خطبة حول قوله تعالى ( قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى )
سبتمبر 8, 2022خطبة عن: أحل الله الطيبات ( يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ)
سبتمبر 10, 2022الخطبة الأولى ( خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ )
الحمد لله رب العالمين . اللهم لك الحمد على نعمة الإسلام والايمان .ولك الحمد أن جعلتنا من أمة محمد عليه الصلاة والسلام. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له . وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
أما بعد أيها المسلمون
يقول الله تعالى في محكم آياته : (خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ) (4) النحل ،وقال الله تعالى : ( أَوَلَمْ يَرَ الإِنسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ) (77) [يس]
إخوة الإسلام
موعدنا اليوم – إن شاء الله – مع آية من كتاب الله ، نتلوها ، ونتفهم معانيها ، ونسبح في بحار مراميها ، ونعمل -إن شاء الله- بما جاء فيها ، مع قوله تعالى : (خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ) (4) النحل ، فقد جاء في تفسير الطبري : من معاني الآية : (وَمِنْ حُجَجه عَلَيْكُمْ أَيْضًا أَيّهَا النَّاس : أَنَّهُ خَلَقَ الْإِنْسَان مِنْ نُطْفَة , فَأَحْدَثَ مِنْ مَاء مَهِين خَلْقًا عَجِيبًا , قَلَبَهُ تَارَات خَلْقًا بَعْد خَلْق فِي ظُلُمَات ثَلَاث , ثُمَّ أَخْرَجَهُ إِلَى ضِيَاء الدُّنْيَا ،بَعْدَمَا تَمَّ خَلْقه وَنَفَخَ فِيهِ الرُّوح , فَغَذَّاهُ ،وَرَزَقَهُ الْقُوت وَنَمَّاهُ , حَتَّى إِذَا اِسْتَوَى عَلَى سُوقه ،كَفَرَ بِنِعْمَةِ رَبّه ،وَجَحَدَ مُدَبِّره ،وَعَبَدَ مَنْ لَا يَضُرّ وَلَا يَنْفَع ،وَخَاصَمَ إِلَهه فَقَالَ :{ مَنْ يُحْيِي الْعِظَام وَهِيَ رَمِيم }، وَنَسِيَ الَّذِي خَلَقَهُ فَسَوَّاهُ خَلْقًا سَوِيًّا مِنْ مَاء مَهِين . وَيَعْنِي بِالْمُبِينِ : أَنَّهُ يُبِين عَنْ خُصُومَته بِمَنْطِقِهِ وَيُجَادِل بِلِسَانِهِ , فَذَلِكَ إِبَانَته .
فالله تبارك وتعالى خلق الإنسان في أحسن تقويم، وخَلقُ الإنسان لهو من أعظم الدلائل على خالقه وفاطره ، ففي خلق الإنسان من العجائب الدالة على عظمة الله وقدرته ما تنقضي الأعمار في الوقوف على بعضه، وتعجز العقول عن إدراك كنهه، وتعجز الألسنة عن وصفه قال الله تعالى : {فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ مِمَّ خُلِقَ (5) خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ (6) يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ (7) إِنَّهُ عَلَى رَجْعِهِ لَقَادِرٌ} [الطارق: 5 – 8]. ، وقد أمرنا الله عزَّ وجلَّ بالنظر والتفكر في خلق الإنسان، نظر اعتبار وتفكر، وتأمل وتدبر، كما قال الله سبحانه: {وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ} [الذاريات: 21]. ، ولو فكر الإنسان في نفسه لزجره ما يعلم من عجائب خلقها عن كفره كما قال الله سبحانه: {قُتِلَ الْإِنْسَانُ مَا أَكْفَرَهُ (17) مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ (18) ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ (20) ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ (21) ثُمَّ إِذَا شَاءَ أَنْشَرَهُ} [عبس: 17 – 22].
