خطبة حول قوله تعالى (وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ)
مارس 23, 2019خطبة عن حديث (لَيْسَ الْوَاصِلُ بِالْمُكَافِئِ)
مارس 23, 2019الخطبة الأولى ( يُدَبِّرُ الْأَمْرَ يُفَصِّلُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ بِلِقَاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ)
الحمد لله رب العالمين . اللهم لك الحمد على نعمة الإسلام والايمان .ولك الحمد أن جعلتنا من أمة محمد عليه الصلاة والسلام. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له . وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
أما بعد أيها المسلمون
يقول الله تعالى في محكم آياته : (اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى يُدَبِّرُ الْأَمْرَ يُفَصِّلُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ بِلِقَاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ) (2) الرعد
إخوة الإسلام
القرآن الكريم : هو حبل الله المتين ، وهو الذكر الحكيم ،وهو الصراط المستقيم ،من عمل به أجر، ومن حكم به عدل ،ومن دعا إليه هدى إلى صراط مستقيم .القرآن الكريم : لا تشبع منه العلماء ،ولا تلتبس به الألسن ،ولا تزيغ به الأهواء ،ومن تركه واتبع غير سبيل المؤمنين ولاه الله ما تولى ، وأصلاه جهنم وساءت مصيراً .القرآن الكريم: أساس رسالة التوحيد، والمصدر القويم للتشريع، ومنهل الحكمة والهداية، والرحمة المسداة للناس، والنور المبين للأمة، والمحجة البيضاء التي لا يزغ عنها إلا هالك ، وموعدنا اليوم -إن شاء الله- مع آية من كتاب الله ، نتلوها ، ونتفهم معانيها ، ونسبح في بحار مراميها ، ونعمل إن شاء الله بما جاء فيها ، مع قوله تعالى : ( يُدَبِّرُ الْأَمْرَ يُفَصِّلُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ بِلِقَاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ) (2) الرعد ، ونبدأ بأقوال أهل التأويل والتفسير من علماء الأمة : ففي تفسير الطبري : قوله: (يدبِّر الأمر) يقول تعالى ذكره: يقضي الله الذي رفع السموات بغير عمد ترونها أمورَ الدنيا والآخرة كلها, ويدبِّر ذلك كله وحده, بغير شريك ولا ظهير ولا معين سُبْحانه ، وقوله: (يفصل الآيات) يقول: يفصل لكم ربُّكم آيات كتابه, فيبينها لكم احتجاجًا بها عليكم، أيها الناس ،وفي التفسير الميسر : يدبِّر سبحانه أمور الدنيا والآخرة، يوضح لكم الآيات الدالة على قدرته وأنه لا إله إلا هو؛ لتوقنوا بالله والمعاد إليه، فتصدقوا بوعده ووعيده وتُخْلصوا العبادة له وحده. وفي تفسير السعدى : يدبر الأمور في العالم العلوي والسفلي، فيخلق ويرزق، ويغني ويفقر، ويرفع أقواما ويضع آخرين، ويعز ويذل، ويخفض ويرفع، ويقيل العثرات، ويفرج الكربات ، وينفذ الأقدار في أوقاتها التي سبق بها علمه، وجرى بها قلمه، ويرسل ملائكته الكرام لتدبير ما جعلهم على تدبيره ، وينزل الكتب الإلهية على رسله ويبين ما يحتاج إليه العباد من الشرائع والأوامر والنواهي، ويفصلها غاية التفصيل ببيانها وإيضاحها وتمييزها، { لَعَلَّكُمْ } بسبب ما أخرج لكم من الآيات الأفقية والآيات القرآنية، { بِلِقَاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ } فإن كثرة الأدلة وبيانها ووضوحها، من أسباب حصول اليقين في جميع الأمور الإلهية، خصوصا في العقائد الكبار، كالبعث والنشور والإخراج من القبور. وفي تفسير بن كثير : يخبر تعالى عن كمال قدرته وعظيم سلطانه، أنه الذي بإذنه وأمره رفع السموات بغير عمد، بل بإذنه وأمره وتسخيره رفعها عن الأرض بعداً لا تنال ولا يدرك مداها، فالسماء الدنيا محيطة بجميع الأرض وما حولها من الماء والهواء، من جميع نواحيها وجهاتها وأرجائها، مرتفعة عليها من كل جانب على السواء،
