خطبة عن قوله تعالى (نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ)
فبراير 23, 2019خطبة مع قوله تعالى (كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ)
فبراير 23, 2019الخطبة الأولى ( لاَ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مَنْ لاَ يَأْمَنُ جَارُهُ بَوَائِقَهُ )
الحمد لله رب العالمين . اللهم لك الحمد على نعمة الإسلام والايمان .ولك الحمد أن جعلتنا من أمة محمد عليه الصلاة والسلام. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له . وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
أما بعد أيها المسلمون
روى مسلم في صحيحه : ( عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ : « لاَ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مَنْ لاَ يَأْمَنُ جَارُهُ بَوَائِقَهُ ».
إخوة الإسلام
في هذا الحديث النبوي الشريف ، يحذر النبي صلى الله عليه وسلم من إيذاء الجيران ، ومن عدم توفير الأمن والأمان لهم ، بل ويحذر من تكدير وتنغيص حياتهم، بأي لون من الألوان ، أو طريقة من الطرق ، فالأمن على النفس والمال والعرض من نعم الله الكبرى على عباده ، وأقرب الناس تهديدا لهذا الأمن هو الجار، لأن الحذر منه أصعب من الحذر من غيره، والضرر منه أشد خطرا من الضرر من غيره ،فالجار يعرف كثيرا من الخفايا, ويكشف كثيرا من الأستار، ويطلع على كثير من العيوب، إنه أعلم بمواطن الضعف، وأقدر على توصيل الأذى واستمراره . والإسلام دين يحرص على استتباب الأمن، ونشر الطمأنينة والاستقرار بين أبناء المجتمع الواحد، فلهذا جعل مسالمة الجار من الإيمان، وحبس النفس عن أذى الجار من الإيمان، بل جعل تخويف الجار لجاره دليلا على ضعف إيمان هذا الجار ، وإن لم يصل ضرره لجاره بالفعل، ففي صحيح البخاري : (عَنْ سَعِيدٍ عَنْ أَبِى شُرَيْحٍ أَنَّ النَّبِيَّ – صلى الله عليه وسلم – قَالَ : « وَاللَّهِ لاَ يُؤْمِنُ ، وَاللَّهِ لاَ يُؤْمِنُ ، وَاللَّهِ لاَ يُؤْمِنُ » . قِيلَ وَمَنْ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ « الَّذِى لاَ يَأْمَنُ جَارُهُ بَوَايِقَهُ » . فلو أمن كل جار جاره، وكف كل جار ضرر عن جاره، وحمى كل جار محارم جاره، لكانت الدنيا هي المدينة الفاضلة، ولكان المجتمع مجتمع الآمنين ، ولعاش الناس في سعادة
وأما قوله صلى الله عليه وسلم : (لاَ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ) ، فقد قال النووي: في معنى لا يدخل الجنة جوابان يجريان في كل ما أشبه هذا: أحدهما: أنه محمول على من يستحل الإيذاء مع علمه بتحريمه، فهذا كافر لا يدخلها أصلا. والثاني : معناه جزاؤه أن لا يدخلها وقت دخول الفائزين إذا فتحت أبوابها لهم، بل يؤخر، ثم قد يجازى، وقد يعفى عنه فيدخلها، وإنما تأولنا هذين التأويلين، لأنا قدمنا أن مذهب أهل الحق أن من مات على التوحيد مصرا على الكبائر، فهو إلى الله تعالى: إن شاء عفا عنه فأدخله الجنة أولا، وإن شاء عاقبه، ثم أدخله الجنة. وقال الحافظ ابن حجر: في الحديث مبالغة تنبئ عن تعظيم حق الجار وأن إضراره من الكبائر. وقال ابن بطال : في هذا الحديث تأكيد حق الجار لقسمه – صلى الله عليه وسلم – على ذلك ، وتكريره اليمين ثلاث مرات ، وفيه نفي الإيمان عمن يؤذي جاره بالقول أو الفعل ومراده الإيمان الكامل ، ولا شك أن العاصي غير كامل الإيمان .
