خطبة حول قوله تعالى (وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا)
يوليو 17, 2022خطبة عن تسمية الولد وحديث (إِنَّ أَحَبَّ أَسْمَائِكُمْ إِلَى اللَّهِ عَبْدُ اللَّهِ وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ)
يوليو 17, 2022الخطبة الأولى ( وَأَنَا آمُرُكُمْ بِخَمْسٍ اللَّهُ أَمَرَنِي بِهِنَّ )
الحمد لله رب العالمين . اللهم لك الحمد على نعمة الإسلام والايمان .ولك الحمد أن جعلتنا من أمة محمد عليه الصلاة والسلام. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له . وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
أما بعد أيها المسلمون
روى الإمام الترمذي في سننه وقال هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ: (عَنْ زَيْدِ بْنِ سَلاَّمٍ أَنَّ أَبَا سَلاَّمٍ حَدَّثَهُ أَنَّ الْحَارِثَ الأَشْعَرِيَّ حَدَّثَهُ أَنَّ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ « إِنَّ اللَّهَ أَمَرَ يَحْيَى بْنَ زَكَرِيَّا بِخَمْسِ كَلِمَاتٍ أَنْ يَعْمَلَ بِهَا وَيَأْمُرَ بَنِى إِسْرَائِيلَ أَنْ يَعْمَلُوا بِهَا وَإِنَّهُ كَادَ أَنْ يُبْطِئَ بِهَا فَقَالَ عِيسَى إِنَّ اللَّهَ أَمَرَكَ بِخَمْسِ كَلِمَاتٍ لِتَعْمَلَ بِهَا وَتَأْمُرَ بَنِى إِسْرَائِيلَ أَنْ يَعْمَلُوا بِهَا فَإِمَّا أَنْ تَأْمُرَهُمْ وَإِمَّا أَنَا آمُرُهُمْ. فَقَالَ يَحْيَى أَخْشَى إِنْ سَبَقْتَنِي بِهَا أَنْ يُخْسَفَ بِي أَوْ أُعَذَّبَ فَجَمَعَ النَّاسَ فِي بَيْتِ الْمَقْدِسِ فَامْتَلأَ الْمَسْجِدُ وَقَعَدُوا عَلَى الشُّرَفِ فَقَالَ إِنَّ اللَّهَ أَمَرَنِي بِخَمْسِ كَلِمَاتٍ أَنْ أَعْمَلَ بِهِنَّ وَآمُرَكُمْ أَنْ تَعْمَلُوا بِهِنَّ أَوَّلُهُنَّ أَنْ تَعْبُدُوا اللَّهَ وَلاَ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَإِنَّ مَثَلَ مَنْ أَشْرَكَ بِاللَّهِ كَمَثَلِ رَجُلٍ اشْتَرَى عَبْدًا مِنْ خَالِصِ مَالِهِ بِذَهَبٍ أَوْ وَرِقٍ فَقَالَ هَذِهِ دَارِى وَهَذَا عَمَلِي فَاعْمَلْ وَأَدِّ إِلَىَّ فَكَانَ يَعْمَلُ وَيُؤَدِّى إِلَى غَيْرِ سَيِّدِهِ فَأَيُّكُمْ يَرْضَى أَنْ يَكُونَ عَبْدُهُ كَذَلِكَ وَإِنَّ اللَّهَ أَمَرَكُمْ بِالصَّلاَةِ فَإِذَا صَلَّيْتُمْ فَلاَ تَلْتَفِتُوا فَإِنَّ اللَّهَ يَنْصِبُ وَجْهَهُ لِوَجْهِ عَبْدِهِ فِي صَلاَتِهِ مَا لَمْ يَلْتَفِتْ وَآمُرُكُمْ بِالصِّيَامِ فَإِنَّ مَثَلَ ذَلِكَ كَمَثَلِ رَجُلٍ فِي عِصَابَةٍ مَعَهُ صُرَّةٌ فِيهَا مِسْكٌ فَكُلُّهُمْ يَعْجَبُ أَوْ يُعْجِبُهُ رِيحُهَا وَإِنَّ رِيحَ الصَّائِمِ أَطْيَبُ عِنْدَ اللَّهِ مِنْ رِيحِ الْمِسْكِ وَآمُرُكُمْ بِالصَّدَقَةِ فَإِنَّ مَثَلَ ذَلِكَ كَمَثَلِ رَجُلٍ أَسَرَهُ الْعَدُوُّ فَأَوْثَقُوا يَدَهُ إِلَى عُنُقِهِ وَقَدَّمُوهُ لِيَضْرِبُوا عُنُقَهُ فَقَالَ أَنَا أَفْدِيهِ مِنْكُمْ بِالْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ. فَفَدَى نَفْسَهُ مِنْهُمْ وَآمُرُكُمْ أَنْ تَذْكُرُوا اللَّهَ فَإِنَّ مَثَلَ ذَلِكَ كَمَثَلِ رَجُلٍ خَرَجَ الْعَدُوُّ فِي أَثَرِهِ سِرَاعًا حَتَّى إِذَا أَتَى عَلَى حِصْنٍ حَصِينٍ فَأَحْرَزَ نَفْسَهُ مِنْهُمْ كَذَلِكَ الْعَبْدُ لاَ يُحْرِزُ نَفْسَهُ مِنَ الشَّيْطَانِ إِلاَّ بِذِكْرِ اللَّهِ ». قَالَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- « وَأَنَا آمُرُكُمْ بِخَمْسٍ اللَّهُ أَمَرَنِي بِهِنَّ السَّمْعُ وَالطَّاعَةُ وَالْجِهَادُ وَالْهِجْرَةُ وَالْجَمَاعَةُ فَإِنَّهُ مَنْ فَارَقَ الْجَمَاعَةَ قِيدَ شِبْرٍ فَقَدْ خَلَعَ رِبْقَةَ الإِسْلاَمِ مِنْ عُنُقِهِ إِلاَّ أَنْ يَرْجِعَ وَمَنِ ادَّعَى دَعْوَى الْجَاهِلِيَّةِ فَإِنَّهُ مِنْ جُثَا جَهَنَّمَ ». فَقَالَ رَجُلٌ يَا رَسُولَ اللَّهِ وَإِنْ صَلَّى وَصَامَ قَالَ « وَإِنْ صَلَّى وَصَامَ فَادْعُوا بِدَعْوَى اللَّهِ الَّذِى سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ الْمُؤْمِنِينَ عِبَادَ اللَّهِ ».
إخوة الإسلام
لقد ضَرب الله الأمثالِ في القرآنِ والسُّنَّةِ النَّبويَّةِ ، لِتَقريبِ المفاهيمِ للنَّاسِ عندَ وَعْظِهم وتَعليمِهم، وفي هذا الحديثِ النبوي الكريم يقولُ النَّبيُّ صلَّى اللهُ علَيه وسلَّم: “إنَّ اللهَ أمَر يَحْيى بنَ زكَريَّا بخَمسِ كَلِماتٍ”، أي: أوحى إليه الله تعالى وأمَره بخمسِ أوامِرَ ووَصايا، وأمره “أن يَعمَلَ بها، ويأمُرَ بَني إسرائيلَ أن يَعمَلوا بها”، أي: على سبيلِ التَّكليفِ بها، “وإنَّه كاد أن يُبطِئَ بها”، أي: تأخَّر يَحْيى بنَ زكَريَّا في بَلاغِها لِبَني إسرائيلَ، فقال نبي الله عيسى لنبي الله يحيى : “إنَّ اللهَ أمَرك بخمسِ كلماتٍ لِتَعمَلَ بها ، وتأمُرَ بَني إسرائيلَ أن يَعمَلوا بها، فإمَّا أن تَأمُرَهم، وإمَّا أنا آمُرُهم”، أي: إمَّا أن تُبلِّغَهم أنت أو أُبلِّغَهم أنا بها، وهذا من باب الحَثِّ على السُّرعةِ في تبليغِ أوامرِ اللهِ، فقال يحيى: “أخشى إن سبَقتَني بها”، أي: بِتَبليغِها لبني إسرائيلَ، “أن يُخسَفَ بي أو أُعذَّبَ”، أي: يقَعَ غضَبٌ مِن اللهِ عليه، “فجمَع النَّاسَ”، أي: فجمَع يحيى بني إسرائيلَ، “في بيتِ المقدِسِ، فامتلَأ المسجدُ وقعَدوا على الشُّرُفِ” ، وهي الأماكنُ المرتفِعةُ في المسجدِ وحولَه، وهذا كنايةٌ عن شدَّةِ الازدِحامِ وكَثرةِ مَن حضَر، فقال يحيى عليه السَّلامُ: “إنَّ اللهَ أمَرني بخمسِ كلماتٍ أن أعمَلَ بهنَّ، وآمُرَكم أن تَعمَلوا بهنَّ: أوَّلهنَّ: أن تَعبُدوا اللهَ ولا تُشرِكوا به شيئًا، وإنَّ مَثلَ مَن أشرَك باللهِ كمَثلِ رجُلٍ اشتَرى عبدًا مِن خالِصِ مالِه بذَهبٍ أو وَرِقٍ، فقال: هذه داري وهذا عمَلي”، وهذا كنايةٌ عن خَلْقِ اللهِ للعبادِ، وعطائِه ورِزقِه لهم، “فاعمَلْ وأدِّ إليَّ”، أي: يَكونُ نِتاجُ عمَلِ العبدِ لسيِّدِه لا لغيرِه، “فكان يَعمَلُ ويُؤدِّي إلى غيرِ سيِّدِه، فأيُّكم يَرْضى أن يَكونَ عبدُه كذلك؟”