خطبة عن حديث (لاَ يَرُدُّ الْقَضَاءَ إِلاَّ الدُّعَاءُ)
نوفمبر 2, 2019خطبة عن حديث (إِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِعَبْدٍ خَيْرًا اسْتَعْمَلَهُ)
نوفمبر 2, 2019الخطبة الأولى ( اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا )
الحمد لله رب العالمين . اللهم لك الحمد على نعمة الإسلام والايمان .ولك الحمد أن جعلتنا من أمة محمد عليه الصلاة والسلام. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له . وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
أما بعد أيها المسلمون
يقول الله تعالى في محكم آياته : (وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُورًا (13) اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا) (13) ،(14) الاسراء
إخوة الإسلام
لقد دعا الله عز وجل عباده إلى تدبر القرآن ، فقال الله تعالى : {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آَيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ} [ص: 29]، وفي نفس الوقت ،فقد أنكر الله على من أعرض عن تدبر القرآن ، فقال الله تعالى : {أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ أَمْ جَاءَهُمْ مَا لَمْ يَأْتِ آَبَاءَهُمُ الْأَوَّلِينَ} [المؤمنون: 68]، واليوم إن شاء الله موعدنا مع آيات من كتاب الله ، نتدبرها ، ونسبح في بحار معانيها ، ونرتشف من رحيقها المختوم ، مع قوله تعالى : (اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا) (14) الاسراء ، يقول الطبري في تفسيرها : اقرأ كتاب عملك الذي عملته في الدنيا، الذي كان كاتبانا يكتبانه، ونحصيه عليك ،( كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا ) : فحسبك اليوم نفسك عليك حاسبا يحسب عليك أعمالك، فيحصيها عليك، لا نبتغي عليك شاهدا غيرها، ولا نطلب عليك محصيا سواها. ويقول ابن كثير : ( كفى بنفسك اليوم عليك حسيبا ) أي : إنك تعلم أنك لم تظلم ولم يكتب عليك غير ما عملت ؛ لأنك ذكرت جميع ما كان منك ، ولا ينسى أحد شيئا مما كان منه ، وكل أحد يقرأ كتابه من كاتب وأمي . وقَالَ الْحَسَنُ: لَقَدْ عَدَلَ عَلَيْكَ مَنْ جَعَلَكَ حَسِيبَ نَفْسِكَ. وقَالَ قَتَادَةُ: سَيَقْرَأُ يَوْمَئِذٍ مَنْ لَمْ يَكُنْ قَارِئًا فِي الدُّنْيَا.
أيها المسلمون
في هذه الآية الكريمة ،يخبرنا الله سبحانه وتعالى ،أنه ما من إنسان إلا وسيجد كتاب أعماله ملازماً له، ينشر عليه في يوم القيامة، ويقال له: اقرأ كتابك وأنت حسيب نفسك، بعد أن تقف على كل أعمالك التي عملتها في الدنيا، وهذا هو العدل التام, والإنصاف الكامل ، وفي قوله تعالى (اقْرَأْ كِتَابَكَ ) أي : اقرأ كتابك أنت، فيقرر القرآن المسئولية الفردية، والمسئولية الفردية تنفي التبعات الموروثة؛ فليس هناك خطيئةٌ موروثة عبر الأجيال أؤاخذ بذنب أبي، ولا أؤاخذ بذنب أخي، ولا بذنب أحدٍ من العالمين ، قال الله تعالى : (وَلَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْهَا وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى) الانعام 164، وقال الله تعالى : (وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلَى حِمْلِهَا لَا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى) فاطر 18، فهذه المسئولية الفردية يُعمقها القرآن بأساليب شتى كثيرة، مكررة، حتى ترسخ في النفس البشرية أن الإنسان عنده مسئولية أمام الله سبحانه وتعالى هو وحده، فقصر المسؤولية على المسؤول وحده مبدأ من مبادئ الإسلام ، فلا يؤخذ بريء بجريمة مذنب، ولا يشترك أهل المذنب فيما اقترفت يد المذنب، أو نسب إليه ، والمسؤولية الفردية : هي أن تؤدي العمل المطلوب منك على أكمل وجه ، في الوقت المحدد ، ونقيض المسؤولية ــ اللامسوؤلية، وتعني