْ قَاصِفًا مِنَ الرِّيحِ فَيُغْرِقَكُمْ بِمَا كَفَرْتُمْ ثُمَّ لَا تَجِدُوا لَكُمْ عَلَيْنَا بِهِ تَبِيعًا) (69) الاسراء ،وفي قوله تعالى : (وَمِنْ آيَاتِهِ الْجَوَارِ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلَامِ (32) إِنْ يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيحَ فَيَظْلَلْنَ رَوَاكِدَ عَلَى ظَهْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (33) أَوْ يُوبِقْهُنَّ بِمَا كَسَبُوا وَيَعْفُ عَنْ كَثِيرٍ) (32) :(34) الشورى ،
وللرياح منافع عظيمة لأهل الأرض، فبفقدها تموت الأرض ومن عليها؛ فالرياح هي سبب الغيث المبارك بأمر الله تعالى، وهي البشرى بين يديه رحته ،قال الله تعالى : ﴿ وَهُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا ﴾ [الفرقان:48] ،وقال الله تعالى : ﴿ اللهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَيَبْسُطُهُ فِي السَّمَاءِ كَيْفَ يَشَاءُ وَيَجْعَلُهُ كِسَفًا فَتَرَى الوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ فَإِذَا أَصَابَ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ ﴾ [الرُّوم:48] ، فهم يستبشرون بها لما يعقبها من الرحمة والغيث المبارك الذي تكون به حياتهم، وحياة أنعامهم وأشجارهم وزرعهم، ونماء أموالهم، ورغد عيشهم، والرياح هي التي تسوق السحب في السماء أمثال الجبال إلى حيث يأمر الله تعالى، فيسقي به من يشاء من عباده ،قال الله تعالى : ﴿ وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَابًا ثِقَالًا سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَنْزَلْنَا بِهِ المَاءَ ﴾ [الأعراف:57] ، وقال الله تعالى : ﴿ وَاللهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَسُقْنَاهُ إِلَى بَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَحْيَيْنَا بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا ﴾ [فاطر:9] ، والرياح تلقح السحب بأمر الله تعالى ، فينزل الماء، وتلقح الزرع والشجر فيهتز خضرا مثمرا، وتنقل البذور من أرض إلى أرض حتى إذا سُقيت اكتست خضرة وربيعا، ومهما عمل البشر وبكل إمكانياتهم فهم أعجز من أن يزرعوا صحارى تمتد مد الناظرين بساطا أخضر بأنواع النبات الطيب في مشارق الأرض ومغاربها ، ولكن الرياح تفعل ذلك بأمر الله تعالى وقدرته وتدبيره ،قال الله تعالى : ﴿ وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ فَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَسْقَيْنَاكُمُوهُ وَمَا أَنْتُمْ لَهُ بِخَازِنِينَ ﴾ [الحجر:22] ،قال عبيد بن عمير الليثي رحمه الله تعالى:(يبعث الله تعالى المثيرة فتقم الأرض قما، ثم يبعث الله تعالى الناشئة فتنشئ السحاب، ثم يبعث الله تعالى المؤلفة فتؤلف بينه، ثم يبعث الله تعالى اللواقح فتلقح السحاب).، والرياح سبب بإذن الله تعالى لدورة المياه حول الأرض، ولولا ذلك لأسن الماء، ولم تنتفع به الأحياء، بل إن كل الأحياء على الأرض لو فقدت الرياح لهلكت، يقول كعب الأحبار رحمه الله تعالى: (لو حبست الريح عن الناس ثلاثا لأنتن ما بين السماء والأرض).، والرياح تحرك السُّفن، وتنقلها من مكان إلى مكان ،قال الله تعالى:( وَمِنْ آيَاتِهِ الْجَوَارِ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلَامِ * إِن يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيحَ فَيَظْلَلْنَ رَوَاكِدَ عَلَى ظَهْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّكُلِّ صَبَّارٍ شَكُور) [الشورى: 32-33] .، والسفن التي تعمل بالمحركات والوقود، لابد من وجود الهواء حتى تتم عملية احتراق الوقود، ولا يمكن لهذه الأجهزة أن تعمل بكفاءة إلا بهواء التبريد، ولا زالت هذه الأنواع من الفلك التي تجريها الرياح مسخرة للبشر، فتبقى منة الله في الآية باقية ما بقي الليل والنهار ، ومن فوائد الرياح أيضا أنها تضفي على النفوس فرحاً وسروراً، قال الله تعالى 🙁 وَهُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاء مَاء طَهُورًا ) [الفرقان: 48]
أيها المسلمون
والريح من جند الله ،يعز الله بها أولياءه، ويذل بها أعداءه ،فقد أكرم الله تعالى بها نبيين كريمين ،أُكرم بها سليمانُ عليه السلام ،ذلك لأن الله سخر له الخيل، فلما شغلته تخلص منها، ومن ترك شيئاً لله عوضه الله خيراً منه، فكان العوض من الله : الريح، قال الله تعالى 🙁 وَوَهَبْنَا لِدَاوُدَ سُلَيْمَانَ نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ * إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِيِّ الصَّافِنَاتُ الْجِيَادُ * فَقَالَ إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَن ذِكْرِ رَبِّي حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ * رُدُّوهَا عَلَيَّ فَطَفِقَ مَسْحًا بِالسُّوقِ وَالْأَعْنَاقِ * وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَدًا ثُمَّ أَنَابَ * قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لَّا يَنبَغِي لِأَحَدٍ مِّنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنتَ الْوَهَّابُ * فَسَخَّرْنَا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَاء حَيْثُ أَصَابَ) [ص: 30-36] ، أي: تطيعه حيث أراد، وقال تعالى:( وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ عَاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَكُنَّا بِكُلِّ شَيْءٍ عَالِمِينَ ) [الأنبياء: 81]، وقال الله تعالى 🙁 وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ ِ) [سبأ: 12]، كما نُصر الله تعالى بالريح نبينا محمد صلى الله عليه وسلم يوم الأحزاب ،قال الله تعالى :(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَّمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا ) [الأحزاب: 9]، وفي صحيح البخاري : (عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ :«نُصِرْتُ بِالصَّبَا، وَأُهْلِكَتْ عَادٌ بِالدَّبُورِ» ،والريح قد تكون عذابا يسلطه الله على من شاء من أعدائه ،فقد توعد بها الكافرين فقال الله تعالى 🙁 أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ (16) أَمْ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ (17) وَلَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ) (16) :(18) الملك ، وتوعد الله تعالى بالريح المعرضين الذين يعرفونه في الشدة دون الرَّخاء أن يُسلِّط عليهم الريح فيغرقهم بها، قال الله تعالى:(وَإِذَا مَسَّكُمُ الْضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَن تَدْعُونَ إِلاَّ إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكَانَ الإِنْسَانُ كَفُورًا * أَفَأَمِنتُمْ أَن يَخْسِفَ بِكُمْ جَانِبَ الْبَرِّ أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا ثُمَّ لاَ تَجِدُواْ لَكُمْ وَكِيلاً * أَمْ أَمِنتُمْ أَن يُعِيدَكُمْ فِيهِ تَارَةً أُخْرَى فَيُرْسِلَ عَلَيْكُمْ قَاصِفا مِّنَ الرِّيحِ فَيُغْرِقَكُم بِمَا كَفَرْتُمْ ثُمَّ لاَ تَجِدُواْ لَكُمْ عَلَيْنَا بِهِ تَبِيعًا ) [الإسراء: 67-69] ، وأهلك الله تعالى بالريح عاداً قوم هود عليه السلام ،قال الله تعالى:( وَفِي عَادٍ إِذْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ ) [الذاريات: 41]، قال ابن الجوزي :(الرِّيحَ الْعَقِيمَ)” وهي التي لا خَير فيها ولا بَرَكة ، لا تُلْقِح شجراً ولا تَحْمِل مطراً ، وإنما هي للإهلاك” ، وقال الله تعالى: ( فَأَمَّا عَادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ * فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي أَيَّامٍ نَّحِسَاتٍ لِّنُذِيقَهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَخْزَى وَهُمْ لَا يُنصَرُونَ ) [فصلت :15-16] ،وقال الله تعالى:( إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُّسْتَمِرٍّ تَنزِعُ النَّاسَ كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ مُّنقَعِرٍ) [القمر:19-20].، قال السعدي رحمه الله :” كأن جثثهم بعد هلاكهم مثل جذوع النخل الخاوي الذي أصابته الريح فسقط على الأرض، فما أهون الخلق على الله إذا عصوا أمره” ، وقال ابن كثير رحمه الله :” جعلت الريح تضرب بأحدهم الأرض فيخر ميتًا على أم رأسه، فينشدخ رأسه وتبقى جثته هامدة كأنها قائمة النخلة إذا خرت بلا أغصان” ،وقال الله تعالى 🙁 فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضًا مُّسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قَالُوا هَذَا عَارِضٌ مُّمْطِرُنَا بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُم بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ * تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا فَأَصْبَحُوا لَا يُرَى إِلَّا مَسَاكِنُهُمْ كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ ) [الأحقاف:24-25].
