خطبة عن (ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ)
ديسمبر 26, 2024خطبة عن (إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً)
ديسمبر 29, 2024الخطبة الأولى ( وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ )
الحمد لله رب العالمين . اللهم لك الحمد على نعمة الإسلام والايمان .ولك الحمد أن جعلتنا من أمة محمد عليه الصلاة والسلام. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له . وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
أما بعد أيها المسلمون
يقول الله تعالى في محكم آياته : (وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ أَيْنَ مَا تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعًا إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) (148) البقرة
إخوة الإسلام
لقاؤنا اليوم -إن شاء الله تعالى- مع مائدة القرآن الكريم ،نتلو هذه الآية الكريمة ،ونتدبرها ، ونتفهم معانيها، ونخوض في بحار مراميها ،ونجمع من لآلئها، ونرتشف من رحيقها المختوم ،مع قوله تعالى : (وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ أَيْنَ مَا تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعًا إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) (148) البقرة ، فقد جاء في التفسير الميسر : ولكل أمة من الأمم قبلة يتوجَّه إليها كل واحد منها في صلاته، فبادروا – أيها المؤمنون- متسابقين إلى فِعْل الأعمال الصالحة التي شرعها الله لكم في دين الإسلام. وسيجمعكم الله جميعا يوم القيامة من أي موضع كنتم فيه. إن الله على كل شيء قدير، وجاء في تفسير الطبري حول هذه الآية : فلليهوديّ وجهة هو موليها، وللنصراني وجهة هو موليها, وهداكم الله عز وجل أنتم أيها الأمَّة للقِبلة التي هي قبلة ” فاستبقوا الخيرات “، أي: قد بيّنت لكم أيها المؤمنون الحقَّ، وهديتكم للقِبلة التي ضلَّت عنها اليهود والنصارى وسائرُ أهل الملل غيركم, فبادروا بالأعمال الصالحة، شكرًا لربكم, وتزوَّدوا في دنياكم لآخرتكم، فإني قد بيّنت لكم سبُل النجاة، فلا عذر لكم في التفريط, وحافظوا على قبلتكم, فلا تضيِّعوها كما ضَيَّعتها الأمم قبلكم، فتضلُّوا كما ضلت؛ فاستبقوا أيها المؤمنون إلى العمل بطاعة ربكم, ولزوم ما هداكم له من قبلة إبراهيم خليله وشرائع دينه, فإن الله تعالى ذكره يأتي بكم وبمن خالفَ قبلكم ودينكم وشريعتكم جميعًا يوم القيامة، من حيث كنتُم من بقاع الأرض, حتى يوفِّيَ المحسنَ منكم جزاءه بإحسانه، والمسيء عقابه بإساءته, أو يتفضّل فيصفح ،ويقول السعدى : لكل أهل دين وملة وجهة يتوجه إليها في عبادته، وليس الشأن في استقبال القبلة, فإنه من الشرائع التي تتغير بها الأزمنة والأحوال, ويدخلها النسخ والنقل, من جهة إلى جهة، ولكن الشأن كل الشأن, في امتثال طاعة الله, والتقرب إليه, وطلب الزلفى عنده، فهذا هو عنوان السعادة ومنشور الولاية، وهو الذي إذا لم تتصف به النفوس, حصلت لها خسارة الدنيا والآخرة، كما أنها إذا اتصفت به فهي الرابحة على الحقيقة, وهذا أمر متفق عليه في جميع الشرائع, وهو الذي خلق الله له الخلق, وأمرهم به. والأمر بالاستباق إلى الخيرات قدر زائد على الأمر بفعل الخيرات، فإن الاستباق إليها, يتضمن فعلها, وتكميلها, وإيقاعها على أكمل الأحوال, والمبادرة إليها، ومن سبق في الدنيا إلى الخيرات, فهو السابق في الآخرة إلى الجنات, فالسابقون أعلى الخلق درجة، والخيرات تشمل جميع الفرائض والنوافل, من صلاة, وصيام, وزكوات وحج, عمرة, وجهاد, ونفع متعد وقاصر. ولما كان أقوى ما يحث النفوس على المسارعة إلى الخير, وينشطها, ما رتب الله عليها من الثواب
أيها المسلمون
