خطبة عن (المعونَةُ علَى قَدْرِ المؤْنَةِ )
فبراير 13, 2023خطبة عن ( إِنْ يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْرًا يُؤْتِكُمْ خَيْرًا)
فبراير 14, 2023الخطبة الأولى ( لاَ تُشَدِّدُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ فَيُشَدَّدَ عَلَيْكُمْ )
الحمد لله رب العالمين . اللهم لك الحمد على نعمة الإسلام والايمان .ولك الحمد أن جعلتنا من أمة محمد عليه الصلاة والسلام. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له . وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
أما بعد أيها المسلمون
روى أبو داود في سننه : (أَنَّ سَهْلَ بْنَ أَبِي أُمَامَةَ حَدَّثَهُ : أَنَّهُ دَخَلَ هُوَ وَأَبُوهُ عَلَى أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ بِالْمَدِينَةِ ،فِي زَمَانِ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَهُوَ أَمِيرُ الْمَدِينَةِ ،فَإِذَا هُوَ يُصَلِّي صَلاَةً خَفِيفَةً دَقِيقَةً كَأَنَّهَا صَلاَةُ مُسَافِرٍ ،أَوْ قَرِيبًا مِنْهَا ،فَلَمَّا سَلَّمَ ،قَالَ أَبِي : يَرْحَمُكَ اللَّهُ ،أَرَأَيْتَ هَذِهِ الصَّلاَةَ الْمَكْتُوبَةَ أَوْ شَيْءٌ تَنَفَّلْتَهُ ، قَالَ : إِنَّهَا الْمَكْتُوبَةُ ،وَإِنَّهَا لَصَلاَةُ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- ، مَا أَخْطَأْتُ إِلاَّ شَيْئًا سَهَوْتُ عَنْهُ – فَقَالَ :- إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- كَانَ يَقُولُ :« لاَ تُشَدِّدُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ فَيُشَدَّدَ عَلَيْكُمْ ،فَإِنَّ قَوْمًا شَدَّدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ /فَشَدَّدَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ ،فَتِلْكَ بَقَايَاهُمْ في الصَّوَامِعِ وَالدِّيَارِ. (رَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ) الحديد 27،».
إخوة الإسلام
حديثنا اليوم -إن شاء الله تعالى- حول هذا الأدب النبوي الكريم ، والذي ينهى فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم أمته عن التشدد بكل أنواعه، وبيان عاقبة من شددوا في دينهم ، وعلى أنفسهم ، وعلى الناس ، فشدد الله عليهم ، فخسروا دنياهم وآخرتهم : فقوله صلى الله عليه وسلم : (لاَ تُشَدِّدُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ فَيُشَدَّدَ عَلَيْكُمْ ) : وصور التشدد في حياتنا قد تكون كثيرة ومتعددة ، ومنها :
أولا : التشدد في الدين : فالتشدد في الدين أخطر من التهاون فيه، أو قل: هما سواء، فالتفريط والإفراط عدوان للوسطية، وهي العدل في كل شيء، فالغلو في الدين بقصد المبالغة في التعبد هو من التشدد ، فهذا الغلو شر كله ،وبدعة أنكرتها الشرائع السماوية بوجه عام، والشريعة المحمدية بوجه خاص، لذا قال صلى الله عليه وسلم : “وَكُلُّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ وَكُلُّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ وَكُلُّ ضَلَالَةٍ فِي النَّارِ” رواه النسائي ، وفي الصحيحين : (عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ مَا خُيِّرَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- بَيْنَ أَمْرَيْنِ أَحَدُهُمَا أَيْسَرُ مِنَ الآخَرِ إِلاَّ اخْتَارَ أَيْسَرَهُمَا مَا لَمْ يَكُنْ إِثْمًا فَإِنْ كَانَ إِثْمًا كَانَ أَبْعَدَ النَّاسِ مِنْهُ).