أقول قولي وأستغفر الله لي ولكم
الخطبة الثانية ( وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ يُرْسِلَ الرِّيَاحَ مُبَشِّرَاتٍ )
الحمد لله رب العالمين . اللهم لك الحمد على نعمة الإسلام والايمان .ولك الحمد أن جعلتنا من أمة محمد عليه الصلاة والسلام. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له . وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
أما بعد أيها المسلمون
ونجد في القرآن (ريحاً)، و(رياحاً) فما الفرق بينهما؟ ، قال العلماء : الريح قد تكون رحمةً، كما في قوله تعالى :(هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذَا كُنتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِم بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُواْ بِهَا جَاءتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءهُمُ الْمَوْجُ مِن كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّواْ أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُاْ اللّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنجَيْتَنَا مِنْ هَـذِهِ لَنَكُونَنِّ مِنَ الشَّاكِرِينَ) [يونس: 22] ، وقد تكون عذاباً، كما في قوله تعالى 🙁 وَفِي عَادٍ إِذْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ) [الذاريات:41] .،أما الرياح فلا تكون إلا خيراً ورحمةً ،ففي سنن أبي داود : (أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ « الرِّيحُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ ». قَالَ سَلَمَةُ فَرَوْحُ اللَّهِ تَأْتِى بِالرَّحْمَةِ وَتَأْتِى بِالْعَذَابِ فَإِذَا رَأَيْتُمُوهَا فَلاَ تَسُبُّوهَا وَسَلُوا اللَّهَ خَيْرَهَا وَاسْتَعِيذُوا بِاللَّهِ مِنْ شَرِّهَا ».،فالمشروع للمسلم عند هبوب الريح أن يخاف العذاب؛ فقد عذب الله تعالى بها أقواما في القديم والحديث، وما الأعاصير التي وقعت في الشرق والغرب فأهلكت بشرا كثيرا إلا من عذاب الله تعالى بها، فقد روى مسلم في صحيحه : (عَنْ عَائِشَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- أَنَّهَا قَالَتْ كَانَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- إِذَا عَصَفَتِ الرِّيحُ قَالَ « اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ خَيْرَهَا وَخَيْرَ مَا فِيهَا وَخَيْرَ مَا أُرْسِلَتْ بِهِ وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّهَا وَشَرِّ مَا فِيهَا وَشَرِّ مَا أُرْسِلَتْ بِهِ ». قَالَتْ وَإِذَا تَخَيَّلَتِ السَّمَاءُ تَغَيَّرَ لَوْنُهُ وَخَرَجَ وَدَخَلَ وَأَقْبَلَ وَأَدْبَرَ فَإِذَا مَطَرَتْ سُرِّىَ عَنْهُ فَعَرَفْتُ ذَلِكَ فِي وَجْهِهِ. قَالَتْ عَائِشَةُ فَسَأَلْتُهُ فَقَالَ « لَعَلَّهُ يَا عَائِشَةُ كَمَا قَالَ قَوْمُ عَادٍ (فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضًا مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قَالُوا هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا) ».