خطبة عن (من وصايا النبي)
أكتوبر 26, 2019خطبة عن قوله تعالى (وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا)
أكتوبر 26, 2019الخطبة الأولى ( رَبَّنَا إِنَّكَ تَعْلَمُ مَا نُخْفِي وَمَا نُعْلِنُ )
الحمد لله رب العالمين . اللهم لك الحمد على نعمة الإسلام والايمان .ولك الحمد أن جعلتنا من أمة محمد عليه الصلاة والسلام. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له . وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
أما بعد أيها المسلمون
يقول الله تعالى في محكم آياته :( رَبَّنَا إِنَّكَ تَعْلَمُ مَا نُخْفِي وَمَا نُعْلِنُ وَمَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ) (38) ابراهيم
إخوة الإسلام
القرآن الكريم : هو حبل الله المتين ، وهو الذكر الحكيم ،والصراط المستقيم ،من عمل به أجر، ومن حكم به عدل ،ومن دعا إليه هدى إلى صراط مستقيم .ولقد دعا الله عز وجل عباده إلى تدبر القرآن ، فقال الله تعالى : {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آَيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ} [ص: 29]،وفي نفس الوقت ،فقد أنكر الله على من أعرض عن تدبر القرآن ، فقال الله تعالى : {أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ أَمْ جَاءَهُمْ مَا لَمْ يَأْتِ آَبَاءَهُمُ الْأَوَّلِينَ} [المؤمنون: 68]، واليوم إن شاء الله موعدنا مع آيات من كتاب الله ، نتدبرها ، ونسبح في بحار معانيها ، ونرتشف من رحيقها المختوم ، مع قوله تعالى : (رَبَّنَا إِنَّكَ تَعْلَمُ مَا نُخْفِي وَمَا نُعْلِنُ وَمَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ) (38) ابراهيم ، يقول الطبري في تفسيرها : هذا خبر من الله تعالى ذكره عن استشهاد خليله إبراهيم إياه على ما نوى وقصد بدعائه ،وأنه إنما قصد بذلك رضا الله عنه في محبته أن يكون ولده من أهل الطاعة لله ، وإخلاص العبادة له على مثل الذي هو له ، فقال : ربنا إنك تعلم ما تخفي قلوبنا عند مسألتنا ما نسألك ، وفي غير ذلك من أحوالنا ، وما نعلن من دعائنا ، فنجهر به وغير ذلك من أعمالنا ، وما يخفى عليك يا ربنا من شيء يكون في الأرض ولا في السماء ، لأن ذلك كله ظاهر لك متجل باد ، لأنك مدبره وخالقه ، فكيف يخفى عليك . وفي الوسيط لطنطاوي يقول في تفسيرها : أي : يا ربنا :إنك وحدك العليم بما تخفيه نفوسنا من أسرار؛ وما تعلنه وتظهره من أقوال ، لأن الظاهر والمضمر بالنسبة إليك سواء ، فأنت يا إلهى لا يخفى عليك شيء من الأشياء ، سواء أكان هذا الشى في الأرض أم في السماء أم في غيرهما ،وإنما ذكر السماء والأرض لأنهما المشاهدتان للناس ، وإلا فعلمه – سبحانه – محيط بكل ما في هذا الكون .فمُراقَبة العبد لربِّه هي دَوام عِلم العَبد وتيقُّنه باطِّلاع الله – تعالى – على سِرِّه وعلانِيَتِه، وأنَّه – سبحانه – ناظِرٌ إليه في شَتَّى حالاته؛ قال الله تعالى : ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا ﴾ [النساء: 1]. ومتى عقل المرء هذا الأمرَ واستَيْقَنه قلبُه، واستَحضَر موقفَه غَدًا بين يدي ربِّه، كان باعثًا له على الإكثار من الطاعات، ومُجانَبة المُنكَرات وأنواع المُخالَفات، وقُرب التَّوبة من السيِّئات، والاشتِغال بعمارة وَقتِه بأنواع الصالحات؛ خشيةً من الفَوْتِ، وحذَرًا من مُفاجَأة الموت.
أيها الموحد
فاعلم أخي المسلم أنك إذا خلوت ساعة أو لحظة أن الله معك ، فلا تجعله سبحانه أهون الناظرين إليك ، فإن فعلت فقد ارتكبت أمراً عظيماً ، وخطراً جسيماً ، وجرماً كبيراً ، وإذا ظننت أن الله لا يراك فذلك هو الكفر والعياذ بالله ، لأنك عطلت صفات عظيمة من صفات الله تعالى ، جاء ذكرها في كتاب الله ،وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ، وأجمع عليها العلماء قاطبة ، وهي أن الله سبحانه (سميع بصير) .فهو سبحانه وتعالى ( سميع ) : أي متصف بالسمع ، يسمع جميع الأصوات ، على تفنن الحاجات واختلاف اللغات ، فلو أن الناس كلهم من أولهم إلى آخرهم قاموا في صعيد واحد ، كلهم من زمن آدم إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها ، وسألوا الله وتكلموا جميعاً في لحظة واحدة ، لسمعهم جميعاً دون أن يختلط عليه صوت بصوت ، أو لغة بلغة ، أو حاجة بحاجة ، فيسمع سبحانه الجميع ، مع أن لغاتهم مختلفة ، وحاجاتهم متباينة ، وأصواتهم متغايرة ، وهو سبحانه وتعالى ( بصير) : أي متصف بالبصر ، فيرى سبحانه كل شيء من فوق سبع سماوات ، يرى دبيب النملة السوداء ، على الصخرة الصماء ، في الليلة الظلماء ، ولأن المسلم يؤمن بهذه الصفة وغيرها من صفات الله تعالى ، فإن ذلك ولا ريب سيؤثر على سلوكه وعمله ، ولذا فقد أوصى النبيُّ – صلَّى الله عليه وسلَّم – بهذا المقام جماعةً من الصحابة – رضِي الله عنهم – ففي مسند أحمد : (عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ قَالَ أَخَذَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- بِبَعْضِ جَسَدِي فَقَالَ :« اعْبُدِ اللَّهَ كَأَنَّكَ تَرَاهُ وَكُنْ فِي الدُّنْيَا كَأَنَّكَ غَرِيبٌ أَوْ عَابِرُ سَبِيلٍ » ، وقال رجلٌ للنبي – صلَّى الله عليه وسلَّم -: حدِّثني بحديثٍ واجعَلْه مُوجَزًا، فقال – صلَّى الله عليه وسلَّم : (صَلِّ صلاة مُودِّع؛ فإنَّك إنْ كنتَ لا تَراه، فإنَّه يَراك) رواه الطبراني . ويَكفِي في ذلك قولُ الحق تبارك وتعالى : ﴿ وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ وَلَا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ وَلَا أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرَ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ ﴾ [يونس: 61].