إن خلق الإنسان بهذا التكوين العجيب، وبهذه الخصائص الفريدة، وبهذه الوظائف اللطيفة المتنوعة الكثيرة، لآيات تدهش العقول، وتحير الألباب، ولكننا نسيناها لطول تكرارها، ولقربها منا، وإلفنا لها، فالتركيب العضوي لجارحة واحدة من جوارح الإنسان مسألة تدير الرأس عجباً ودهشة وعبرة ، فهو في تركيبه النفسي أشد تركباً وتعقداً من تركيبه العضوي: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ} [ق: 16].، فهذا الإنسان هو العجيبة الكبرى في هذه الأرض كما قال سبحانه: {وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ} [الذاريات: 21]. ، ولكن الانسان يغفل عن قيمته، وعن أسراره الكامنة في كيانه، حين يغفل قلبه عن الإيمان، وحين يحرم نعمة اليقين، فآيات الرب تبارك وتعالى في خلقه ومخلوقاته تبصرة وذكرى، يتبصر بها من عمى القلب، ويتذكر بها من غفلته، فيعظم من خلقه، فالمضاد للعلم، إما عمى القلب، وزواله بالتبصر، وإما غفلته، وزواله بالتذكر. وليكن معلوما لدينا ، أن أعظم وأفضل ما أنفقت فيه الأنفاس .. التفكر في آيات الله .. وعجائب صنعه .. والانتقال منها إلى تعلق القلب بالله .. وتعظيمه وتوقيره سبحانه دون شيء من مخلوقاته بتوحيده والإيمان به .. وطاعته، وعبادته، وحيثما وقف الإنسان يتأمل عجائب نفسه، التقى بأسرار تدهش وتحير، ففي خلق أعضائه وتوزيعها، وأشكالها ووظائفها، وفي كل عضو من أعضائه، بل في كل جزء من عضو، خارقة تحير الألباب، لو كانت هناك عقول، فسبب الخسران في الدنيا والآخرة هو عدم التفكر في خلق الله ، وإعمال الفكر فيما يفنى، والجهد في غير محله، والجلوس على موائد الشيطان، والإعراض عن موائد الرحمن، والرابح حقاً : من حجز المقاعد كلها للدين، الفكر واللسان، والسمع والبصر، والقلب والعقل، والروح والبدن، وبقية الجوارح . فسبحان من جمع هذه الخلائق في قطرة ماء مهين ضعيف مستقذر، لو مرت بها ساعة من الزمان فسدت وأنتنت، وتأمل كيف استخرجها الرب العليم القدير من بين الصلب والترائب، منقادة لقدرته، مطيعة لمشيئته، مع ضيق طرقها، واختلاف مجاريها، إلى أن ساقها إلى مستقرها في الرحم؟ ، وتأمل كيف جمع الله عزَّ وجلَّ بين الذكر والأنثى، وألقى المحبة بينهما، وكيف قادهما بسلسلة الشهوة والمحبة إلى الاجتماع، الذي هو سبب تخليق الولد وتكوينه؟. وكيف قدر سبحانه اجتماع ماء الرجل وماء المرأة، وساقهما من أعماق العروق والأعضاء، وجمعهما في موضع واحد، جعله الله لهما قراراً مكيناً ينشأ فيه الولد؟.
أيها المسلمون
إن الإنسان مخلوق غريبُ الشأن ، عجيبُ الأطوار، وينطوي على كثير من الصفات التي هي من أصلِ خِلقته وفِطرتِه، ومعرفتُها تفسر كثيرا من ظواهر سلوكِه، ولا ريب أن أعلم من يحدِّث عن الإنسان ويُخبر عن ظاهرِه وباطنه، هو خالقه، وقد ذَكر القرآن للإنسان بعضَ الطبائع والصفات الذاتية، هذه جُملتها : أولا : أن الإنسان – من حيث المبدأ – مِن أكرم مخلوقات الله وأفضلِها، قال الله تعالى : (وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَم) ، وقال الله تعالى : (وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَىٰ كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا) ، وهو أيضا مِن جهة التصْوِير والتكْوينِ أحسنُ وأجملُ مخلوق، قال الله تعالى : (لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ). والانسان دائما مُعَرَّض للعناء والمشقة في هذه الدنيا، لا يَنفَكُّ عنها مهما أحاط نفسَه من أسباب الراحة والسعادة، قال الله تعالى : (لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي كَبَد) ، وهو بطبيعته (كَنود)، أي: كَفور للنعم جَحود لها، قال الله تعالى : (إِنَّ الْإِنْسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ)، وقال الله تعالى : ( إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَشْكُرُونَ)، قال الله تعالى : (وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ)، قال الله تعالى : (وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ) ، والانسان كلما زادت نعمُه زاد طغيانُه، قال الله تعالى : (كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَىٰ أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَىٰ) ، وهو مع ذلك ضعيف مسكين، قال الله تعالى : (وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا) ، والانسان كثير الحُجج والجِدال، قال الله تعالى : (وَكَانَ الْإِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا)، وقال الله تعالى : (أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ) ، وهو عَجول غيرُ مُتّئد ولا مُتأن، قال الله تعالى : (وَكَانَ الْإِنْسَانُ عَجُولًا)، وقال