خطبة حول قوله تعالى (وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ)
أغسطس 31, 2021خطبة حول مَثَل ضَرَبَهُ اللَّهُ لِعَمَلِ الْمُنَافِقِ وَالْمُرَائِي : (أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ)
سبتمبر 2, 2021الخطبة الأولى ( فَاصْبِرُوا حَتَّى تَلْقَوْنِي عَلَى الْحَوْضِ )
الحمد لله رب العالمين . اللهم لك الحمد على نعمة الإسلام والايمان .ولك الحمد أن جعلتنا من أمة محمد عليه الصلاة والسلام. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له . وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
أما بعد أيها المسلمون
روي في الصحيحين واللفظ للبخاري : (عَنْ أُسَيْدِ بْنِ حُضَيْرٍ أَنَّ رَجُلاً مِنَ الأَنْصَارِ قَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، أَلاَ تَسْتَعْمِلُنِي كَمَا اسْتَعْمَلْتَ فُلاَنًا ، قَالَ : « سَتَلْقَوْنَ بَعْدِى أَثَرَةً فَاصْبِرُوا حَتَّى تَلْقَوْنِي عَلَى الْحَوْضِ »
إخوة الإسلام
نهانا النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ عَنِ التَّنافُسِ في الدُّنيا، وأرشدَنا إلى أنَّ الآخِرةَ هي محلُّ التَّنافُسِ ، والتَّسابُق؛ فهي دارُ القرارِ والحقيقةِ، وما الدُّنيا إلَّا متاعُ الغُرورِ، فالواجبُ على المسلمِ أنْ يَصبِرَ على ما حُرِمَ منه في الدُّنيا؛ رجاءَ ثَوابِ الآخرةِ ورجاءَ النَّعيمِ المقيمِ فيها، وفي هذا الحديثِ لَمَّا جاءَ رجلٌ إلى النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، وقال له: ألَاَ تَستعملُني كما استعملْتَ فلانًا؟ ، أي: طلَبَ منه أنْ يستعملَه في وظيفةٍ أو ولايةٍ كما استعملَ غيرَه، فقال له صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ : «ستَلقَون بَعْدِي أثرةً، فَاصبرُوا حتَّى تلقَوْني على الحَوضِ»، أي: ستجدونَ بَعْدي مَن يُفضِّلُ عليكم غَيرَكم في الأموالِ وغيرِها، فَيُعطِيهم ما لا يُعطِيكم، ويَستعملُهم في الوظائفِ والولاياتِ ما لا يستعملُكم؛ فاصبرُوا على ما تلْقَوْنه في الدُّنيا ، حتَّى تلْقَوْني على الحوضِ في القيامةِ سالِمينَ مِنَ التَّنافُسِ والتَّباغُضِ في حُطامِ الدُّنيا، فعندها تُوفَّونَ أُجوركم مِنَ اللهِ تعالى. فالصبر من أهم المهمات، وقد ندب الله إليه عباده في مواضع كثيرة من كتابه العظيم؛ لأن بذلك تدفع الشرور الكثيرة ، قال الله تعالى : (وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ) [الأنفال:46] ، وقال الله تعالى : (وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ) [النحل:127] ،وقال الله تعالى : ( كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ) [البقرة:249]. وقد يؤثر على الإنسان غيره ممن هو أولى منه، وقد يبتلى بمرض، وقد يبتلى بتلف مال، وقد يبتلى بتلف قريب، إلى غير هذا، فهنا لا بدّ من الصبر والاحتساب، وفي صحيح مسلم : (عَنْ صُهَيْبٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- « عَجَبًا لأَمْرِ الْمُؤْمِنِ إِنَّ أَمْرَهُ كُلَّهُ خَيْرٌ وَلَيْسَ ذَاكَ لأَحَدٍ إِلاَّ لِلْمُؤْمِنِ إِنْ أَصَابَتْهُ سَرَّاءُ شَكَرَ فَكَانَ خَيْرًا لَهُ وَإِنْ أَصَابَتْهُ ضَرَّاءُ صَبَرَ فَكَانَ خَيْرًا لَهُ ». والصبر ابتغاء وجه الله هو من عزم الأمور ، قال الله