، أي: يُنكِرُ عليهم أن يُشرِكوا مع اللهِ غيرَه بمِثْلِ ما يُنكِرُ أحدُهم أن يُنتِجَ مملوكُه ويُعطِيَ نِتاجَه غيرَ سيِّدِه، فالله – عز وجل – قد خلق الخلق بقدرته من العدم، ورباهم على موائد العز والكرم، وأسبغ عليهم نعمه ظاهرة وباطنة، وعرفهم بنفسه فعرفوه، وحدد لهم وظائفهم فعرفوها بواسطة الرسل، وهي المتمثلة في إفراده بالعبادة، فهل يرضي جل جلاله أن يشركوا معه غيره في العبادة، وهذا المثل يشبه إلى حد ما ماجاء به القرآن الكريم بأسلوبه المعجز في قوله تعالى: { ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلًا فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلًا سَلَمًا لِرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ } (الزمر 29). فهو مثل ضربه الله – عز وجل – لبيان حقه على عباده في إفراده بالعبادة على وجه الإخلاص التام. فالذي يعبد آلهةٌ شتى، هو صورة من هذا الرجل الذي تملكه تلك الأيدي الكثيرة المتشاكسة، إنه يقطع أنفاسه لاهثاً وراء إله يريد أن يكسب رضاه بالملق والرياء والدس على الآلهة الآخرين. وأما الذي يعبد إلهاً واحداً، وهو الله رب العالمين، فهو صورة لهذا الرجل الذي هو سلم لرجل، أي خالص له لا يدين بالولاء لغيره، إنه إذاً يعبد الله وحده فهو على حال من الأمن والطمأنينة ما دام مطيعاً له مخلصاً في عبادته. والثَّانيةُ: “وإنَّ اللهَ أمَركم بالصَّلاةِ”، أي: فرَضها عليكم، “فإذا صلَّيتم فلا تَلتَفِتوا”، أي: فلا تتَحوَّلوا بوُجوهِكم عن جهةِ القِبْلةِ أثناءَ الصَّلاةِ، “فإنَّ اللهَ يَنصِبُ وجهَه لِوَجهِ عبدِه في صَلاتِه”، أي: يُقابِلُ بوَجهِه سُبحانَه وتعالى، وصِفةُ الوجهِ ثابتةٌ لله سبحانه كما قال تعالى: {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ} [الرحمن: 27]، وهي صِفةُ كمالٍ كما يَليقُ بجَلالِهِ وكمالِه سبحانه، ولَيسَ كَمِثلِه شيءٌ، والواجبُ هو الإيمانُ بما ورَدَ في الكتاب والسُّنَّةِ دونَ تكييفٍ أو تمثيلٍ، أوتحريف أو تعطيلٍ. “ما لم يَلتَفِتْ”، أي: يُقبِلُ اللهُ على عبدِه المصلِّي ما دامَ العبدُ خاشِعًا، فإذا الْتفَت زالَ الخُشوعُ وأعرَض اللهُ عنه؛ لأنَّ الوقوفَ بينَ يدَيِ الملِكِ يَقتَضي المداومةَ على التَّبجيلِ والتَّقديسِ، فالصلاة عماد الدين، وركنه الركين، وهي البرهان الصادق على صحة الإيمان، ولكن الصلاة التي