ومنع أذى الجار أعم من أن يكون مسلما أو غير مسلم، روى الطَّبَرَانِيُّ مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ :{ الْجِيرَانُ ثَلَاثَةٌ : جَارٌ لَهُ حَقٌّ وَهُوَ الْمُشْرِكُ لَهُ حَقُّ الْجِوَارِ ، وَجَارٌ لَهُ حَقَّانِ وَهُوَ الْمُسْلِمُ لَهُ حَقُّ الْجِوَارِ وَحَقُّ الْإِسْلَامِ ، وَجَارٌ لَهُ ثَلَاثَةُ حُقُوقٍ جَارٌ مُسْلِمٌ لَهُ رَحِمٌ لَهُ حَقُّ الْإِسْلَامِ وَالرَّحِمِ وَالْجِوَارِ } ،وفي تغليظ حرمة الجار وحرمة إيذائه : (عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَجُلٌ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ فُلاَنَةَ تَذْكُرُ مِنْ كَثْرَةِ صَلاَتِهَا وَصِيَامِهَا وَصَدَقَتِهَا غَيْرَ أَنَّهَا تُؤْذِى جِيرَانَهاَ بِلِسَانِهَا قَالَ « هِيَ فِي النَّارِ ». قَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ فَإِنَّ فُلاَنَةَ تَذْكُرُ مِنْ قِلَّةِ صِيَامِهَا وَصَدَقَتِهَا وَصَلاَتِهَا وَأَنَّهَا تَصَدَّقُ باِلأَثْوَارِ مِنَ الأَقِطِ وَلاَ تُؤْذِى جِيرَانَهَا بِلِسَانِهَا قَالَ « هِيَ فِي الْجَنَّةِ ». رواه أحمد ،وقال ابن أبي جمرة: إذا أكد حق الجار مع الحائل بين الشخص وبينه وأمر بحفظه وإيصال الخير إليه، وكف أسباب الضرر عنه، فينبغي أن يراعي حق الملائكة الحافظين الذين ليس بينه وبينهما جدار ولا حائل، فلا يؤذيهما بإيقاع المخالفات في مرور الساعات، فقد جاء أنهما يسران بوقوع الحسنات ويحزنان بوقوع السيئات، فينبغي مراعاة جانبهما ، وحفظ خواطرهما بالتكثير من عمل الطاعات، والمواظبة على اجتناب المعصية، فهما أولى برعاية الحق من كثير من الجيران.
أيها المسلمون
وحق الجار على ثلاث مراتب: أدناها كف الأذى عنه، ثم احتمال الأذى منه، وأعلاها وأكملها: إكرامه والإحسان إليه. أما المرتبة الأولى: وهي كف الأذى عنه، فهي أقل ما يجب على الجار تجاه جاره، فإنه إذا لم يحسن إليه، فلا أقل من أن يكف أذاه عنه. والله تعالى يقول : {وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُّبِينًا} [الأحزاب:58]، فكيف إذا كان المؤذَى هو جارك المؤمن، فإن الإثم أشد. ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: « « مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَلاَ يُؤْذِ جَارَهُ ، » رواه البخاري ، وفي قوله صلى الله عليه وسلم : « لاَ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مَنْ لاَ يَأْمَنُ جَارُهُ بَوَائِقَهُ ». فهذا الوعيد الشديد لمن يؤذي جاره ينبئ عن تعظيم حق الجار، وأن الإضرار به من الكبائر. وفي مسند أحمد وحسنه الألباني : (عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- « أَوَّلُ خَصْمَيْنِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ جَارَانِ ». فقد دل الحديث على أن الله تعالى سينتقم للجار المظلوم من جاره الظالم، وأن هذه الخصومة مقدمة على غيرها، مما يدل على خطورة ظلم الجار أو التقصير في حقه. وفي سنن أبي داود : (عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ قَالَ جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- يَشْكُو جَارَهُ فَقَالَ « اذْهَبْ فَاصْبِرْ ». فَأَتَاهُ مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلاَثًا فَقَالَ « اذْهَبْ فَاطْرَحْ مَتَاعَكَ فِي الطَّرِيقِ ». فَطَرَحَ مَتَاعَهُ فِي الطَّرِيقِ فَجَعَلَ النَّاسُ يَسْأَلُونَهُ فَيُخْبِرُهُمْ خَبَرَهُ فَجَعَلَ النَّاسُ يَلْعَنُونَهُ فَعَلَ اللَّهُ بِهِ وَفَعَلَ وَفَعَلَ فَجَاءَ إِلَيْهِ جَارُهُ فَقَالَ لَهُ ارْجِعْ لاَ تَرَى مِنِّى شَيْئًا تَكْرَهُهُ.
