خطبة عن (خلق العفة وفضائله)
يناير 12, 2016خطبة عن ( شريعة الاسلام وخلق العفو )
يناير 12, 2016الخطبة الأولى ( السلف وخلق العفو )
الحمد لله رب العالمين . اللهم لك الحمد كما ينبغي لجلال وجهك وعظيم سلطانك. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له. وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
أما بعد أيها المسلمون
في سنن ابي داود : ( عَنْ عَبْدِ اللَّهِ – يَعْنِى ابْنَ الزُّبَيْرِ – فِى قَوْلِهِ ( خُذِ الْعَفْوَ) قَالَ أُمِرَ نَبِىُّ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- أَنْ يَأْخُذَ الْعَفْوَ مِنْ أَخْلاَقِ النَّاسِ) ،
إخوة الإسلام
لقد تخلق به سلفنا الصالح ، فهذا جعفرُ الصادِق رحمه الله يقول : “لأن أندمَ على العفوِ عشرين مرّةً أحبُّ إليَّ من أندَم على العقوبة مرة واحدة”، وقال الفضيل بنُ عياض رحمه الله: “إذا أتاك رجلٌ يشكو إليك رجلاً فقل: يا أخي، اعفُ عنه؛ فإنَّ العفو أقرب للتقوى، فإن قال: لا يحتمِل قلبي العفوَ ولكن أنتصر كما أمرَني الله عزّ وجلّ فقل له: إن كنتَ تحسِن أن تنتَصِر، وإلاّ فارجع إلى بابِ العفو؛ فإنّه باب واسع، فإنه من عفَا وأصلحَ فأجره على الله، وصاحِبُ العفو ينام علَى فراشه باللّيل، وصاحب الانتصار يقلِّب الأمور؛ لأنّ الفُتُوَّة هي العفوُ عن الإخوان”. وأخرج أبو يعلى وأبو الشيخ والحاكم وصححه وتعقبه الذهبي عن أنس قال : ” بينا رسول الله صلى الله عليه و سلم جالس إذ رأيناه ضحك حتى بدت ثناياه فقال عمر : ما أضحكك يا رسول الله ؟ قال : رجلا جثيا من أمتي بين يدي رب العزة فقال أحدهما : يا رب خذ لي مظلمتي من أخي قال الله : أعط أخاك مظلمته قال : يا رب لم يبق من حسناتي شيء قال : يا رب يحمل عني من أوزاري وفاضت عينا رسول الله بالبكاء ثم قال : إن ذلك ليوم عظيم يوم تحتاج الناس إلى أن يتحمل عنهم من أوزارهم فقال الله للطالب : ارفع بصرك فانظر في الجنان فرفع رأسه فقال : يا رب أرى مدائن من فضة وقصورا من ذهب مكللة باللؤلؤ لأي نبي هذا لأي صديق هذا لأي شهيد هذا ؟ ! قال : هذا لمن أعطى الثمن قال : يا رب من يملك ثمنه ؟ قال : أنت قال : بماذا ؟ قال : بعفوك عن أخيك قال : يا رب قد عفوت عنه قال : خذ بيد أخيك فأدخله الجنة ثم قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : اتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم فإن الله يصلح بين المؤمنين يوم القيامة ” . أخرجه أبو يعلى في (( مسنده ))
أيها المسلمون
إن السعادة والطمأنينة الحقيقية هي في العفو و الصفح! وليست في حب الانتقام للنفس! يقول الإمام ابن القيم -رحمه الله-: “وفي الصفح والعفو والحلم: من الحلاوة والطمأنينة والسكينة وشرف النفس وعزها ورفعتها عن تشفيها بالانتقام: ما ليس شيء منه في المقابلة والانتقام”. مدارج السالكين
إخوة الإسلام
فبعد أن عرفنا أيها الكرام فضل هذه الخصلة الحميدة والصفة الرفيعة، وأنها كانت من شيم الأنبياء ومن تمسك بهديهم من العلماء والأتقياء، فعلينا جميعا أن نسعى لتحقيقها ونسأل الله جل وعلا دائما العون على ذلك، ولنجاهد أنفسنا دائما على تقديم العفو على من أساء إلينا، وترك الانتقام وحب الانتصار للنفس. يقول ابن حبان –رحمه الله-: “الواجب على العاقل توطين النفس على لزوم العفو عن الناس كافة، وترك الخروج لمجازاة الإساءة! إذ لا سبب لتسكين الإساءة أحسنُ من الإحسان، ولا سبب لنماءِ الإساءة وتهييجها أشدُّ من الاستعمال بمثلها”. روضة العقلاء فشتان شتان بين الحسنة والسيئة، وبين الخير والشر، وبين العفو والانتقام؛ فإن السيئة إذا قوبلت دائما بالسيئة أوغرت الصدور، وأورثت الأحقاد، وأنبتت الضغائن. أما إذا قوبلت السيئة بالحسنة أطفأت أوار الغضب، وهدّأت من فورة النفس، وغسَلت أدران الضغينة، فإذا المتعاديان يُصبحان صديقين حميمين متناصرين متآزرين، بكلمة طيبة، وبسمة حانية، بالتجاوز عن كل ما سلف وكان.