تكون كذلك هي التي يؤديها المسلم بخشوع وخضوع وتمسكن وتواضع، لا يلتفت فيها بقلبه ولا بقالبه. وذكر ابن القيم في كتابه الوابل الصيب: (أن الالتفات المنهي عنه في الصلاة قسمان: أحدهما: التفات القلب عن الله – عز وجل – إلى غير الله تعالى. والثاني: التفات البصر. ولا يزال الله مقبلاً على عبده مادام العبد مقبلاً على صلاته، فإذا التفت بقلبه أو بصره أعرض الله تعالى عنه. وقد سئل رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ الِالْتِفَاتِ الرَّجُلِ فِي صَّلَاته فَقَالَ” اخْتِلَاسٌ يَخْتَلِسُهُ الشَّيْطَانُ مِنْ صَلَاةِ الْعَبْدِ”. فالمصلى الذي يلتفت في صلاته لا يستوي والحاضر القلب المقبل على الله تعالى في صلاته ، قد استشعر قلبه عظمة من هو واقف بين يديه، فامتلأ قلبه من هيبته، وذلت عنقه له، واستحيا من ربه تعالى أن يقبل على غيره أو يلتفت عنه، فالرجلان ليكونان في الصلاة الواحدة وإن ما بينهما في الفضل كما بين السماء والأرض، وذلك أن أحدهما مقبل بقلبه على الله – عز وجل – والآخر ساه غافل، ومن علامات قبول الصلاة أن ينصرف المصلي منها وقد وجد خفة من نفسه، وأحس بأثقال قد وضعت عنه، ووجد نشاطاً وراحة وروحاً، حتى يتمنى أنه لم يكن خرج منها؛ لأنها قرة عينيه ونعيم روحه، وجنة قلبه ومستراحه في الدنيا، فلا يزال كأنه في سجن وضيق حتى يدل فيها فيستريح بها لا منها، والثَّالثةُ: “وآمُرُكم بالصِّيامِ؛ فإنَّ مَثَل ذلك”، أي: مثَلَ الصَّائمِ، “كمثَلِ رجُلٍ في عِصابةٍ”، أي: في جماعةٍ، “معه صُرَّةٌ”، والصُّرَّةُ مِثلُ الكيسِ الَّذي يُحفَظُ فيه النُّقودُ، “فيها مِسْكٌ، فكلُّهم يَعجَبُ أو يُعجِبُه رِيحُها، وإنَّ ريحَ الصَّائمِ”، أي: رِيحَ فَمِه، “أطيَبُ عندَ اللهِ مِن ريحِ المسكِ” ، أي: أزكى عندَ اللهِ تعالى وأقرَبُ إليه، وأرفَعُ عِندَه مِن ريحِ المسكِ، وهذا مِن الثَّناءِ على الصَّائمِ، والرِّضا بفِعْلِه، فالصوم عبادة بدنية كالصلاة، يتجه فيها العبد بقلبه إلى الله إيماناً واحتساباً، فهي برهان من براهين صحة الإيمان كالصلاة، وفي الصحيحين: “كُلُّ عَمَلِ ابْنِ آدَمَ لَهُ إِلَّا الصِّيَامَ فَإِنَّهُ لِي وَأَنَا أَجْزِي بِهِ”. والصائم الحق هو الذي صامت جوارحه عن الآثام، ولسانه عن الكذب والفحش وقول الزور، وليس هو من كف عن الأكل والشرب والجماع فحسب ، والصائم يخفي صومه لأنه لا يصوم إلا لله، ولكن رائحة فمه تدل عليه ولذلك قال: “وَإِنَّ رِيحَ فم الصَّائِمِ أَطْيَبُ عِنْدَ اللَّهِ مِنْ رِيحِ الْمِسْكِ”. وهو كناية عن قبول عمله والرضا به والإثابة عليه. والرَّابعةُ: “وآمُرُكم بالصَّدقةِ؛ فإنَّ مَثلَ ذلك”، أي: مَثلَ الَّذي يُخرِجُ الصَّدقةَ، “كمَثلِ رجلٍ أسَرَه العدوُّ، فأوثَقوا”، أي: ربَطوا “يدَه إلى