أيها المسلمون
وصور الأذى للجيران كثيرة، ومن أكثرها شيوعًا: التطلع إلى محارمهم، والنظر إلى نسائهم، وتتبع عوراتهم، والتنصت عليهم، والتجسس على أحوالهم، وكشف أسرارهم ونشر قالة السوء عنهم، والوقيعة في أعراضهم، والسعي في الإفساد بينهم، وإذاعة مثالبهم، وطمس مناقبهم، وإيذاؤهم برفع آلات اللهو والغناء المحرم، وكذلك إصدار الأصوات المزعجة، وخصوصًا في أوقات النوم والراحة. ومن ذلك وضع الحيوانات والطيور التي تؤذيهم برائحتها، وتزعجهم بأصواتها، وكذلك وضع القمامة عند أبوابهم ونحو ذلك. وشر الجيران من تركه جيرانه اتقاء شره، وتباعدوا عنه تجنبًا لضره، وتقاصروا عنه ليسلموا من عدوانه وكيده. وأخبث منه من ينتهك محارم جاره، أو يسرق من ماله، وفي الصحيحين واللفظ للبخاري : (عَنْ عَبْدِ اللَّهِ – رضى الله عنه – قَالَ قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيُّ الذَّنْبِ أَعْظَمُ قَالَ « أَنْ تَجْعَلَ لِلَّهِ نِدًّا وَهْوَ خَلَقَكَ » . قُلْتُ ثُمَّ أَيٌّ قَالَ « أَنْ تَقْتُلَ وَلَدَكَ مِنْ أَجْلِ أَنْ يَطْعَمَ مَعَكَ » . قُلْتُ ثُمَّ أَيٌّ قَالَ « أَنْ تُزَانِيَ حَلِيلَةَ جَارِكَ » ،وفي مسند أحمد والبزار : (الْمِقْدَادَ بْنَ الأَسْوَدِ يَقُولُ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- لأَصْحَابِهِ « مَا تَقُولُونَ فِي الزِّنَا ». قَالُوا حَرَّمَهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ فَهُوَ حَرَامٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ. قَالَ : فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- لأَصْحَابِهِ « لأَنْ يَزْنِىَ الرَّجُلُ بِعَشْرِ نِسْوَةٍ أَيْسَرُ عَلَيْهِ مِنْ أَنْ يَزْنِىَ بِامْرَأَةِ جَارِهِ ». قَالَ : فَقَالَ « مَا تَقُولُونَ فِي السَّرِقَةِ ». قَالُوا حَرَّمَهَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ فَهِيَ حَرَامٌ. قَالَ « لأَنْ يَسْرِقَ الرَّجُلُ مِنْ عَشْرَةِ أَبْيَاتٍ أَيْسَرُ عَلَيْهِ مِنْ أَنْ يَسْرِقَ مِنْ جَارِهِ ». فلما كان حق الجار على جاره كبيرًا، ومعرفته بأحواله، وقدرته على خيانته بحكم جواره وقربه أكثر من غيره، كان عدوانه عليه بالزنا بمحارمه أو سرقة ماله أعظم إثمًا وأشد جرمًا.
أقول قولي وأستغفر الله لي ولكم
الخطبة الثانية ( لاَ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مَنْ لاَ يَأْمَنُ جَارُهُ بَوَائِقَهُ )
الحمد لله رب العالمين . اللهم لك الحمد على نعمة الإسلام والايمان .ولك الحمد أن جعلتنا من أمة محمد عليه الصلاة والسلام. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له . وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
أما بعد أيها المسلمون
والجار الصالح من أسباب سعادة المرء: ولأجل ذلك، فإن من أسباب سعادة العبد أن يوفق بجار صالح يرعى له حرمته، ويعرف له حقه، ويراقب الله تعالى فيه. فعَنْ نَافِعِ بْنِ عَبْدِ الْحَارِثِ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- « مِنْ سَعَادَةِ الْمَرْءِ الْجَارُ الصَّالِحُ وَالْمَرْكَبُ الْهَنِيءُ وَالْمَسْكَنُ الْوَاسِعُ » رواه أحمد والبخاري في الأدب المفرد ،ومن كلام علي بن أبي طالب رضي الله عنه: “الجار قبل الدار، والرفيق قبل الطريق” ، وقال بعضهم: “كدر العيش في ثلاث: الجار السوء، والولد العاق، والمرأة السيئة الخلق” ، وفي الأدب المفرد : (عن أبى هريرة قال : كان من دعاء النبي صلى الله عليه و سلم اللهم إني أعوذ بك من جار السوء في دار المقام فإن جار الدنيا يتحول) ، أما المرتبة الثانية: فهي احتمال الأذى منه، والتغاضي عنه، والتغافل عن زلته : فعن عثمان بن زائدة قال: العافية عشرة أجزاء، تسعة منها في التغافل. فحُدث بذلك أحمد بن حنبل، فقال: “العافية عشرة أجزاء، كلها في التغافل” والمعنى: أن السلامة من أذى الناس، لا يكون إلا بالتغافل عن شرورهم، والتغاضي عن ظلمهم وغشمهم، وعدم مؤاخذتهم بكل ما يصدر منهم. ومن وفق لذلك فهو العاقل الموفق، والسيد المسوَّد، وأما المرتبة الثالثة: فهي إكرام الجار والإحسان إليه : والإحسان إلى الجار معنى واسع تدخل فيه أنواع كثيرة من المكارم والفضائل التي أمر بها الإسلام، فكل ما يجب للمسلم على المسلم من حقوق فإنه يجب على الجار لجاره المسلم من باب أولى وأحرى، لأن له حق الإسلام وحق الجوار أيضًا. ومن ذلك: محبته والتودد إليه، والسلام عليه، وطلاقة الوجه معه، وعيادته إذا مرض، وتشيعه إذا مات، ونصره إذا ظُلم، وكفه عن الظلم والمعصية بقدر الاستطاعة، ومواساته وبذل المعروف له، وتفريج كربته، وإعانته عند حاجته، وتعزيته عند المصيبة، وتهنئته في الفرح، وإدخال السرور عليه، والإهداء إليه، والنصيحة له ولأولاده وأهله، وتعليمه ما يجهله من أمر دينه ودنياه، وموعظته بالحسنى، وإعانته على طاعة الله تعالى، ودعوته إلى الإسلام وترغيبه فيه إن كان كافرًا، وألا يغفل عن ملاحظة داره عند غيبته، ولا يتبعه النظر فيما يحمله إلى داره، وأن يستر عليه ما ينكشف له من عوراته.
الدعاء