خطبة عن ( شريعة الاسلام وخلق العفو )
يناير 12, 2016خطبة عن ( الصحابة والتابعون وخلق العفو)
يناير 12, 2016الخطبة الأولى ( ثمار خلق العفو )
الحمد لله رب العالمين . اللهم لك الحمد كما ينبغي لجلال وجهك وعظيم سلطانك. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له. وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
أما بعد أيها المسلمون
قال الله تعالى : ( إِنْ تُبْدُوا خَيْرًا أَوْ تُخْفُوهُ أَوْ تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا قَدِيرًا ) (149) النساء ،
إخوة الإسلام
إن الجزاء من جنس العمل! فمن يريد العفو و الصفح يوم القيامة من العفو العزيز الغفار، فعليه كذلك أن يعفو ، ويتجاوز عمن أخطأ في حقه وتعدى عليه من الأنام!. قيل لأحدِهم: إن فلاناً يقع فيك، ويقول فيك كذا وكذا، ويذكرُك بسوء!. فيقول: رجل صالح ابتلي فينا، فماذا نعمل؟! مَن تعدّى حدود الله فينا لم نتعدّ حدود الله فيه، العفو أفضل، لا ينفعك أن يُعذبَ أخوك المسلم بسببك، فتعفو وتصفح وتغفر فيغفر الله لك. وما أجمل قول القائل :
قيل لي قد أساء إليك فلان ومُقام الفتى على الذلّ عارُ
قلت قد جاءنا فأحدث عذرا ودِية الذنب الاعتذارُ
أيّها المسلمون
عليكم بالعفو والصفح والتجاوز؛ فإنه لا عافيةَ ولا راحة ولا سعادة إلا بسلامةِ القلب من وسَاوس الضغينة وغواشي الغِلّ ونيران العداوة وحسائِك الحقد، ومن أمسَك في قلبِه العداوة وتربَّص الفرصَةَ للنّقمَة وأضمَر الشّرَّ لمن أساء إليه تكدَّر عيشُه، واضطربت نفسُه، ووهنَ جسدُه، وأُكِل عِرضُه. وصاحب العفو ينام على فراشه بالليل هادئاً مطمئناً، يرجو الثواب والأجر من الله، لأنه عفا ولم ينتقم. أما من انتصر لنفسه وانتقم لها فإنه يبيت مضطربا قلقا تراوده الهموم والهواجس؛ لعله قد تجاوز الحد واعتدى، فيقول يا ليتني عفوت وتجاوزت وما انتقمت. ويرحم الله الشافعي إذ يقول: لما عفوت ولم أحقد على أحد أرحت نفسي من هم العداوات
أيها المؤمنون
وللعفو فوائد عظيمة ، وثمار يانعة ، ونتائجه جليلة. فبالعفو تنال العزة والشرف: فلا تظن أخي الكريم؛ أن العفو يَنِمّ عن ضعف وعجز وهوان، وإنما هو عزة وانتصار على النفس ووساوس الشيطان. فقد أخرج الإمام أحمد عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ رَجُلاَ شَتَمَ أَبَا بَكْرٍ، وَالنَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم جَالِسٌ، فَجَعَلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَعْجَبُ وَيَتَبَسَّمُ، فَلَمَّا أَكْثَرَ رَدَّ عَلَيْهِ بَعْضَ قَوْلِهِ، فَغَضِبَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَقَامَ، فَلَحِقَهُ أَبُو بَكْرٍ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ؛ كَانَ يَشْتُمُنِي وَأَنْتَ جَالِسٌ، فَلَمَّا رَدَدْتُ عَلَيْهِ بَعْضَ قَوْلِهِ غَضِبْتَ وَقُمْتَ؟ قَالَ: « إِنَّهُ كَانَ مَعَكَ مَلَكٌ يَرُدُّ عَنْكَ، فَلَمَّا رَدَدْتَ عَلَيْهِ بَعْضَ قَوْلِهِ وَقَعَ الشَّيْطَانُ، فَلَمْ أَكُنْ لأَقْعُدَ مَعَ الشَّيْطَانِ». ثُمَّ قَالَ: «يَا أَبَا بَكْرٍ، ثَلاَثٌ كُلُّهُنَّ حَقٌّ؛ مَا مِنْ عَبْدٍ ظُلِمَ بِمَظْلَمَةٍ فَيُغْضِي عَنْهَا لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ إِلاَّ أَعَزَّ اللَّهُ بِهَا نَصْرَهُ، وَمَا فَتَحَ رَجُلٌ بَابَ عَطِيَّةٍ يُرِيدُ بِهَا صِلَةً إِلاَّ زَادَهُ اللَّهُ بِهَا كَثْرَةً، وَمَا فَتَحَ رَجُلٌ بَابَ مَسْأَلَةٍ يُرِيدُ بِهَا كَثْرَةً إِلاَّ زَادَهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ بِهَا قِلَّةً ». وفي صحيح مسلم (عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ : « مَا نَقَصَتْ صَدَقَةٌ مِنْ مَالٍ وَمَا زَادَ اللَّهُ عَبْدًا بِعَفْوٍ إِلاَّ عِزًّا وَمَا تَوَاضَعَ أَحَدٌ لِلَّهِ إِلاَّ رَفَعَهُ اللَّهُ ».