عُنقِه، وقدَّموه لِيَضرِبوا عُنقَه، فقال”، أي: رجلٌ: “أنا أَفْديه مِنكم” مِن الفِدْيةِ وهو فَكاكُ الأسيرِ، “بالقليلِ والكثيرِ”، أي: بكلِّ ما تُريدون من مالٍ وإن بلَغ ذلك جميعَ مالي، “ففَدى نفسَه مِنهم”، أي: أعتَقوه وترَكوه بتلك الفديةِ، وكذلك صاحبُ الصَّدقةِ؛ فإنَّه يُعتِقُ نفْسَه مِن النَّارِ، ومن المعلوم أن الصدقة أو الزكاة المفروضة هي عبادة مالية تلي الصلاة والصوم في المرتبة؛ لأنها برهان على صحة الإيمان أيضاً ، وسميت الصدقة صدقة لدلالتها على الصدق، فإن المسلم يبرهن بصدقته على صدقه في حب الله – عز وجل – قال الله تعالى: { وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ } (البقرة: 177) ، فقد أعطى ما يحب لمن يحب من أجل من يحب. وقال جل وعلا: { وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا } (الإنسان: 8-9). والصدقة نوعان : صدقة مفروضة، وصدقة تطوع. وللصدقة تأثير عجيب في رفع البلاء ودفع الشدة، وكشف الكرب، وتفريج الهم، وفتح أبواب الرحمة، والشفاء من الأمراض والعلل، هذا مع مضاعفة الأجر، وأكبر من ذلك كله رضوان الرب تبارك وتعالى. وقد روى الترمذي في سننه عن أنس بن مالك – رضي الله عنه – أن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال: “إِنَّ الصَّدَقَةَ لَتُطْفِئُ غَضَبَ الرَّبِّ وَتَدْفَعُ عَنْ مِيتَةِ السُّوءِ” ،وفي الصحيحين عن عدي ابْنِ حَاتِمٍ أن رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: “مَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا سَيُكَلِّمُهُ رَبُّهُ لَيْسَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ تَرْجُمَانٌ، فَيَنْظُرُ أَيْمَنَ مِنْهُ فَلَا يَرَى إِلَّا مَا تَقدم، يَنْظُرُ أشأم مِنه فَلَا يَرَى إِلَّا مَا قدم، وَيَنْظُرُ بين يديه فَلَا يرى إلا النَّارُ تلقاء وجهه، فَاتقوا النَّارَ وَلَوْ بِشِقِّ تَمْرَةٍ”. وفي الصحيحين عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ – رضي الله عنه – “أن رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ضَرَبَ مَثَلَ الْبَخِيلِ وَالْمُتَصَدِّقِ كَمَثَلِ رَجُلَيْنِ عَلَيْهِمَا جبتان مِنْ حَدِيدٍ أَو جُنَّتَانِ مِنْ حَدِيدٍ قَدْ اضْطُرَّتْ أَيْدِيهِمَا إِلَى ثُدِيِّهِمَا وَتَرَاقِيهِمَا، فَجَعَلَ الْمُتَصَدِّقُ كُلَّمَا تَصَدَّقَ بِصَدَقَةٍ انْبَسَطَ مِنْهُ حَتَّى تُغَشِّيَ أَنَامِلَهُ وَتَعْفُوَ أَثَرَهُ. وَجَعَلَ الْبَخِيلُ كُلَّمَا هَمَّ بِصَدَقَةٍ قَلَصَتْ وَأَخَذَتْ كُلُّ حَلْقَةٍ مَكَانَهَا” ، وقَالَ أَبو هريرة: “فَأَنَا رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ بِإِصْبَعِهِ فِي جَيْبِهِ فَلَوْ رَأَيْتَهُ يُوَسِّعُهَا وَلَا تَوَسَّعُ”.