الإهمال والتكاسل والتسويف، وعمل ابن آدم محفوظ عليه قليله وكثيره، ويكتب عليه ليلاً ونهاراً، صباحاً ومساء، وقال الإمام أحمد (عَنْ جَابِرٍ قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ « طَيْرُ كُلِّ عَبْدٍ فِي عُنُقِهِ ». وفي قوله تعالى : { كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا}: فإنك تعلم أنك لم تظلم ،ولم يكتب عليك إلا ما عملت، لأنك ذكرت جميع ما كان منك، ولا ينسى أحد شيئاً مما كان منه، وفي قوله تعالى : {أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ}: إنما ذكر العنق لأنه عضو لا نظير له في الجسد، ومن ألزم بشيء فيه فلا محيد له عنه، ففي مسند أحمد : (عُقْبَةَ بْنَ عَامِرٍ يُحَدِّثُ عَنِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- أَنَّهُ قَالَ :« لَيْسَ مِنْ عَمَلِ يَوْمٍ إِلاَّ وَهُوَ يُخْتَمُ عَلَيْهِ فَإِذَا مَرِضَ الْمُؤْمِنُ قَالَتِ الْمَلاَئِكَةُ رَبَّنَا عَبْدُكَ فُلاَنٌ قَدْ حَبَسْتَهُ. فَيَقُولُ الرَبُّ عَزَّ وَجَلَّ اخْتِمُوا لَهُ عَلَى مِثْلِ عَمَلِهِ حَتَّى يَبْرَأَ أَوْ يَمُوتَ »، وقال معمر: تلا الحسن البصري قوله تعالى : { إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ} ق (17) ، ثم قال : (يا ابن آدم بسطت لك صحيفتك، ووكل بك ملكان كريمان أحدهما عن يمينك والآخر عن شمالك، فأما الذي عن يمينك فيحفظ حسناتك، وأما الذي عن شمالك فيحفظ سيئاتك، فاعمل ما شئت، أقلل أو أكثر، حتى إذا مت طويت صحيفتك فجعلت في عنقك معك في قبرك، حتى تخرج يوم القيامة كتاباً تلقاه منشوراً )
أيها المسلمون
اقرأ كتاب عملك كفى أن تكون اليوم شهيدا بما عملت ، فلا تحتاج الى شاهد أو حسيب ، فاذا نشرت الصحف وتراءت لنا أيام العمر بسنواتها وشهورها وأسابيعها وأيامها وساعاتها وثوانيها : هنا قصرنا في الصلاة ،وهناك صلينا بلا خشوع ،وفي هذا اليوم اغتبنا فلانة وفلانة ، وفي ذلك اليوم نظرت فيه الى الحرام، أو سمعت الحرام ، فكل المعاصي والذنوب والزلات والهفوات أراها مكتوبة أمامي ماثلة ، لم ينسى منها شيئا، فكم قصرت ؟، وكم أذنبت ؟ وكم غضبت ؟ وهنا أبحث في أوراقي وذاكرتي عن توبة، وعن رجوع ،وعن استغفار ،وعن تلاوة قرآن ،وعن أمر بمعروف ونهي عن منكر. نعم أخي : اعمل ما شئت ، فإياك أن تعتقد أنك لن تلتق بعملك مرة أخرى ، لا ، فسوف يلتصق بك عملك ، وسيلزم كتابك عنقك أينما كنت يوم القيامة ، يوم يفرح المؤمن الصالح بعمله ، و يتحسر المعاند المستكبر أشد الحسرات على تلك الأعمال المشينة المعلقة في عنقه ، ويا له من خجل و أنت تقرأ كتابك بنفسك ، وأنت بنفسك الشاهد على كل أفعالك .
أيها الموحد
وإذا كان الأمر كذلك ، إذن فلا بد من محاسبة النفس ، نعم ، أحاسب جوارحي : أحاسب سمعي ، وأقف عليه رقيبا ، له فلا أطلق له العنان في سماع الحرام ، وأحاسب لساني ، فأقف عنده حسيبا عليه ،أحاسبه ،وأراقبه ، فلا أقول به الا الحق ،والصدق ،واتقي الله ، فلا أتعرض لمخلوق بأي إساءة ،أو كلمة تجرحه وتؤذيه ، فينبغي للعاقل أن يكون له في يوم ساعة يحاسب فيها نفسه ،كما يحاسب الشريك شريكه في شئون الدنيا ، فكيف لا يحاسب الأنسان نفسه في سعادة الأبد ،وشقاوة الابد ،ففي سنن الترمذي (وَيُرْوَى عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ قَالَ حَاسِبُوا أَنْفُسَكُمْ قَبْلَ أَنْ تُحَاسَبُوا وَتَزَيَّنُوا لِلْعَرْضِ الأَكْبَرِ وَإِنَّمَا يَخِفُّ الْحِسَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى مَنْ حَاسَبَ نَفْسَهُ فِى الدُّنْيَا. وَيُرْوَى عَنْ مَيْمُونِ بْنِ مِهْرَانَ قَالَ لاَ يَكُونُ الْعَبْدُ تَقِيًّا حَتَّى يُحَاسِبَ نَفْسَهُ كَمَا يُحَاسِبُ شَرِيكَهُ مِنْ أَيْنَ مَطْعَمُهُ وَمَلْبَسُهُ ).