أيها المسلمون
وقوله تعالى : (يُدَبِّرُ الْأَمْرَ ) قد تكررت في كتاب الله مرات أربع : فقال الله تعالى : {إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَىٰ عَلَى الْعَرْشِ ۖ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ ۖ مَا مِن شَفِيعٍ إِلَّا مِن بَعْدِ إِذْنِهِ ۚ ذَٰلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ ۚ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ} [يونس : 3] ، وقال الله تعالى : {قُلْ مَن يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمَّن يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَمَن يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَن يُدَبِّرُ الْأَمْرَ ۚ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ ۚ فَقُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ} [يونس : 31] ، وقال الله تعالى : {اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ۖ ثُمَّ اسْتَوَىٰ عَلَى الْعَرْشِ ۖ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ ۖ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُّسَمًّى ۚ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ يُفَصِّلُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُم بِلِقَاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ} [الرعد : 2]، وقال الله تعالى : {يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِّمَّا تَعُدُّونَ} [السجدة : 5] وذلك لنعلم من هذا التكرار أن أمور الأرض والسماء هي من تدبير الله ، فعليك أيها الانسان أن تتفرغ للعبادة ، ولا يشغلك عن ذلك شيء ، فهو سبحانه وتعالى يدبر الأمر، وتدبير الأمر يعم تقديره وتسهيله وإنفاذه على أحسن حال وأحمده عاقبة ، فقد قال البيضاوي: يدبر الأمر ـ يقدر أمر الكائنات على ما اقتضته حكمته، وسبقت به كلمته، ويهيئ بتحريكه أسبابها وينزلها منه، والتدبير النظر في أدبار الأمور لتجيء محمودة العاقبة. فالحادثات صادرة عن تقديره ، وحاصلة بتدبيره، فلا شريك له يعضِّده، ولا يشرِك في تدبير خلقه أحدا، وما قضى به فلا أحد يقدر على ردِّه، ولكنه مع هذا ليس أي قضاء، بل فيه غاية الحكمة التي تليق بربنا الحكيم، وهو ترتيبٌ للوجود يجعل كل شيء موضوعا في مكانه بحكمة بالغة ، وقال الزمخشري: يقضي ويقدر على حسب مقتضى الحكمة، ويفعل ما يفعل المتحرّي للصواب، الناظر في أدبار الأمور وعواقبها، لئلا يلقاه ما يكره آخرا، والأمر أمر الخلق كله، وأمر ملكوت السموات والأرض والعرش ، وقال سهل التستري: يقضي القضاء وحده، فيختار للعبد ما هو خير له، فخيرة الله خير له من خيرته لنفسه ،فسبحانه لا يعزُب عنه مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض، ولا يشغله شأن عن شأن، ولا تغلطه المسائل، ولا يتبرَّم من إلحاح الملحين ولا كثرة السائلين، ولا يلهيه تدبير الكبير عن الصغير، ولا الجليل عن الحقير، وما من دابة في الارض إلا على الله رزقها، ولو كانت نملة سوداء على صخرة صماء في ليلة ظلماء. أقول قولي وأستغفر الله لي ولكم