والخامسةُ: “وآمُرُكم أن تَذكُروا اللهَ؛ فإنَّ مثَلَ ذلك”، أي: مَثلَ الَّذي يَذكُرُ اللهَ تعالى، “كمَثلِ رجلٍ خرَج العدوُّ في أثَرِه سِراعًا”، أي: لاحَقه الأعداءُ وجَرَوْا خلفَه “حتَّى إذا أتَى على حِصْنٍ حُصينٍ فأحرَز نفْسَه منهم”، أي: حمَى ومنَع نفْسَه في ذلك الحِصْنِ “كذلك العبدُ لا يُحرِزُ”، أي: لا يَمنَعُ، “نفْسَه مِن الشَّيطانِ”، أي: مِن وَساوِسِه وتسَلُّطِه عليه، “إلَّا بذِكْرِ اللهِ”، أي: إنَّ ذِكْرَ اللهِ تعالى بمَثابةِ الحِصْنِ الَّذي يَمنَعُه مِن الشَّيطانِ. فذكر الله – عز وجل – هو البلسم الشافي من كل داء، به تطمئن القلوب المؤمنة. قال الله عز وجل: { الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ } (الرعد: 28). وبه تهدأ النفوس الثائرة، وتسكن وتستريح، وتبرأ من عللها وأمراضها. وأعظم الذكر كتاب الله – عز وجل-قال الله تعالى: { اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ } (الزمر: 23). وبذكر الله تهتدي العقول إلى وحدانيته – عز وجل – فإن الذكر نور يبدد ظلمات الكفر والجهل، فكان هو القائد الذي يقود العبد إلى صراط الله المستقيم، ويعرفه بنفسه، ومن خلال معرفته بنفسه يعرف ربه – عز وجل- . فالذكر باللسان والقلب والعقل يفتح للإنسان آفاقاً رحبة للتأمل والنظر في ملكوت الله – تبارك وتعالى-. وهو الأمر الذي يقربه من خالقه، ويدنيه من حضرة قدسه، ويجعله عبداً ربانياً يكون هواه تبعاً لمرضاته، ويكون حظه في طاعته. وهناك فضيلة أخرى بينها يحيى – عليه السلام – بقوله: “فَإِنَّ مَثَلَ ذَلِكَ مَثَلِ رَجُلٍ خَرَجَ الْعَدُوُّ فِي أَثَرِهِ سِرَاعًا حَتَّى إِذَا أَتَى عَلَى حِصْنٍ حَصِينٍ فَأَحْرَزَ نَفْسَهُ مِنْهُمْ، كَذَلِكَ الْعَبْدُ لَا يُحْرِزُ نَفْسَهُ مِنْ الشَّيْطَانِ إِلَّا بِذِكْرِ اللَّهِ تَعَالَى”. قال ابن القيم – رحمه الله – : فلو لم يكن في الذكر إلا هذه الخصلة الواحدة لكان حقيقياً بالعبد أن لا يفتر لسانه من ذكر الله تعالى، وأن لا يزال لهجاً بذكره، فإنه لا يحرز نفسه من عدوه إلا بالذكر، ولا يدخل عليه العدو إلا من باب الغفلة، فهو يرصده فإذا غفل وثب عليه وافترسه، وإذا ذكر الله – تعالى- انخنس عدو الله – تعالى – وتصاغر وانقمع حتى يكون كالوصع وكالذباب، ولهذا سمي “الوسواس الخناس”؛ لأنه يوسوس في الصدور فإذا ذكر الله – تعالى – خنس، أي كف وانقبض. قال ابن عباس: الشيطان جاثم على قلب ابن آدم، فإذا سها وغفل وسوس، فإذا ذكر الله تعالى خنس. وفي مسند الإمام أحمد عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ أَنَّهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ “مَا عَمِلَ آدَمِيٌّ عَمَلًا قَطُّ أَنْجَى لَهُ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ – عز وجل –”. وقال معاذ بن جبل: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “ألا أخبركم بخير أعمالكم ، وأزكاها عند مليككم، وأرفعها في درجاتكم، وخير لكم من إنفاق الذهب والفضة، وخير لكم من أن تلقوا عدوكم فتضربوا أعناقهم ويضربوا أعناقكم؟” قالوا: بلى يا رسول الله قال : “ذكر الله – عز وجل –”.