فبالعفو والصفح تنقلب العداوة إلى صداقة، ويتحول ألدّ الأعداء إلى وليّ حميم، وإلى صديق مُحِبّ؛ وهل تعلمون سببَ إسلام ثمامة بن أثال سيّد بني حنيفة؟ أسلم لمّا أحسن إليه النبي صلى الله عليه وسلم، وعفا عنه، بعد ما وقع في قبضة المسلمين، وقد كان شديد العداوة لرسول الله صلى الله عليه وسلم ولمن معه من المؤمنين. ففي الصحيحين عن أَبي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: ( بَعَثَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَيْلا قِبَلَ نَجْدٍ ما بين الحجاز والعراق من أرض العرب ، فَجَاءَتْ بِرَجُلٍ مِنْ بَنِي حَنِيفَةَ، يُقَالُ لَهُ ثُمَامَةُ بْنُ أُثَالٍ، فَرَبَطُوهُ بِسَارِيَةٍ مِنْ سَوَارِي المَسْجدِ، فَخَرَجَ إِلَيْهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: «مَا عِنْدَكَ يَا ثُمَامَةُ؟» فَقَالَ: عِنْدِي خَيْرٌ يَا مُحَمَّدُ، إِنْ تَقْتُلْنِي تَقْتُلْ ذَا دَمٍ، وَإِنْ تُنْعِمْ تُنْعِمْ عَلَى شَاكِرٍ، وَإِنْ كُنْتَ تُرِيدُ المَالَ فَسَلْ مِنْهُ مَا شِئْتَ. فَتُرِكَ حَتَّى كَانَ الغَدُ، ثُمَّ قَالَ لَهُ: «مَا عِنْدَكَ يَا ثُمَامَةُ؟» قَالَ: مَا قُلْتُ لَكَ: إِنْ تُنْعِمْ تُنْعِمْ عَلَى شَاكِرٍ، فَتَرَكَهُ حَتَّى كَانَ بَعْدَ الغَدِ، فَقَالَ: «مَا عِنْدَكَ يَا ثُمَامَةُ؟» فَقَالَ: عِنْدِي مَا قُلْتُ لَكَ، فَقَالَ: «أَطْلِقُوا ثُمَامَةَ» فَانْطَلَقَ إِلَى نَخلٍ قَرِيبٍ مِنَ المَسْجِدِ، فَاغْتَسَلَ ثُمَّ دَخَلَ المَسْجِدَ، فَقَالَ: ( أَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلا اللَّهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ. يَا مُحَمَّدُ، ) ، وَاللَّهِ مَا كَانَ عَلَى الأَرْضِ وَجْهٌ أَبْغَضَ إِلَيَّ مِنْ وَجْهِكَ، فَقَدْ أَصْبَحَ وَجْهُكَ أَحَبَّ الوُجُوهِ إِلَيَّ، وَاللَّهِ مَا كَانَ مِنْ دِينٍ أَبْغَضَ إِلَيَّ مِنْ دِينِكَ، فَأَصْبَحَ دِينُكَ أَحَبَّ الدِّينِ إِلَيَّ، وَاللَّهِ مَا كَانَ مِنْ بَلَدٍ أَبْغَضَ إِلَيَّ مِنْ بَلَدِكَ، فَأَصْبَحَ بَلَدُكَ أَحَبَّ البِلاَدِ إِلَيَّ، وَإِنَّ خَيْلَكَ أَخَذَتْنِي وَأَنَا أُرِيدُ العُمْرَةَ، فَمَاذَا تَرَى؟ فَبَشَّرَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَمَرَهُ أَنْ يَعْتَمِرَ، فَلَمَّا قَدِمَ مَكَّةَ قَالَ لَهُ قَائِلٌ: صَبَوْتَ، قَالَ: لاَ، وَلَكِنْ أَسْلَمْتُ مَعَ مُحَمَّدٍ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلاَ وَاللَّهِ، لاَ يَأْتِيكُمْ مِنَ اليَمَامَةِ حَبَّةُ حِنْطَةٍ، حَتَّى يَأْذَنَ فِيهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