تعالى : (لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ) [آل عمران:186]، ويقول الله جل وعلا: ( وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا) [آل عمران:120]، ويقول لقمان لابنه: (يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ) [لقمان:17]. وفي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم عن عبادة قال: «بَايَعْنَا رَسُول الله – صلى الله عليه وسلم – عَلَى السَّمْعِ والطَّاعَةِ في العُسْرِ واليُسْرِ، والمَنْشَطِ وَالمَكْرَهِ، وَعَلَى أثَرَةٍ عَلَيْنَا، وَعَلَى أنْ لاَ نُنازِعَ الأمْرَ أهْلَهُ إلاَّ أنْ تَرَوْا كُفْراً بَوَاحاً عِنْدَكُمْ مِنَ اللهِ تَعَالَى فِيهِ بُرْهَانٌ، وَعَلَى أنْ نَقُولَ بالحَقِّ أيْنَمَا كُنَّا لاَ نَخَافُ في اللهِ لَوْمَةَ لاَئِمٍ» متفق عليه
أيها المسلمون
وفي قوله صلى الله عليه وسلم : (فَاصْبِرُوا حَتَّى تَلْقَوْنِي عَلَى الْحَوْضِ ) ، فالمعنى : أنكم إذا صبرتم فإن من جزاء الله لكم على صبركم أن يسقيَكم من حوض النبي صلى الله عليه وسلم ، وهذا الحوض الذي يكون في يوم القيامة في مكان وزمان أحوج ما يكون الناس إليه ؛ لأنه في ذلك المكان وفي ذلك الزمان ، في يوم الآخرة ، يحصل على الناس من الهم والغم والكرب والعرق والحر ما يجعلهم في أشد الضرورة إلى الماء ، فيَرِدونَ حوض النبي صلى الله عليه وسلم ، حوض عظيم طوله شهر وعرضه شهر ، يصب عليه ميزابان من الكوثر ، وهو نهر في الجنة أُعْطِيَهَ النبي صلى الله عليه وسلم ، يصبَّان عليه ماء ، أشد بياضا من اللبن ، وأحلى من العسل ، وأطيب من رائحة المسك ، وفيه أوان كنجوم السماء في اللمعان والحسن والكثرة ، من شرب منه شربة واحدة لم يظمأ بعدها أبدًا . ويخبرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في غير ما حديث عن صفة هذا الحوض المورد، ففي الصحيحين أنه صلى الله عليه وسلم قال: “حَوْضِي مَسِيرَةُ شَهْرٍ؛ مَاؤُهُ أَبْيَضُ مِنْ اللَّبَنِ، وَرِيحُهُ أَطْيَبُ مِنْ الْمِسْكِ، وَكِيزَانُهُ كَنُجُومِ السَّمَاءِ، مَنْ شَرِبَ مِنْهَا فَلَا يَظْمَأُ أَبَدًا”، وفي لفظ لمسلم: “حَوْضِي مَسِيرَةُ شَهْرٍ، وَزَوَايَاهُ سَوَاءٌ، وَمَاؤُهُ أَبْيَضُ مِنْ الْوَرِقِ”. ولمسلم: “ماؤه أشدُّ بَياضًا من اللبن، وأحلى من العسَل، آنيته عدد نجوم السماء، طوله شهرٌ، وعرضه شهرٌ، مَن يشرب منه لا يظمَأ بعدها أبدًا”. ولمسلم أيضًا “يَغُتُّ فِيهِ مِيزَابَانِ يَمُدَّانِهِ مِنَ الْجَنَّةِ؛ أَحَدُهُمَا: مِنْ ذَهَبٍ، وَالآخَرُ مِنْ وَرِقٍ”؛ أي: من فضة، ويَغُتُّ: أي يصب. فالحوض المورود للنبي صلى الله عليه وسلم يرده المؤمنون من أمته ، ومن شرب منه لم يظمأ أبدا، طوله شهر وعرضه شهر، وانيته كنجوم السماء، وماؤه اشد بياضا من اللبن، واحلى من العسل، واطيب من رائحة المسك ، ومَنْ يشرب منه لا يظمأ أبدا، يصب فيه: ميزابان من الجنة أحدهما: من ذهب، والآخر من فضة. فسبحان الخالق الذي لا يُعجزه شيء، إنها صفات عجيبة تسلب الألباب، وتثير الايمان، وتجدد العهد مع الله، والمؤمن الصادق إذا سمع بمثل هذه الأحاديث عن الحوض، اشتاقت نفسه إليه، وعملت كل ما تستطيع حتى تشرب منه، شربة هنيئة لا تظمأ بعدها أبدًا، فتأمل ذلك الجلال والجمال وتلك المعاني التي تزيد المؤمن إيمانًا.