والمتأمل والمتدبر لقوله تعالى : (وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ أَيْنَ مَا تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعًا إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) (148) البقرة ، فمن الممكن أن نفهم من هذه الآية حقيقة مهمة من الحقائق التي قد تغيب عن كثير من الناس، وهذه الحقيقة تتمثل في أن لكل إنسان أيضا وجهة في هذه الحياة، فعلى الإنسان أن يدرس ملكاته، وما الذي يمكن أن يقدمه لله وللشريعة، فمثلا: إنسان آتاه الله القدرة على استيعاب علوم الدين، فلماذا لا يفكر الأب -عندما يرى في ولده بادرة طيبة، وقابلية علمية، وسلامة نفسية- في أن ينصر دين الله عز وجل من خلال هذا الولد، وفي أن يجعل وجهته في الحياة هذه الوجهة ،وآخر آتاه الله سعة من المال ، فليحاول أن يخدم الشريعة، أو يجعل وجهته وسبيله إلى الله عز وجل من خلال ما آتاه الله عز وجل من هذا المال، وهكذا ،فلينظر الإنسان ما هي الوجهات والملكات التي جعله الله تعالى متميزا فيها ،وليحاول أن يخدم الإسلام من تلك الزاوية، فالطريق واحد، وإن تعددت السبل ، ومَن أمكنه أن ينصر الإسلام بعلمه فليفعل ، ومن أمكنه أن ينصر الاسلام بلسانه فليفعل ، فلكل انسان وجهة قد تختلف أيضا فاختلاف النفوس وخصائصها ، فإنَّ الناس ليسوا نسخةً واحدة مُكرَّرة مُتماثلة في ملامح النفس ومشابه البدن، وحقيقة الإنسان ليست هي بدنه الذي يؤمر فيأتمر، ويساق فيتحرك ويسخر فيلزم ما يُملى عليه أو يرسم له، بل هي المزاج المعنوي الذي يجمع اتجاهات الطبع، والغرائز والعاطفة، والفكر في نسق واحد أو كيان نفساني واحد يطبع سلوك صاحبه بطابعه الخاص، ويرسم له أذهان الناس شخصية مُتميِّزة عما سواها، فلا جرم أن يكون لكل امرئ خطه الذي لا يشاركه فيه أحد، ووجهته التي يتميز بها من دون الناس ، وهذا كله هو من معاني قوله سبحانه: [وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا] {البقرة :148}.
والحق سبحانه لا يريد بهذا القول الكريم مجرد التقرير والخبر وإفادة المعنى، بل يريد النص على سنة باقية، وقانون أصيل من قوانين صلاح الفرد والمجتمع ، وأولها : يريد النص على أن لكل إنسان شخصيته المستقلة، فإذا هو حافظ على هذا الاستقلال، ودعم أصوله وزكَّى فروعه، وعاش في نطاق ذاتيته الخاصَّة، فقد مضى على سنَّة الله إذ أراده أمة وحده،فإذا هو لم يعرف لنفسه حقَّها، ومضى يُقَلِّد بعضَ ذوي الشهرة في حركاتهم، وأصواتهم ومَظَاهرهم، وطريقة أدائهم للأعمال، أو راح على غير سَجيَّتِه يتكلَّف الأمور ويرائي الناس في تصرفاته ، فقد جانب سنة رسول الله صلى الله عليه وسلَّم، وأهدر شخصيته، وغيَّر خلق الله الذي آثره به، ثانيا : ويريد سبحانه أن يُقرِّر حقَّ حرية الرأي لكل إنسان…فلكل إنسان وجهة ينظر إلى الحياة من زاويتها، ولذلك خلقنا الله سبحانه مُتفاوتين في طبيعة التفكير، وجعل لكل منا زاويته الخاصَّة التي يَنْظر إلى الحياة من عندها ، وليس معنى حرية التفكير أنَّ الإنسان حرٌّ في تَنشيط مواهبه العقليَّة وعدم تنشيطها، فإن شاء فكَّر وشحذ ذهنه، وإن شاء تجاهل كل ما حوله، وترك ذهنه كاسداً معطلاً .. لا، فإنَّ لكلِّ مَوهِبة وهبها لنا الله سبحانه حقاً علينا، هو تَنْشيطها، واستعمالها فيما خُلقت له، وذلك من صَميم شكر الله، لهذا نرى الآية الكريمة تُقرِّر الشروط، وتضع القيود التي تنفي عنها شر تلك المبادئ، وتكفل خيرها وبرها، وذلك إذ يقول سبحانه: (فَاسْتَبِقُوا الخَيْرَاتِ أَيْنَ مَا تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللهُ جَمِيعًا إِنَّ اللهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) {البقرة:148} . وإذا كان لكل إنسان وجهته الخاصة، فيجب أن تكون لتلك الوجهة غاية معينة تُنظِّم سيرها، وتحكم أمرها… ولا نستطيع أن نتصور اتجاهاً للمرء ليس له غاية مقصودة أو غرض منشود
والإسلام الحنيف يسنُّ لنا ـ في هذه الآية ـ مناهج السرعة، ويقرر أنَّ الحياة إن هي إلا مضمار لتحصيل الخير لا يظفر فيه إلا أهل السبق والتشمير ،ونحن نقرأ قول الله سبحانه: [سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ] {الحديد:21} ،وقوله تعالى : [وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ] {آل عمران:133} .