،ولما كانت الريح من أمر الله تعالى، وقد يتضرر بها بعض الناس، بفساد زروعهم وثمارهم، أو نفوق أنعامهم وتلف أموالهم، أو خراب مدنهم وعمرانهم كما في العواصف والأعاصير الشديدة فإنه لا يحل لأحد سبها؛ فمسبتها مسبة لله تعالى؛ لأنه خالقها وآمرها ومدبرها جل في علاه، بل ينبغي للمسلم عند هبوبها أن يلحظ قدرة الله تعالى فيها، ويلتزم بما ورد في السنة، ففي سنن الترمذي وغيره : (عَنْ أُبَىِّ بْنِ كَعْبٍ قَالَ :قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- « لاَ تَسُبُّوا الرِّيحَ فَإِذَا رَأَيْتُمْ مَا تَكْرَهُونَ فَقُولُوا اللَّهُمَّ إِنَّا نَسْأَلُكَ مِنْ خَيْرِ هَذِهِ الرِّيحِ وَخَيْرِ مَا فِيهَا وَخَيْرِ مَا أُمِرَتْ بِهِ وَنَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّ هَذِهِ الرِّيحِ وَشَرِّ مَا فِيهَا وَشَرِّ مَا أُمِرَتْ بِهِ »، وفي مسند أحمد وغيره : (أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ قَالَ أَخَذَتِ النَّاسَ رِيحٌ بِطَرِيقِ مَكَّةَ وَعُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ حَاجٌّ فَاشْتَدَّتْ عَلَيْهِمْ فَقَالَ عُمَرُ لِمَنْ حَوْلَهُ مَنْ يُحَدِّثُنَا عَنِ الرِّيحِ فَلَمْ يُرْجِعُوا إِلَيْهِ شَيْئاً فَبَلَغَنِي الَّذِى سَأَلَ عَنْهُ عُمَرُ مِنْ ذَلِكَ فَاسْتَحْثَثْتُ رَاحِلَتَي حَتَّى أَدْرَكْتُهُ فَقُلْتُ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ أُخْبِرْتُ أَنَّكَ سَأَلْتَ عَنِ الرِّيحِ وَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ « الرِّيحُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ تَأْتِى بِالرَّحْمَةِ وَتَأْتِى بِالْعَذَابِ فَإِذَا رَأَيْتُمُوهَا فَلاَ تَسُبُّوهَا وَسَلُوا اللَّهَ خَيْرَهَا وَاسْتَعِيذُوا بِهِ مِنْ شَرِّهَا » ، فالريح أعجوبة من الأعاجيب ،يحتاج البشر إليها ،ولكنهم يخافون منها، ولو عملوا ما عملوا من وسائلهم ومخترعاتهم لما حركوها وهي ساكنة، وإذا تحركت فلا طاقة لهم بإيقافها أو تخفيفها، أو تحويل مسارها، وغاية ما يفعلون الهرب منها، والاحتماء بالملاجئ عنها، حتى إنهم يُجلون أهل المدن والقرى التي في طريقها، ثم يتربصون تربص العاجز البائس، الذي انقطعت حيلته، وغلبه يأسه، ينتظرون قدومها، وينظرون إلى آثارها، ثم إذا سكنت دفنوا موتاهم، وداووا جرحاهم، وآووا مشرديهم، وحسبوا خسائرهم، وأصلحوا ما دُمِّر من عمرانهم ، وبكوا على ما أصابهم، فما أضعف البشر! وما أعجزهم! وما أقل حيلتهم أمام الريح! وهي آية واحدة من آيات الله – تعالى -، وجندي واحد من جنود لا تحصى ، قال الله تعالى :{وَللهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرضِ وَكَانَ اللهُ عَزِيزًا حَكِيمًا} [الفتح: 7] ،وقال الله تعالى :{كَذَلِكَ يُضِلٌّ اللهُ مَن يَشَاءُ وَيَهدِي مَن يَشَاءُ وَمَا يَعلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ وَمَا هِيَ إِلَّا ذِكرَى لِلبَشَرِ} [المدَّثر: 31]
الدعاء