أقول قولي وأستغفر الله لي ولكم
الخطبة الثانية ( فَاصْبِرُوا حَتَّى تَلْقَوْنِي عَلَى الْحَوْضِ )
الحمد لله رب العالمين . اللهم لك الحمد على نعمة الإسلام والايمان .ولك الحمد أن جعلتنا من أمة محمد عليه الصلاة والسلام. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له . وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
أما بعد أيها المسلمون
وحوض النبي صلى الله عليه وسلم موعد أهل الإيمان مع نبيهم وشفيعهم صلى الله عليه وسلم ،ومأواهم قبل دخول الجنة ، والحوض يُروى عنده الظمأى ويَأمن عنده الخائفون، ويَسعد عنده المحزونون ، وهو بداية فرح المؤمن في الآخرة، لأنه لا يرده إلاّ وقد نجى من هولٍ عظيم وكربٍ جسيم. والحوض منّة عظيمة لأهل الإيمان ليواصلوا به الشرب الحسي كما شربوا في الدنيا الشرب المعنوي من الاهتداء والاقتداء به صلى الله عليه وسلم، ولا يشرب ذلك الشرب الحسي في عرصات القيامة إلا من شرب الشرب المعنوي في الدنيا، وإلا فإنه يذاد عنه ويطرد جزاءً وفاقًا. فهناك أناس يطردون ويذادون عن الحوض فعن أبي مليكة رضي الله عنه عن أسماء رضي الله عنها أن النَّبي صلى الله عليه وسلم قال: “إِنِّي عَلَى الْحَوْضِ حَتَّى أَنْظُرَ مَنْ يَرِدُ عَلَيَّ مِنْكُمْ، وَسَيُؤْخَذُ نَاسٌ دُونِي، فَأَقُولُ: يَا رَبِّ مِنِّي، وَمِنْ أُمَّتِي، فَيُقَالُ: هَلْ شَعَرْتَ مَا عَمِلُوا بَعْدَكَ، وَاللَّهِ مَا بَرِحُوا يَرْجِعُونَ عَلَى أَعْقَابِهِمْ” فَكَانَ ابْنُ أَبِي مُلَيْكَةَ يَقُولُ: اللَّهُمَّ إِنَّا نَعُوذُ بِكَ أَنْ نَرْجِعَ عَلَى أَعْقَابِنَا، أَوْ نُفْتَنَ عَنْ دِينِنَا” رواه البخاري. وفي لفظ لمسلم عن أم سلمة رضي الله عنها: “فَيُقَالُ: إِنَّكَ لَا تَدْرِي مَا أَحْدَثُوا بَعْدَكَ، فَأَقُولُ: سُحْقًا” . ونقول كما قال ابن أبي مليكة رضي الله عنه: اللهم إنا نعوذ بك أن نرجع على أعقابنا، أو نفتن في ديننا، أو نحدث فيه ما ليس على أمر رسولنا صلى الله عليه وسلم. ومن هم هؤلاء؟ ولماذا يطردون ويذادون عن الحوض المورد؟: قال النّووي رحمه الله: “قال الإمام الحافظ أبو عمرو بن عبد البر: كل من أحدث في الدين فهو من المطرودين عن الحوض، وقال القرطبي رحمه الله: ” قال علماؤنا رحمة الله عليهم أجمعين: فكل من ارتدَّ عن دين الله، أو أحدث فيه ما لا يرضاه الله، ولم يأذن به الله، فهو من المطرودين عن الحوض، المبعدين عنه، وأشدهم طردًا من خالف جماعة المسلمين، وفارق سبيلهم
أيها المسلمون
فماذا أعددّنا للورود على الحوض وماذا أعددّنا للقيا نبينا وشفيعنا صلى الله عليه وسلم على الحوض الذي لا يرده إلا المؤمنون الصادقون المتمسكون بسنته صلى الله عليه وسلم؛ أما أهل البدع والضلالات والردة والإحداث في الدين فهم مطرودون عن الحوض، لأنه يقال للنبي صلى الله عليه وسلم: إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك. فاحذر أخي المسلم من البدع وأهلها، فإن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
الدعاء