أقول قولي وأستغفر الله لي ولكم
الخطبة الثانية ( وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ )
الحمد لله رب العالمين . اللهم لك الحمد على نعمة الإسلام والايمان .ولك الحمد أن جعلتنا من أمة محمد عليه الصلاة والسلام. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له . وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
أما بعد أيها المسلمون
والمتدبر لقوله تعالى : (فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ) يتبين له أن المعنى : أَيْ : ابْتَدِرُوا كُلَّ نَوْعٍ مِنْ أَنْوَاعِ الْخَيْرِ بِالْعَمَلِ، وَلْيَحْرِصْ كُلٌّ مِنْكُمْ عَلَى سَبْقِ غَيْرِهِ إِلَيْهِ ،فالمراد من الاستباق هنا المعنى المجازي وهو الحرص على مصادفة الخير والإكثار منه ،والمراد عموم الخيرات كلها فإن المبادرة إلى الخير محمودة ومن ذلك المبادرة بالتوبة خشية هادم اللذات وفجأة الفوات قال تعالى ):وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ) [آل عمران:133] ، وقوله تعالى :(وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ) [الواقعة:10-12] ،ومن ذلك فضيلة السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار قال تعالى: (لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا) [الحديد:10] ،وقال موسى: (وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى) [طه:84] ، قال ابن القيم:” إن الله تعالى يحب المبادرة أو المسارعة إلى خدمته والتنافس فيها، فإن ذلك أبلغ في العبودية، فإن الملوك تحب المسارعة والمنافسة في طاعتها وخدمتها فالإيثار بذلك مناف لمقصود العبودية فإن الله سبحانه أمر عبده بهذه القربة أما إيجاباً وأما استحباباً فإذا أثر بها ترك ما أمره وولاه غيره بخلاف ما إذا فعل ما أمر به طاعة وقربة ثم أرسل ثوابه إلى أخيه المسلم) ،وقد كان الصحابة يسابق بعضهم بعضا بالقرب ولا يؤثر الرجل منهم غيره بها ،قال عمر:” والله ما سابقني أبو بكر إلى خير إلا سبقني إليه حتى قال والله لا أسابقك إلى خير أبدا “، وقد حثنا ورغبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في أحاديث كثيرة ومتعددة في الاستباق إلى فعل الخيرات ، ففي صحيح مسلم : (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ : « بَادِرُوا بِالأَعْمَالِ فِتَنًا كَقِطَعِ اللَّيْلِ الْمُظْلِمِ يُصْبِحُ الرَّجُلُ مُؤْمِنًا وَيُمْسِى كَافِرًا أَوْ يُمْسِى مُؤْمِنًا وَيُصْبِحُ كَافِرًا يَبِيعُ دِينَهُ بِعَرَضٍ مِنَ الدُّنْيَا» ،قال النووي: “مَعْنَى الْحَدِيث الْحَثّ عَلَى الْمُبَادَرَة إِلَى الْأَعْمَال الصَّالِحَة قَبْل تَعَذُّرهَا وَالِاشْتِغَال عَنْهَا بِمَا يَحْدُث مِنْ الْفِتَن الشَّاغِلَة الْمُتَكَاثِرَة الْمُتَرَاكِمَة كَتَرَاكُمِ ظَلام اللَّيْل الْمُظْلِم لَا الْمُقْمِر؛ وَوَصَفَ r نَوْعًا مِنْ شَدَائِد تِلْك الْفِتَن ، وَهُوَ أَنَّهُ يُمْسِي مُؤْمِنًا ثُمَّ يُصْبِح كَافِرًا أَوْ عَكْسه، شَكَّ الرَّاوِي وَهَذَا لِعِظَمِ الْفِتَن يَنْقَلِب الْإِنْسَان فِي الْيَوْم الْوَاحِد هَذَا الِانْقِلاب؛ ” ، وفي سنن ابن ماجة : (عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ،عَنِ الْفَضْلِ ،أَوْ أَحَدِهِمَا عَنِ الآخَرِ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم :« مَنْ أَرَادَ الْحَجَّ ، فَلْيَتَعَجَّلْ ، فَإِنَّهُ قَدْ يَمْرَضُ الْمَرِيضُ ،وَتَضِلُّ الضَّالَّةُ ، وَتَعْرِضُ الْحَاجَةُ» ، وفي الصحيحين : (عن أَبي هُرَيْرَة رضي الله عنه، قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ أَيُّ الصَّدَقَةِ أَعْظَمُ أَجْرًا قَالَ :«أَنْ تَصَدَّقَ وَأَنْتَ صَحِيحٌ شَحِيحٌ تَخْشَى الْفَقْرَ وَتَأْمُلُ الْغِنَى، وَلاَ تُمْهِلُ حَتَّى إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ قُلْتَ لِفُلاَنٍ كَذَا وَلِفُلاَنٍ كَذَا وَقَدْ كَانَ لِفُلاَنٍ» ، قال ابن حجر: “وذلك أن كثيرا من الأغنياء يشح بإخراج ما عنده ما دام في عافية فيأمل البقاء ويخشى الفقر فمن خالف شيطانه وقهر نفسه إيثارا لثواب الآخرة فاز ومن بخل بذلك لم يأمن الجور في الوصية وان سلم لم يأمن تأخير تنجيز ما أوصى به أو تركه أو غير ذلك من الآفات ولاسيما إن خلف وارثاً غير موفق فيبذره في أسرع وقت ويبقى وباله على الذي جمعه والله المستعان”
الدعاء