وفي صحيح مسلم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ:” كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَسِيرُ فِي طَرِيقِ مَكَّةَ فَمَرَّ عَلَى جَبَلٍ يُقَالُ لَهُ جُمْدَانُ فَقَالَ: سِيرُوا هَذَا جُمْدَانُ سَبَقَ الْمُفَرِّدُونَ قَيل وَمَا الْمُفَرِّدُونَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟، قَالَ “الذَّاكِرُونَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتُ”.
أقول قولي وأستغفر الله لي ولكم
الخطبة الثانية ( وَأَنَا آمُرُكُمْ بِخَمْسٍ اللَّهُ أَمَرَنِي بِهِنَّ )
الحمد لله رب العالمين . اللهم لك الحمد على نعمة الإسلام والايمان .ولك الحمد أن جعلتنا من أمة محمد عليه الصلاة والسلام. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له . وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
أما بعد أيها المسلمون
ثم قال النَّبيُّ صلَّى اللهُ علَيه وسلَّم: “وأنا آمُرُكم بخَمسٍ، اللهُ أمَرني بهِنَّ”، أي: بمِثْلِ ما أمَر اللهُ عزَّ وجلَّ يَحْيى، وهذه الأمورُ هي: “السَّمعُ والطَّاعةُ”، أي: للإمامِ، وعدَمُ الخروجِ عليه ما لم يُرَ مِنه كفرٌ بواحٌ، فالسَّمع والطَّاعة تعني طاعة الله ورسوله، وطاعة أولي العلم من المؤمنين، وطاعة أولي الأمر في غير معصية الله – عز وجل ، “والجهادُ”، أي: في سَبيلِ اللهِ عزَّ وجلَّ؛ لإعلاءِ كَلِمتِه بكلِّ الطُّرقِ والوسائلِ، فالجهاد فريضة من أعظم الفرائض التي يحفظ المسلمون بها دينهم، ويصونون بها أعراضهم وديارهم وأموالهم. فهو ذروة سنام الإسلام كما جاء في الحديث الذي أخرجه الترمذي في سننه. وقد رتب الله عليه الخير كله مع الإيمان فقال جل شأنه: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ }الصف:10-13 ، “والهجرةُ”، أي: تَرْكُ دارِ الكُفرِ إلى دارِ الإيمانِ في المدينةِ النبويَّةِ- وكانتِ الهِجرةُ إلى النَّبيِّ صلَّى اللهُ علَيه وسلَّم واجبةً قبلَ فتحِ مكَّةَ، ولكن بعدَ الفَتْحِ لا تُوجَدُ هجرةٌ إلى مَكَّةَ لأنها صارتْ دارَ إسلامٍ، ولكن يُوجَدُ جِهادٌ وتصحيحُ النِّيَّةِ في العمَلِ، ، والهجرة تنقسم باعتبار آخر إلى نوعين: هجرة من بلد إلى بلد، أو من مكان إلى مكان ،وهجرة من المعاصي إلى الطاعات. قال رسول الله – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – : “الْمُسْلِمُ مَنْ سَلِمَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِهِ وَالْمُهَاجِرُ مَنْ هَجَرَ مَا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ”. يعني أن المهاجر الحق هو من هجر المعاصي ولزم الطاعات رغباً ورهباً، عملاً بقوله تعالى: { فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ } (الذاريات: 50).