أقول قولي وأستغفر الله لي ولكم
الخطبة الثانية ( اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا )
الحمد لله رب العالمين . اللهم لك الحمد على نعمة الإسلام والايمان .ولك الحمد أن جعلتنا من أمة محمد عليه الصلاة والسلام. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له . وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
أما بعد أيها المسلمون
وقال الفضيل بن عياض: من حاسب نفسه قبل أن يحاسب : خف في القيامة حسابه ،وحضر عن السؤال جوابه ،وحسن منقلبه ومأبه ، ومن لم يحاسب نفسه : دامت حسراته ،وطالت في عرصات القيامة وقفاته ،وقادته إلى الخزي والمقت سيئاته ،وأكيس الناس من دان نفسه وحاسبها وعاتبها ،وعمل لما بعد الموت ، واشتغل بعيوبه وإصلاحها ، وقال ميمون بن مهران: لا يكون العبد من المتقين ،حتى يحاسب نفسه أشد من محاسبة شريكه . وبداية المحاسبة : أن يقيس العبد ويوازن بين نعم الله عليه :من عافية ،وأمن ،وستر ، وغنى ،وبين ذنوبه ،فحينئذٍ يظهر التفاوت ،فيعلم العبد أن ليس له إلا عفو الله ورحمته ، أو الهلاك ،وبهذه المقايسة والمحاسبة ،يعلم العبد أن الرب رب ، بكرمه وعفوه وجبروته وعظمته ، وأن العبد عبد بذله وضعفه وفقره وعجزه ،وأن كل نعمة من الله فضل ،وكل نقمة منه عدل ، وبهذه المحاسبة يسيء العبد الظن بنفسه ،لأن حسن الظن بالنفس يمنع من كمال الصلاح والتقوى ، فيرى المساوئ محاسن ، والعيوب كمالاً ، وكلما عرف الأنسان ربه حق المعرفة ،عرف أن ما معه من البضاعة والطاعة مهما عظمت وكبرت وزادت لا تساوي شيء ،ولوجاء بعمل الثقلين ،لأنه أمام رب سريع الحساب. فها هو أبوبكر يدخل مزرعة أحد الأنصار ويرى طائر يطير من شجرة إلى أخرى فيتأمل ويقول (هنيئاً لك يا طائر ترد الشجر وتأكل وتشرب وتموت ولا حساب ولا عقاب يا ليتني كنت شعرة في صدر عبدٍ مؤمن.) ، وها هو عمر بن الخطاب يخاطب نفسه كما يقول أنس أني سمعته وبيني وبينه جدار وهو يحاسب نفسه ويقول (عمر بن الخطاب أمير المؤمنين بخ بخ والله لتتقين الله أو ليحاسبنك الله ويكررها ) ، فعلى المؤمن أن يحاسب نفسه ، فالطاعة والفروض رأس المال ،والمعاصي هي الخسائر، والنوافل هي الأرباح ،وليعلم أنّ كل نفس من أنفاس العمر جوهرة نفيسة ،يمكن أن يشتري بها كنز من كنوز الأخرة، يقول إبراهيم التيمي : مثلت لنفس كأني في الجنة أكل من ثمارها ،وأشرب من أنهارها، وأطوف في وديانها ،وأعانق أبكارها ،ثم مثلت لنفسي وكأني في النار ،أكل من زقومها ،وأشرب من حميمها ،وأصيح بين أهلها ،ثم قلت : يا نفس : أي دار تريدين ، فقالت : أعود إلى الدنيا فأعمل صالحاً ، كي أنال الجنة فقلت : يا نفسي : ها أنت في الدنيا فأعملي.
الدعاء