أقول قولي وأستغفر الله لي ولكم
الخطبة الثانية ( خلق العفو ) 5
الحمد لله رب العالمين . اللهم لك الحمد كما ينبغي لجلال وجهك وعظيم سلطانك. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له. وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
أما بعد أيها المسلمون
فالعفو يؤثر في القلوب القاسية، فيجعل المسيء نادما متأسفا على سوء فعله وتصرفه. فهذا عليّ بن الحسين رضي الله عنهما كلمه رجل فافترى عليه. فقال: “إن كنا كما قلت فنستغفر الله، وإن لم نكن كما قلت فغفر الله لك”. فقام إليه الرجل فقبل رأسه، وقال: جُعِلتُ فِداك، ليس كما قلتُ أنا، فاغفر لي. قال: غفر الله لك. ولمّا سَبّ رجلٌ عبدَ الله ابنَ عباس رضي الله عنهما، ما ردّ عليه ولا أجابه، بل قال رضي الله عنه لمولاه عِكرمة: يا عِكرمة، هل للرجل حاجة فنقضيها؟ فنكّس الرجل رأسه واستحيَى. ومرّ يهودي معه كلب على إبراهيم بن أدهم رحمه الله، فجعل يستهزئ به ويسخر منه، قائلا: ألحيتك يا إبراهيم أطهر من ذَنَبِ هذا الكلب، أم ذَنَبُ الكلب أطهر من لحيتك؟ فماذا كان ردّ إبراهيمَ بنِ أدهم رحمه الله؟ هل خاصمه؟ هل سبه؟ هل ردّ عليه بالمثل؟ ما كان منه إلا أن قال – بهدوء المؤمن الواثق بموعود الله عز وجل-: “إن كانت في الجنة فهي أطهر من ذَنَب كلبك، وإن كانت في النار لذَنَب كلبك أطهر منها. فما مَلك هذا اليهودي إلا إن قال: أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً رسول الله، والله ما هذه إلا أخلاق الأنبياء.
أيها المسلمون
فتعافَوا بينكم وتجاوَزوا عمَّن أساءَ إليكم؛ اجعلوا العفو والصَّفح شعاركم وخلقا لكم في بيوتكم وشوارعكم ونواديكم وأسواقكم، اخرُجوا من ضيق المناقَشة إلى فسحةِ المُسامحة، ومن مَشقة المُعاسَرة إلى سهولةِ المُعاشَرة، واطوُوا بساطَ التقاطُع والوحشة، وصِلوا حبلَ الأُخُوَّة، ورُوموا أسبابَ المودّة، واقبَلوا المعذِرة؛ فإن قبولَ المعذرة من محاسنِ الشِّيم، وإذا قدرتم على المُسيء فاجعَلوا العفوَ عنه شُكرًا لله للقدرة عليه.
الدعاء