ومن ثمار العفو وفوائده ، أنه بالعفو والصفح تنقلب العداوة إلى صداقة: فمجتمع المؤمنين لا ينبغي أن تقوم فيه المعاملة بين أفراده على المؤاخذة والمحاسبة والانتصار للذات، والانتصاف لها في كل صغيرة وكبيرة. وإنما ينبغي أن تقوم فيه المعاملة بين الأفراد على المسامحة والتغاضي والصفح والصبر، وهذا ما دعت إليه نصوص الشرع، وحثّ عليه رب العالمين ، قال تعالى : ﴿ وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ * وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ ﴾ [فصلت: 34، 35]. وقيل لأبي الدرداء: من أعز الناس؟ فقال: (الذين يعفون إذا قدروا؛ فاعفوا يعزكم الله تعالى).
وقال الشّافعيّ- رحمه الله-:
قالوا سَكتّ وقد خُوصِمْتَ قلتُ لهم إنّ الجواب لِبَابِ الشّرّ مفتاحُ
فالعفو عن جاهل أو أحمق أدبٌ نعَم وفيه لِصوْن العِرض إصلاحُ
إنّ الأسُودَ لتُخشى وهي صامِتة والكلبُ يُحْثى ويُرْمَى وهو نبّاحُ
فالعفو أقربُ للتقوى، والصَّفح أكرمُ في العُقبى، والتجاوُز أحسنُ في الذِّكرى. وقال تعالى : ﴿ وَمَا عِندَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى لِلَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ * وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ ﴾ [الشورى:36، 37]. فاحرصوا رحمكم الله على العفو عمن أذنب، والصفح على من أساء، فإن لذة العفو أطيب من لذة التشفّي؛ لأن لذة العفو يلحقها السرور وحَمْدُ العاقبة، ولذة التشفي يلحقها الندَمُ وذمّ العاقبة.
أقول قولي وأستغفر الله لي ولكم
الخطبة الثانية ( خلق العفو ) 3
الحمد لله رب العالمين . اللهم لك الحمد كما ينبغي لجلال وجهك وعظيم سلطانك. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له. وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
أما بعد أيها المسلمون
ومن ثمار العفو وفوائده أنه بالعفو يُنال الأجرُ والثواب: يقول سبحانه: ﴿ وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها فَمَنْ عَفا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ ﴾ [الشورى: 40]. وقال ابن عباس رضي الله عنه: من ترك القِصاص وأصلح بينه وبين الظالم بالعفو (فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ) أي إن الله يأجره على ذلك. قال مقاتل: فكان العفو من الأعمال الصالحة. وقال السعدي رحمه الله في تفسيره لهذه الآية: (ذكر الله في هذه الآية، مراتب العقوبات، وأنها على ثلاث مراتب: عدل وفضل وظلم. فمرتبة العدل: جزاء السيئة بسيئة مثلها، لا زيادة ولا نقص، فالنفس بالنفس، وكل جارحة بالجارحة المماثلة لها، والمال يضمن بمثله. ومرتبة الفضل: العفو والإصلاح عن المسيء، ولهذا قال: ﴿ فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ ﴾ [الشورى: 40] يجزيه أجرا عظيما، وثوابا كثيرا. وأما مرتبة الظلم: فقد ذكرها بقوله: ﴿ إِنَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ ﴾ [الشورى: 40] الذين يجنون على غيرهم ابتداء، أو يقابلون الجاني بأكثر من جنايته، فالزيادة ظلم. وأخرج الإمام أحمَد وأبو داود وابن ماجة عَنْ سَهْلِ بْنِ مُعَاذٍ عَنْ أبيهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلّى الله عليه وسلّم قال: «مَنْ كَظَمَ غَيْظًا، وَهُوَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يُنْفِذهُ، دَعَاهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ عَلَى رُءُوسِ الْخَلاَئِقِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حَتَّى يُخَيِّرَهُ مِنْ أيِّ الْحُور شَاءَ ». ونستكمل الحديث عن خلق العفو في لقاء قادم إن شاء الله
الدعاء