الله تعالى : (خُلِقَ الْإِنْسَانُ مِنْ عَجَلِ) ، وهو شحيح قَتور، قال الله تعالى : (وَكَانَ الْإِنْسَانُ قَتُورًا)، وقال الله تعالى : (وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ) ، وهو متناقض هَلُوع قال الله تعالى : (إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا، وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا) ، وهو يؤوس قَنوط، قال الله تعالى : (وَإِنْ مَسَّهُ الشَّرُّ فَيَئُوسٌ قَنُوطٌ)، وقال الله تعالى : (وَلَئِنْ أَذَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْنَاهَا مِنْهُ إِنَّهُ لَيَئُوسٌ كَفُورٌ) ، والانسان يحب الخير ويجزع عند الشر، قال الله تعالى : (وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ)، وقال الله تعالى : (وإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا) ، وهو ظلوم كفار جهول قال الله تعالى : (إِنَّ الْإِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ)، وقال الله تعالى : (قُتِلَ الْإِنْسَانُ مَا أَكْفَرَهُ)، وقال الله تعالى : (إِنَّ الْإِنْسَانَ لَكَفُورٌ مُبِينٌ). وقال الله تعالى : (..وَحَمَلَهَا الْإِنْسَان إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا) ، والانسان يؤوب ويَخضع عند الضرر، ويَفرحُ ويَمْرُق عند الخير، قال الله تعالى : (وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الْإِنْسَانِ أَعْرَضَ وَنَأَىٰ بِجَانِبِه، وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ فَذُو دُعَاءٍ عَرِيضٍ)، وقال الله تعالى : (وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنْبِهِ أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَائِمًا، فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنَا إِلَى ضُرٍّ مَسَّهُ) ، والاستقامة والصلاح في جنسه القليل، قال الله تعالى : (وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ)، وقال الله تعالى : (قُتِلَ الْإِنْسَانُ مَا أَكْفَرَه)، وقال الله تعالى : (وَمَا وَجَدْنَا لِأَكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْد وَإِنْ وَجَدْنَا أَكْثَرَهُمْ لَفَاسِقِينَ)، وقال الله تعالى : (لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلَىٰ أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ) ، والكمالُ ورَجاحة العقل فيه أيضا قليل، قال الله تعالى : (بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ) ، والانسان يعلم من نفسه هذه الحقائق وغيرَها، ولكنه يَتَجاهلها، قال الله تعالى : (بَلِ الْإِنْسَانُ عَلَىٰ نَفْسِهِ بَصِيرَة، وَلَوْ أَلْقَىٰ مَعَاذِيرَهُ).
أقول قولي وأستغفر الله لي ولكم
الخطبة الثانية ( خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ )
الحمد لله رب العالمين . اللهم لك الحمد على نعمة الإسلام والايمان .ولك الحمد أن جعلتنا من أمة محمد عليه الصلاة والسلام. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له . وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
أما بعد أيها المسلمون
كان من الواجب على الانسان أن يشعر بالرهبة والخشية فيخشع لمن خَلَقَهُ فسوَّاه وعدله، وأكرمه ونعَّمه، ولكن غالب الناس تعمى أبصارهم وتنحرف عقولهم، فلا يرون الصراط المستقيم، ولا يستقر لسان ميزان عقولهم على الحق القويم، فيسلكون مسلك عدوهم “الشيطان” وأتباعه فيؤثرون التقليد المردي على الدليل الهادي والبرهان، فإذا هذا الإنسان الضعيف الذي مرَّ بتلك الأطوار عبر السنين، ينصب من نفسه عدواً لرب العالمين، مشاقَّاً له في صف عدوه المبين: {إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوّاً إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ} (6) [فاطر]، وكان من الواجب على الانسان أن يستخدم فكره وعقله في طاعة ربه الذي خلقه ، والمتفضل عليه بنعمه ، قال القرطبي رحمه الله: “يروى أن أعرابياً كان يسير على جمل له فخر الجمل ميتاً، فنزل الأعرابي عنه وجعل يطوف به ويتفكر فيه ويقول: مالك لا تقوم؟ مالك لا تنبعث؟! هذه أعضاؤك كاملة وجوارحك سالمة. ما شأنك؟! ما الذي كان يحملك؟! ما الذي كان يبعثك؟! ما الذي صرعك؟! ما الذي عن الحركة منعك؟! ثم تركه وانصرف متفكراً في شأنه. متعجباً من أمره”. [التذكرة في أحوال الموتى والآخرة.] فهذا التعجب من الأعرابي يدل على أن الموت يدعو الإنسان إلى التفكر فيه، حيث ترى هذا الجسم ـ أيَّ جسم من أجسام المخلوقات ذوات الأرواح ـ يتحرك ويأكل ويشرب، ويؤدي ما هو مؤهل له بحسب قدرته التي وهبه الخالق ـ مهما كبر أو صغر ، فالعقلاء يجب عليهم التفكُّر ، ولا يغفلون عن ذكر خالقهم .
الدعاء