الخطبة الثانية ( يُدَبِّرُ الْأَمْرَ يُفَصِّلُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ بِلِقَاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ)
الحمد لله رب العالمين . اللهم لك الحمد على نعمة الإسلام والايمان .ولك الحمد أن جعلتنا من أمة محمد عليه الصلاة والسلام. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له . وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
أما بعد أيها المسلمون
ولأن الله تبارك وتعالى هو مدبر الأمر كله ، فما على العبد إلا أن يسلم الأمر له ، ويتوكل عليه ، ويثق في تدبيره ، فلو يدرك الإنسان كيف يدبر الله له الأمور ، لذاب قلبه في حبه، وفوض الأمر له وحده ،وهو مطمئن وواثق أن الخيرة فيما يختاره الله ، فثق بالله وارض بحكمه ، فقد حُكي : أنه هبَّت عاصفة شديدة على سفينة في عرض البحر فأغرقتها ونجا بعض الركاب ، ومنهم رجل أخذت الأمواج تتلاعب به حتى ألقت به على شاطئ جزيرة مجهولة ومهجورة ، فما كاد الرجل يفيق من إغمائه ويلتقط أنفاسه حتى سقط على ركبتيه ، وطلب من الله المعونة والمساعدة سأله أن ينقذه من هذا الوضع الأليم ،مرَّت عدة أيام كان الرجل يقتات خلالها من ثمار الشجر وما يصطاده من أرانب ، ويشرب من جدول ماء قريب وينام في كوخ صغير بناه من أعواد الشجر ، ليحتمي فيه من برد الليل وحر النهار ..وذات يوم أخذ الرجل يتجول حول كوخه قليلاً ، ريثما ينضج طعامه الموضوع على بعض أعواد الخشب المتقدة ، ولكنه عندما عاد فوجئ بأن النار التهمت كل ما حولها ، فلم يعد له سكن ولا طعام ، نام الرجل حزينا ، وهو جوعان ، ولكن في الصباح كانت هناك مفاجأة بانتظاره ،إذ وجد سفينة تقترب من الجزيرة وتنزل منها قارباً صغيراً لإنقاذه .. أما الرجل فعندما صعد على سطح السفينة أخذ يسألهم كيف وجدوا مكانه ! فأجابوه : ” لقد رأينا دخاناً فعرفنا أن شخصاً ما يطلب الإنقاذ” فسبحان من علم بحاله ورأى مكانه ..سبحانه مدبِّر الأمور كلها من حيث لا ندري ولا نعلم .. فإذا ساءت ظروفك فلا تخف ..فقط ثِق بأن الله له حكمة في كل شيء يحدث لك ،وأحسن الظن به
أيها المسلم
ولأن الله تعالى هو مدبر الأمر ، فلا تغفل عن هذا الدعاء : ” اللّهٌمَّ دَبّرْ لِي فَإِنّي لاَ أُحْسِنُ التّدْبِير ” فما أجمل أن يلجأ العبد الي الله ليستخيره في أمور دينه ودنياه ويطلب منه المشورة والرأي ، فهو عالم الغيب ومن بيده مقاليد الأمور .. وإن نظرة العبد القاصرة لا تستطيع أن تقطع في أي أمر بالخير أو الشر .. يقول المولي تبارك وتعالي على لسان نبيه: ” وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاَسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ “(188) الأعراف ، فعلى العبد أن يستسلم تماماً لمولاه وخالقه ويفوض أمره إليه ويوكله في تدبير شؤونه ، ويقف بين يديه وقفة العبد الضعيف الذليل وهو يقول : ” يارب ..فوضت أمري اليك ، يا حي يا قيوم ،يا من بيده مقاليد الأمور ، دبر لي فإني لا أحسن التدبير ” ويترك نفسه تماما لقدر الله يوجهه كيفما يشاء وكما يشاء … فماذا تتوقع حينها ؟ ماذا تتوقع حين يدبر لك ملك الملوك شئون حياتك ، هل يستطيع أحد من البشر مهما بلغت حنكته ،وفطنته أن يدبر ويخطط أفضل من الله ملك الملوك؟ : الإجابة معروفة مسبقا والنتيجة محسومة ، اذاً فلماذا الهم والحزن؟ و لماذا الأرق والتوتر ؟ فاتركها لله . وقل : ” فوضت أمري إلى الله ” قلها وأنت تشعر بكل حرف فيها ، ودع ما يثقلك من حمول خلف ظهرك … ونم قرير العين ، مرتاح البال ، فلقد فوضت أمرك الي المهيمن .
الدعاء