أيها المسلمون
إذا أيقن العبد أن الله مطلع على سائر أحواله ، ولا يخفى عليه شيء من حاله ، ويعلم سريرته كما يعلم علانيته ، ولا يحجزه ساتر أو مانع من رؤيته ،مهما استخفى عنه ، أوجب له ذلك مراقبة الله في السر ، وخشيته كمال الخشية ،كما فعل نبي الله يوسف (عليه السلام) حين راودته امرأة العزيز في كمال غناها وجمالها ،وهو غلام عندها ،وفي سن الشهوة ، وخلوتهما محكمة بلا رقيب ،وهو تحت الوعيد والتهديد ،فامتنع ،وعصمه الله من الفاحشة، مع كثرة الدواعي والمهيجات ، وما كان ذلك إلا لشدة مراقبته لله تعالى، وقوة يقينه باطلاع الله عله ، قال الله تعالى: (وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَنْ نَفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الْأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ) يوسف 23. ، ومراقبة الله في السر توجب للعبد الإخلاص ،والخلاص من الكبائر ، كما ورد في الحديث: (وَرَجُلٌ دَعَتْهُ امْرَأَةٌ ذَاتُ مَنْصِبٍ وَجَمَالٍ فَقَالَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ). متفق عليه. ومراقبة الله في السر توجب للعبد النصح في العبادة كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « إِذَا قَامَ أَحَدُكُمْ إِلَى الصَّلاَةِ فَلاَ يَبْصُقْ أَمَامَهُ ، فَإِنَّمَا يُنَاجِى اللَّهَ مَا دَامَ فِي مُصَلاَّهُ ، وَلاَ عَنْ يَمِينِهِ ، فَإِنَّ عَنْ يَمِينِهِ مَلَكًا ، وَلْيَبْصُقْ عَنْ يَسَارِهِ أَوْ تَحْتَ قَدَمِهِ ، فَيَدْفِنُهَا ». متفق عليه.
أقول قولي وأستغفر الله لي ولكم
الخطبة الثانية ( رَبَّنَا إِنَّكَ تَعْلَمُ مَا نُخْفِي وَمَا نُعْلِنُ )
الحمد لله رب العالمين . اللهم لك الحمد على نعمة الإسلام والايمان .ولك الحمد أن جعلتنا من أمة محمد عليه الصلاة والسلام. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له . وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
أما بعد أيها المسلمون
ومراقبة الله في السر تورث القلب خشية وخشوعا وبكاء كما في الحديث :«وَرَجُلٌ ذَكَرَ اللَّهَ خَالِيًا فَفَاضَتْ عَيْنَاهُ » ومن قدر على معصية الله في سره ،ثم راقب الله فتركها خوفا من الله ، فله ثواب عظيم، وينفرج همه ،وينفس كربه ،كما في قصة صاحب الغار ،الذي خلا بابنة عمه ،وتمكن منها، ثم قالت له : اتق الله ،ولا تفض الخاتم إلا بحقه، فقام وتركها ،وترك المال الذي أرادته ، خوفا من الله تعالى ، فانفرج الغار لعمله. ومن راقب الله في السر : حسن عمله ،وعظم يقينه ،ووجد حلاوة الإيمان ،واطمأن قلبه، وقذف الله نورا في قلبه ،وضياء في وجهه ،ووجد سعة في رزقه ،وبركة في أهله ،وألفة ومحبة فيما بينه وبين الخلق ،وانعكس ذلك على حياته ،بالتوفيق والرضا والسعادة. وعبادة السر من أجل الطاعات ،لأنها مبنية على حسن المراقبة لله ،والإخلاص المحض، واليقين التام ،وعدم التفات القلب للمخلوقين ،وثوابهم ،ولذلك أثنى الله عز وجل على صدقة السر فقال الله تعالى : (إِن تُبْدُواْ الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِي وَإِن تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاء فَهُوَ خَيْرٌ لُّكُمْ وَيُكَفِّرُ عَنكُم مِّن سَيِّئَاتِكُمْ وَاللّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ) البقرة 271.وكان أيوب السختياني يقوم الليل كله ويخفي ذلك فإذا كان عند الصبح رفع صوته كأنه قام تلك الساعة. وقال محمد بن واسع: (لقد أدركت رجالا كان الرجل يكون رأسه مع رأس امرأته على وسادة واحدة قد بل ما تحت خده من دموعه لا تشعر به امرأته ،ولقد أدركت رجالا يقوم أحدهم في الصف فتسيل دموعه على خده ولا يشعر به الذي إلى جانبه).
الدعاء