، وكان – صلى الله عليه وسلم – ينهي أصحابه كثيراً عن المبالغة في التعبد والتكلف ، وذلك لما فيه من الحرج والفتنة؛ فللإنسان طاقة إذا استنفدها أو كاد يستنفدها فإنه يتبرم مما كان السبب في ذلك الحرج ، فينقطع عن العمل انقطاعاً تاماً، وربما لا يعود إليه أبداً، وربما ينقطع عن أعمال كثيرة كانت هي أنفع له في الدنيا والآخرة، وكانت أحب إلى الله من العمل الذي بالغ فيه حتى وصل به إلى هذا الحد، لذا كان أحب شيء إلى رسول الله – صلى الله عليه وسلم – العمل الدائم وإن قل، ففي الصحيحين : (قَالَ صلى الله عليه وسلم « يَا أَيُّهَا النَّاسُ خُذُوا مِنَ الأَعْمَالِ مَا تُطِيقُونَ ، فَإِنَّ اللَّهَ لاَ يَمَلُّ حَتَّى تَمَلُّوا ، وَإِنَّ أَحَبَّ الأَعْمَالِ إِلَى اللَّهِ مَا دَامَ وَإِنْ قَلَّ » .وفي رواية لمسلم : (وَإِنَّ أَحَبَّ الأَعْمَالِ إِلَى اللَّهِ مَا دُووِمَ عَلَيْهِ وَإِنْ قَلَّ ». وَكَانَ آلُ مُحَمَّدٍ -صلى الله عليه وسلم- إِذَا عَمِلُوا عَمَلاً أَثْبَتُوهُ).ولكي يكون العمل دائماً لابد أن يكون محتملاً ،وفي حدود الطاقة واليسر. وقد كان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يحرصون كل الحرص على أن يقتدوا به في عباداته، فيقومون الليل معه مهما طال بهم القيام، وفيهم الضعيف والسقيم وذو الحاجة، فأشفق عليهم الرسول صلى الله عليه وسلم وأمرهم أن يكلفوا من الأعمال ما يطيقونه، مذكراً لهم بما قاله رب العزة – جل وعلا-: { إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطَائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ وَاللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتَابَ عَلَيْكُمْ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضَى وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا } المزمل (20).
ورأوه يواصل الصوم فواصلوا معه؛ ونهاهم عن ذلك لكنهم لم ينتهوا حباً في الله واقتداء به، ظناً منهم أن النهي إنما كان للإشفاق عليهم وليس للتحريم .فلما رآهم وأصلوا واصل بهم كالمنكل بهم، أي كالمعاقب لهم على هذا التشدد وقال: “أيكم مثلي فَإني أَبِيتُ عِنْدَ رَبِّي يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِي”. ومن بينهم رجال كثيرون ونساء كثيرات كانوا يشددون على أنفسهم فنهاهم عن ذلك، فدل النهي على أن التشدد في الدين ليس أمراً محموداً ولا مقصوداً، وإنما المقصود هو الاعتدال، وبذل الجهد بقدر الطاقة من غير تكلف ولا اعتساف.
وأخطر ما في التشدد فوق ما ذكرناه هو ما أشار إليه النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: “فَيُشَدَّدَ عَلَيْكُمْ” وهو أخوف ما كان يخاف النبي صلى الله عليه وسلم على أمته، فقد ثبت أنه صلى الله عليه وسلم كان ينهي عن كثرة الأسئلة التي يخشى منها أن تجلب عليهم الهلكة كما جلبتها على الأمم السابقة. قال عليه الصلاة والسلام: “فَإِنَّمَا أهَلَكَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ كَثرة سُؤَالِهِمْ وَاخْتِلَافِهِمْ عَلَى أَنْبِيَائِهِمْ”. .وحديث الثلاثة الذين ذهبوا إلى بيوت النبي صلى الله عليه وسلم لسألوا عن عبادته خير دليل ، ففي صحيح البخاري : (أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ – رضى الله عنه – يَقُولُ جَاءَ ثَلاَثَةُ رَهْطٍ إِلَى بُيُوتِ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ – صلى الله عليه وسلم – يَسْأَلُونَ عَنْ عِبَادَةِ النَّبِيِّ – صلى الله عليه وسلم – فَلَمَّا أُخْبِرُوا كَأَنَّهُمْ تَقَالُّوهَا فَقَالُوا وَأَيْنَ نَحْنُ مِنَ النَّبِيِّ – صلى الله عليه وسلم – قَدْ غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ وَمَا تَأَخَّرَ . قَالَ أَحَدُهُمْ أَمَّا أَنَا فَإِنِّي أُصَلِّى اللَّيْلَ أَبَدًا . وَقَالَ آخَرُ أَنَا أَصُومُ الدَّهْرَ وَلاَ أُفْطِرُ . وَقَالَ آخَرُ أَنَا أَعْتَزِلُ النِّسَاءَ فَلاَ أَتَزَوَّجُ أَبَدًا . فَجَاءَ رَسُولُ اللَّهِ – صلى الله عليه وسلم – فَقَالَ « أَنْتُمُ الَّذِينَ قُلْتُمْ كَذَا وَكَذَا أَمَا وَاللَّهِ إِنِّي لأَخْشَاكُمْ لِلَّهِ وَأَتْقَاكُمْ لَهُ ، لَكِنِّى أَصُومُ وَأُفْطِرُ ، وَأُصَلِّى وَأَرْقُدُ وَأَتَزَوَّجُ النِّسَاءَ ، فَمَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِي فَلَيْسَ مِنِّي » ، وقد أشار النبي صلى الله عليه وسلم إلى ما وقع للذين شددوا على أنفسهم من الأمم السابقة كرهبان النصارى الذين أخذوا أنفسهم بالشدة والقسوة وبالغوا في الانقطاع إلى الله تعالى، وفرضوا على أنفسهم طقوساً خاصة وعبادات لم تفرض عليهم فوقعوا في الحرج، وكلوا وملوا ولم يوفوا بما عاهدوا الله إلا القليل منهم. وقد شدد الله عليهم فأوجب عليهم الرهبانية التي ابتدعوها وأوجبوها على أنفسهم كالمنكل بهم، وإن كانوا قد فعلوا ذلك ابتغاء رضوانه، لأن الله – عز وجل – يرضيه من عباده أن يشكروه ولا يكفروه، وأن يفعلوا ما أمروا به ،ويجتنبوا ما نهوا عنه ،من غير زيادة ولا نقصان، ومن غير أن يعذبوا أنفسهم بعبادات ابتدعوها وهم لا يعلمون أن الله غنى عنهم وعن عبادتهم، لا تنفعه طاعتهم ولا تضره معصيتهم، ولو كانوا يعلمون ذلك ما انقطعوا في الصوامع ولا لجأوا إلى الكهنوت الذي أذهب دينهم ودنياهم. قال الله تعالى:{مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ وَكَانَ اللَّهُ شَاكِرًا عَلِيمًا } (النساء: 147).
أيها المسلمون
ومن التشدد المذموم في الدِّين : أن تجعل المستحب واجباً ، أو تجعل المكروه محرَّماً ، فليس معنى الغلو والتشدد تطبيق السنة ، بل تغيير أحكامها ، والتشدد في إيجاب الأمر أو تحريمه وليس هو كذلك ، قال شيخ الإسلام ابن تيمية – في شرح هذا الحديث :” ففيه نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن التشدد في الدين بالزيادة عن المشروع ، والتشديد تارة يكون باتخاذ ما ليس بواجب ولا مستحب بمنزلة الواجب والمستحب في العبادات ، وتارة باتخاذ ما ليس بمحرم ولا مكروه بمنزلة المحرم والمكروه في الطيبات ، وعلل ذلك بأن الذين شددوا على أنفسهم من النصارى شدد الله عليهم لذلك ، حتى آل الأمر إلى ما هم عليه من الرهبانية المبتدعة .وفي هذا تنبيه على كراهة النبي صلى الله عليه وسلم لمثل ما عليه النصارى من الرهبانية المبتدعة ، وإن كان كثير من عبادنا قد وقعوا في بعض ذلك متأولين معذورين ، أو غير متأولين ولا معذورين . وفيه أيضا تنبيه على أن التشديد على النفس ابتداء يكون سببا لتشديد آخر يفعله الله إما بالشرع وإما بالقدر ، فأما بالشرع : فمثل ما كان النبي صلى الله عليه وسلم يخافه في زمانه من زيادة إيجاب أو تحريم كنحو ما خافه لما اجتمعوا لصلاة التراويح معه ، ولما كانوا يسألون عن أشياء لم تحرم ، ومثل أن من نذر شيئا من الطاعات وجب عليه فعله وهو منهي عن نفس عقد النذر ، وكذلك الكفارات الواجبة بأسباب . وأما القدر : فكثيراً ما قد رأينا وسمعنا من كان يتنطع في أشياء فيبتلى أيضا بأسباب تشدد الأمور عليه في الإيجاب والتحريم ؛ مثل كثير من الموسوسين في الطهارات : إذا زادوا على المشروع ، ابتلوا بأسباب توجب حقيقة عليهم أشياء فيها عظيم مشقة ومضرة . “اقتضاء الصراط المستقيم ”
ثانيا : ومن صور التشدد: التشدد على النفس : والتشدد على النفس من غير داع يقتضيه قسوة لا مبرر لها، ومصادرة لخصائص الإسلام التي مضى ذكرها، وهي اليسر ورفع الحرج، ودفع المشقة، وقلة التكاليف، ومن صور التشديد على النفس : إلزامها بالأعمال الشاقة كصوم الدهر وإحياء الليل كله واعتزال النساء ،
ثالثا : ومن صور التشدد: التشدد على الناس : والتشدد على الناس ظلم لهم وعدوان عليهم، ومخالفة لميزان العدل الذي جاء به هذا الدين في تشريعاته كلها.