والفرار إلى الله على ثلاث مراتب. أولها: الفرار من الكفر إلى الإسلام. وثانيها: الفرار من المعاصي إلى الطاعات. وثالثها: الفرار منه إليه؛ إذ لا منجاة منه إلا إليه. “والجَماعةُ” ، أي: مُلازَمتُها وتَرْكُ الفُرْقةِ، والمرادُ بالجماعةِ: جماعةُ المسلِمين المتمسكِّين بهَدْيِ النَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم وسُنَّتِه وما جاء في القُرآنِ الكريمِ، وكان عليه الصَّحابةُ والتَّابعون لهم بإحسانٍ رضوانُ اللهِ عليهم؛ “فإنَّه مَن فارَق الجماعةَ قِيدَ”، أي: بمِقْدارِ “شِبْرٍ؛ فقَد خلَع رِبْقةَ الإسلامِ من عُنقِه”، نزَع عن نفْسِه عُرى الإسلامِ وميثاقَه، والرِّبْقةُ: ما يُجعَلُ في عُنقِ البَهيمةِ لِتُمسِكَها، “إلَّا أن يُراجِعَ”، أي: إلَّا أن يَترُكَ تلك الفُرقةَ، ويَرجِعَ للجَماعةِ فتَرجِعَ له رِبْقةُ الإسلامِ، فمن الواجب على المسلم لزوم جماعة المسلمين وعدم الخروج عنها ما دامت تعمل بكتاب الله وسنة رسوله – صلى الله عليه وسلم – ؛ فإن الخروج عن الجماعة مروق عن الدين، وفتنة لمن خرج عنها أو لمن تحدثه نفسه بالخروج عنها . وأما قوله : “ومَن ادَّعى دَعْوى الجاهليَّةِ”، أي: نادَى في الإسلامِ بأيِّ ادِّعاءٍ كان في الجاهليَّةِ، كالحَمِيَّةِ والعصَبيَّةِ الَّتي كانوا يُنادون بها في نُصرَةِ بَعضِهم البعضِ؛ “فإنَّه مِن جُثَى جَهنَّمَ”، أي: مَن دَعا بهذه الدَّعواتِ الجاهليَّةِ يَدخُلُ جهنَّمَ على رُكبَتَيه، أو هو مِن الجَماعاتِ الَّتي تُقذَفُ في النَّارِ، ودعوى الجاهلية عريضة لا رابط لها ولا ضابط؛ لأنها مبنية على الهوى الجامح والجهل المطبق، والتعصب الحائر والتقليد الأعمى. وقد قال الله – عز وجل -: { وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ } (آل عمران:101). فقال رجلٌ: “يا رسولَ اللهِ، وإنْ صلَّى وصام؟”، أي: حتَّى هذا الوعيدُ لِمَن كان له صَلاةٌ وصيامٌ، فقال النَّبيُّ صلَّى اللهُ علَيه وسلَّم: “وإنْ صلَّى وصام؛ وذلك لأن صلاته لم تكن تعبر عن عبوديته التي ينبغي أن يشعر بها في أعماق نفسه، فهو يؤدي بجسده لا بقلبه، إذ القلب مشغول بالفتن ملئ بالوساوس والهواجس، والشبهات والشهوات، والأحقاد والأطماع الشخصية. فمثل هذه الصلاة لا تنهي صاحبها عن الفحشاء والمنكر، ولا تزيده من الله إلا بعداً ومقتاً. والصوم تابع للصلاة، فمن لم تنفعه صلاته لا ينفعه صومه.
الدعاء