خطبة عن التسامح وحديث (سَهْلاً إِذَا بَاعَ سَهْلاً إِذَا اشْتَرَى)
سبتمبر 23, 2023خطبة عن اختلاف أعمال الناس ،وقوله تعالى ( إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى )
أكتوبر 3, 2023الخطبة الأولى ( يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ؟؟ )
الحمد لله رب العالمين . اللهم لك الحمد على نعمة الإسلام والايمان .ولك الحمد أن جعلتنا من أمة محمد عليه الصلاة والسلام. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له . وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
أما بعد أيها المسلمون
يقول الله تعالى في محكم آياته : (إِذَا السَّمَاءُ انْفَطَرَتْ (1) وَإِذَا الْكَوَاكِبُ انْتَثَرَتْ (2) وَإِذَا الْبِحَارُ فُجِّرَتْ (3) وَإِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ (4) عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ (5) يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ (6) الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ (7) فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ) (1): (8) الانفطار
إخوة الإسلام
نعيش اليوم – إن شاء الله تعالى – لحظات طيبة مع القرآن الكريم ،نتدبر هذه الآيات ،ونتفهم معانيها ،ونسبح في بحار مراميها ،ونرتشف من رحيقها المختوم ،وسو فيكون حديثنا محصورا في قوله تعالى : (يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ) الانفطار (6) ،يقول ابن كثير في تفسيرها : هذا تهديد ،لا كما يتوهمه بعض الناس من أنه إرشاد إلى الجواب ،حيث قال: (بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ) حتى يقول قائلهم : غره كرمه ،بل المعنى في هذه الآية : ما غرك يا ابن آدم بربك الكريم – أي العظيم – حتى أقدمت على معصيته ،وقابلته بما لا يليق ، كما جاء في المعجم الأوسط للطبراني: (عن عبد الله بن مسعود عن النبي قال : ما منكم من أحد إلا وسيسأله ربه تبارك وتعالى فيقول عبدي ما غرك بي ماذا أجبت المرسلين)، وجاء في تفسير القرطبي : روي عن علي – رضي الله عنه – أنه صاح بغلام له مرات فلم يلبه ،فنظر فإذا هو بالباب ، فقال : ما لك لم تجبني ؟ فقال . لثقتي بحلمك ، وأمني من عقوبتك . فاستحسن جوابه فأعتقه ، وقيل: ما غرك : أي ما خدعك وسول لك ،حتى أضعت ما وجب عليك ؟ ،وقال ابن مسعود : ما منكم من أحد إلا وسيخلو الله به يوم القيامة ، فيقول له : يا بن آدم ماذا غرك بي ؟ يا بن آدم ماذا عملت فيما علمت ؟ يا بن آدم ماذا أجبت المرسلين ؟ ،
فقوله تعالى : (يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ)، هي آية عظيمة ،ونداء تهتز له القلوب ،وتقشعر منه الأبدان، يوم ينادى عليك ملك الملوك : أيها الإنسان الفقير الضعيف : ما غرك بربك الكريم؟ ،ما الذي خدعك حتى عصيت الواحد القهار؟ ،وما الذي خدعك وغرك فاقترفت الآثام بالليل والنهار؟ ،وما الذي خدعك وغرك ففرط في حدود الله؟ ،وما الذي خدعك وغرك فتهاونت في الصلاة؟ ،وما الذي خدعك وغرك فأطلقت بصرك في الحرام؟ ،وما الذي خدعك وغرك فلم تخش الله كما كنت تخشى الأنام؟ ،أهي الدنيا؟ ،أما كنت تعلم أنها دار فناء؟ وقد فنيت! ،أهي الشهوات؟ ،أما تعلم أنها إلى زوال؟ ،وقد زالت! ،أم هو الشيطان؟ ،أما علمت أنه لك عدو مبين؟ ، إذن ، فما الذي غرك وخدعك؟ ،أجب على السؤال ، فلا عذر لك اليوم،
(يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ)، إنها لآية عظيمة ،وتذكرة مبينة ،لمن فهمها ووعاها، فكررها أخي بينك وبين نفسك، وقم بها في جوف الليل إذا هجع الأنام ،وغارت النجوم ،كررها في ركعتين تتلذذ فيهما بمناجاة ربك ،كررها وتمثل بماذا ستجيب، وتذكر ذنوبك ،وابك على تفريطك
أيها المسلمون
(يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ)،هكذا ينادي الله سبحانه وتعالى الإنسانَ المغرورَ موبِّخاً له، حيث لم يتأمل في آيات الله تعالى في نفسه، ولم ينظر إلى نِعمه الظاهرة والباطنة ، فيقول سبحانه: ﴿ يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ * الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ * فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ ﴾ [الانفطار: 6 – 8].، فأي شيء غرَّك بربك الكريم المنَّان ،الذي أوجدك من العدم، وسوَّى خَلْقَك في أحسن صورة، وأتمِّها، فجعلك معتدلَ القَامَة، جميلَ الصورة، بديعَ الخِلْقَة، أما ترى تناسبَ جوارحك، وعجائبَ حواسِّك، ووظائفَ أعضائك، كيف تعمل وفق نظام عجيب، وخَلْقٍ بديع مُعجز، يشهد بعظمة الخالق جلَّ جلاله، وعِظَمِ منَّته عليك، وجميل عنايته بك، ولو شاء سبحانه لصوَّرك في صورة قبيحة وخِلْقَةٍ مهينة، كصورة كلب أو حمار أو قِرد، لكنه تعالى كرَّمكَ ورفعك وفضَّلك على كثير من خلقه، وجعلك أهلاً للتكليف، فهل يليق بك مع هذا التكريم أن تكذِّب بوعده، وتعصي أمره، وتتجرأ على حدوده وحُرماته!، ففي هذه الآيات يذكِّر المولى عز وجل الإنسان بنعمة الله الأولى عليه ؛ نعمة خلقه في هذه الصورة السوية ،ويلمس قلبه لمسة فيها عتاب على غفلته وتقصيره: (يا أيها الإنسان) ،فينادي في الإنسان أكرم ما في كيانه ،وهو “إنسانيته” التي بها يتميز عن سائر الأحياء ،ثم يعقبه ذلك العتاب الجميل الجليل : (ما غرك بربك الكريم ؟ )، ما الذي فجعلك تقصر في حقه ،وتتهاون في أمره ،ويسوء أدبك في جانبه ؟ وهو ربك الكريم معك، وقد أغدق عليك من كرمه وفضله وبره ، ووصف الربَّ تعالى بالكريم في ختام الآية للتذكير بنعمته على العبد ولطفه به، فإن الكريم حقيقٌ بالشكر والطاعة جل جلاله ، فهذه موعظةٌ لكلَّ منْ غرَّه جهلُهُ وشيطانُهُ ونفسُّه الأمَّارةُ بالسوء فعصى ربَّه وتعدَّى حدوده وتجرَّأ على حُرُماته، فعلى المسلم أن يتدبَّرَ هذه الآيات الكريمة ويتَّعظ بها، فيعترفَ بمنة الله عليه وإحسانه إليه ولُطْفِه به، ويحمده على ذلك، ويحذرَ الغفلة والغرور، ويتذكَّرَ العرْض على الله تعالى، يومَ الدِّين.
أيها المسلمون
روى الإمام أحمد في مسنده : (عَنْ بُسْرِ بْنِ جَحَّاشٍ الْقُرَشِيِّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- بَصَقَ يَوْماً فِي كَفِّهِ فَوَضَعَ عَلَيْهَا أَصْبُعَهُ ثُمَّ قَالَ « قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ بَنِى آدَمَ أَنَّى تُعْجِزُنِي وقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ مِثْلِ هَذِهِ حَتَّى إِذَا سَوَّيْتُكَ وَعَدَلْتُكَ مَشَيْتَ بَيْنَ بُرْدَيْنِ وَلِلأَرْضِ مِنْكَ وَئِيدٌ فَجَمَعْتَ وَمَنَعْتَ حَتَّى إِذَا بَلَغَتِ التَّرَاقِىَ قُلْتَ أَتَصَدَّقُ وَأَنَّى أَوَانُ الصَّدَقَةِ » ،فقوله تعالى : {يَا أَيُّهَا الْإِنسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ} : تعني : أيها المعرض عن سبيل الله ، والمستكبر أو المتكاسل عن اتباع رسوله صلى الله عليه وسلم, ما غرك بربك الكريم سوى جهلك بالله ،وجهلك بحقيقة نفسك, فالله تعالى هو من خلقك من ماء مستقذر ،لا قيمة له, ثم سواك في بطن أمك ،وعدلك على ظهر الأرض, وهو من صورك على هيئتك التي لم تتدخل في اختيارها ،حتى صرت تعانده وتعاديه ،وتصد عن سبيله، وتعصي أوامره ،وتنتهك محارمه ،والذي غر الإنسان بالله تعالى هو الجهل به سبحانه ونفسه الأمارة بالسوء، فلو علم الإنسان عظمة الله وقدرته لما عصاه، والذي غره بربه: الغرور وهو الشيطان ،ونفسه الأمارة بالسوء ،وجهله وهواه، وأتى سبحانه بلفظ (الكريم) وهو السيد العظيم المطاع ،الذي لا ينبغي الاغترار به ،ولا إهمال حقه. فوضع هذا المغتر الغرور في غير موضعه ،واغتر بمن لا ينبغي الاغترار به”.