أقول قولي وأستغفر الله لي ولكم
الخطبة الثانية ( لاَ تُشَدِّدُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ فَيُشَدَّدَ عَلَيْكُمْ )
الحمد لله رب العالمين . اللهم لك الحمد على نعمة الإسلام والايمان .ولك الحمد أن جعلتنا من أمة محمد عليه الصلاة والسلام. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له . وأشهد أن
محمدا عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
أما بعد أيها المسلمون
وفي قوله صلى الله عليه وسلم : (فيشدد الله عليكم) : أي : يفرضها عليكم فتقعوا في الشدة ، أو بأن يفوت عليكم بعض ما وجب عليكم بسبب ضعفكم من تحمل المشاق ، فالمعنى : لا تشددوا على أنفسكم ، بإيجاب العبادات الشاقة على سبيل النذر أو اليمين ، فيشدد الله عليكم فيوجب عليكم بإيجابكم على أنفسكم ،فتضعفوا عن القيام بحقه وتملوا وتكسلوا وتتركوا العمل فتقعوا في عذاب الله تعالى ،(فإن قوما) أي : من بني إسرائيل (شددوا على أنفسهم) : بالعبادات الشاقة ، والرياضات الصعبة ، والمجاهدات التامة ، فشدد الله عليهم بإتمامها والقيام بحقوقها ، وقيل : شددوا حين أمروا بذبح بقرة فسألوه عن لونها وسنها وغير ذلك من صفاتها . (فشدد الله عليهم) : بأن أمرهم بذبح بقرة على صفة ، لم توجد على تلك الصفة إلا بقرة واحدة لم يبعها صاحبها إلا بملء جلدها ذهبا ،
وأما قوله صلى الله عليه وسلم : “فتلك بقاياهم في الصوامع والديار {وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ} (الحديد: 27)، فيشير النبي صلى الله عليه وسلم بهذا إلى ما يجده المسلمون من الصوامع التي قد صنعها الرهبان في الطرقات والجبال، والأديرة التي أقاموها في الشام والعراق وغيرهما من البلدان، وهي أمور زائدة على ما أمروا به، لا ينبغي أن نكون نحن المسلمين على غرارهم في هذا التحنث المشوب بالتكلف، فديننا يأمرنا بأن نسير في الأرض ونمشي في مناكبها ونتخذ لنا فيها مستقراً كريما نجد فيه ما نشبع به رغباتنا المحمودة من الكسب الحلال بالعمل المتواصل والجد المشكور، فنجمع بين مطالب الدين والدنيا معاً، ومن المعلوم أن هذه الرهبانية لم تكن في عهد عيسى – عليه السلام – بل هي مما ابتدعها من بعده – كما تشير الآية – فحرموا على أنفسهم ما أحل الله لهم من الطيبات والتزوج بالنساء ومعاشرة الناس وغير ذلك. فقوله تعالى: { وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا } جملة مستأنفة وليست معطوفة على قوله تعالى: {رَأْفَةً وَرَحْمَةً} لأن الرهبانية لم تكن مما شرع الله لهم، فهم قد ابتدعوها تقرباً إلى الله تعالى، ومبالغة في التمسك بالدين، وغلواً فيه، مع أن الدين الذي ارتضاه الله لعباده يسر كله، فالله – جل جلاله – لم يكلف عباده بما لا طاقة لهم به، ولا قدرة لهم على تحمله، ولهذا قصر أولئك الرهبان في هذه الرهبانية تقصيراً متفاوتاً بحسب قدراتهم، فكان منهم المحسن والمسيء. وقوله تعالى: {فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا} يدل على أنهم رعوها رعاية فيها تقصير أو غلو، وكلاهما لا يحمدون عليه، فالأول تفريط، والثاني إفراط والفضيلة وسط بينهما.
الدعاء