فيامن أغلقت الأبواب ،وأرخيت الستور ،واستترت عن الخلائق، فقارفت الفجور، فماذا تفعل وقد شهدت عليك جوارحك؟ ،فالويل كل الويل لنا معشر الغافلين، يرسل الله لنا سيد المرسلين، وينزل عليه الكتاب المبين، ويخبرنا بهذه الصفات من نعوت يوم الدين، ثم يعرفنا غفلتنا، ويقول سبحانه: (اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ (1) مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ (2) لَاهِيَةً قُلُوبُهُمْ ..) الأنبياء (1): (3)، ثم يعرفنا قرب القيامة فيقول تعالى: (اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ (1) وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ) (1) ،(2) القمر، ويقول سبحانه: (إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيدًا (6) وَنَرَاهُ قَرِيبًا (7) يَوْمَ تَكُونُ السَّمَاءُ كَالْمُهْلِ (8) وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ (9) وَلَا يَسْأَلُ حَمِيمٌ حَمِيمًا) المعارج (6) :(10)،ثم يكون أحسن أحوالنا أن نتخذ دراسة هذا القرآن عملاً ، فلا نتدبر معانيه، ولا ننظر في كثرة أوصاف هذا اليوم وأساميه، ولا نستعد للتخلص من دواهيه، فنعوذ بالله من هذه الغفلة
أقول قولي وأستغفر الله لي ولكم
الخطبة الثانية ( يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ؟؟ )
الحمد لله رب العالمين . اللهم لك الحمد على نعمة الإسلام والايمان .ولك الحمد أن جعلتنا من أمة محمد عليه الصلاة والسلام. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له . وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
أما بعد أيها المسلمون
فعلى المرء أن يستدرك ما فات ،ويحيي ما أمات ،ويمحو بالحسن السيئات ، فالفرصة مازالت قائمة ،وقد تزول بلحظة، فرصة استدراك ما فات ،وفرصة إحياء ما مات فينا من وظائف الروح وحواسها ،من كثرة الغفلة وزيادة المعاصي وهو خطير، ثم فرصة أن نمحو السوء بالحسن وأن نذهب السيئات بالحسنات، بل ان الحق سبحانه يبدل سيئات العائد الآيب حسنات، (ما غرك بربك الكريم )، ومما تعنيه هذه الآية أن باب التوبة والقبول ما يزال مفتوحا وفي الوقت نفسه قد يغلق في أية لحظة، تعني أننا في نعمة كبيرة لا تقدر ،ولكنها قد تفقد في اللحظة التالية، فالأمر لا يحتمل التأخير ولا التأجيل، فأنا وأنت بين الفوز الأكبر ،والخسارة الكبرى ،وربنا كريم ، ولكن أخشى أن نكون ممن يضيعون على أنفسهم هذا الكرم، وتأجيل التوبة والهمة على العمل الصالح ،وفي ذلك وهمين خطيرين ،وسوء أدب، فالوهم الأول: أن الموت قد لا يمهل العبد حتى يتوب ،وحتى يبادر إلى الأعمال الصالحة ،ويجني منها ما يليق باللقاء مع الله عز وجل، ولو علم المرء كم يضيع مع مرور أيام عمره دون إقبال على الله عز وجل لما أجل يوما ولا ساعة، والثاني : أن من يؤجل يفترض أنه سيكون في الغد أقرب إلى الله من اليوم، مع أن الإمعان في البعد لا يورث إلا بعدا، وقسوة في القلب وجرأة على الله، وان كنت اليوم ممن تفكر بالتوبة وتؤجلها ،فقد يأتك يوم تستبعدها ولا تخطر على بالك، فاعلم أنها خطوات الشيطان ،على طريق يبعدك يوما بعد يوم ،وساعة بعد ساعة عن نجاتك وفوزك، وأما سوء الأدب : فهو أنك تريد الجمع بين مفاسد الدنيا ،والنجاة في الآخرة ،طامعا بكرم الكريم وحلم الحليم، فهل يستحق ما أنت فيه أن تسيء الأدب مع من خلقك وسواك وأكرمك بإمكان الإقبال عليه والانتساب له والفوز في الدارين؟!
الدعاء