خطبة عن ( حب الفقراء والمساكين واليتامى)
سبتمبر 12, 2016خطبة عن (زيارة القبور وآدابها ومحظوراتها)
سبتمبر 12, 2016الخطبة الأولى ( خواتيم سورة البقرة )
الحمد لله رب العالمين . اللهم لك الحمد على نعمة الإسلام والايمان .ولك الحمد أن جعلتنا من أمة محمد عليه الصلاة والسلام. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له . وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
أما بعد أيها المسلمون
يقول الله تعالى في محكم آياته : ﴿ آَمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آَمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ * لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلَانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ ﴾ [البقرة: 285، 286]. وروى مسلم في صحيحه (عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ قَالَ لَمَّا نَزَلَتْ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- (لِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) ، قَالَ فَاشْتَدَّ ذَلِكَ عَلَى أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فَأَتَوْا رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- ثُمَّ بَرَكُوا عَلَى الرُّكَبِ فَقَالُوا أَيْ رَسُولَ اللَّهِ كُلِّفْنَا مِنَ الأَعْمَالِ مَا نُطِيقُ الصَّلاَةُ وَالصِّيَامُ وَالْجِهَادُ وَالصَّدَقَةُ وَقَدْ أُنْزِلَتْ عَلَيْكَ هَذِهِ الآيَةُ وَلاَ نُطِيقُهَا. قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- « أَتُرِيدُونَ أَنْ تَقُولُوا كَمَا قَالَ أَهْلُ الْكِتَابَيْنِ مِنْ قَبْلِكُمْ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا بَلْ قُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ ». قَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ. فَلَمَّا اقْتَرَأَهَا الْقَوْمُ ذَلَّتْ بِهَا أَلْسِنَتُهُمْ فَأَنْزَلَ اللَّهُ فِي إِثْرِهَا (آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلاَئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ)
فَلَمَّا فَعَلُوا ذَلِكَ نَسَخَهَا اللَّهُ تَعَالَى فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ (لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا) قَالَ نَعَمْ (رَبَّنَا وَلاَ تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا) قَالَ نَعَمْ (رَبَّنَا وَلاَ تُحَمِّلْنَا مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ ) قَالَ نَعَمْ (وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلاَنَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ) قَالَ نَعَمْ. )
إخوة الإسلام
روى الإمام أحمد في مسنده (عَنْ أَبِى ذَرٍّ قَالَ ،قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- « أُعْطِيتُ خَوَاتِيمَ سُورَةِ الْبَقَرَةِ مِنْ بَيْتِ كَنْزٍ مِنْ تَحْتِ الْعَرْشِ لَمْ يُعْطَهُنَّ نَبِيٌّ قَبْلِي » ، لقد اختار الله سبحانه وتعالى أن يختم هذه السورة المباركة بما يناسب موضوعها العظيم من أصول الإيمان التي أخذ بها المتقون وزل عنها من سواهم ليسجل الله شهادته للمؤمنين ويلقنهم ضراعة الأبرار بدعوات لها من الحكمة ما سنذكره إن شاء الله. وفي هاتين الآيتين فوائد عظيمة: أولها: شهادة الله من فوق سبع سماوات لرسوله والمؤمنين بكمال الإيمان الذي هو تصديق إذعان واطمئنان وتطبيق عملي لأركان الإيمان وشعبه، تطبيقاً ظهرت آثاره على نفوسهم الزكية وهممهم العلية، ولا شيء أكبر من شهادة الله لهم. فعلى كل مسلم مؤمن أن يقتدي بهم ويسلك آثارهم متخلياً من أغراضه النفسية، ومفضلاً مرادات الله لا مرادات النفس كما فعلوه، لينال حظاً كريماً من هذه الشهادة الإلهية، فشهادة الله لأهل الإيمان بالإيمان فهم بذلك يحصلون على سعادة الدنيا والآخرة، فحظهم في الدنيا نصر من الله وفتح قريب، ينالون به القيادة والسيادة والعز والتمكين، وحظهم في الآخرة جنة عرضها السماوات والأرض، فيها نعيم مقيم وفوز عظيم، فاحرص أيها المسلم المؤمن على تحصيل الشهادة الإلهية باقتفاء آثار المؤمنين ، واللحوق بركبهم وموكبهم الصالح المصلح، ولا يصدنك الشيطان ويولعك بالمادة المحدودة الزائلة، فتخسر صفقة عمرك وتكون مغبوناً. ثانيها : تكرمة الله المؤمنين حيث يصفهم مصف رسوله صلى الله عليه وسلم، وينعتهم بما نعته به من الإيمان، فإن هذه مكرمة لها وقع عظيم في نفوس المؤمنين، وهذه مكرمة لا يحس بها إلا من تعمق في معاني القرآن وعرف أن إيمان الرسول صلى الله عليه وسلم بما أنزل إليه شيء بديهي لا يحتاج إلى ذكر، فيدرك أن الفائدة من ذكر إيمانه مع المؤمنين هي أن يقفهم معه مرة في صف واحد في ميدان الإيمان العظيم. فحسبك أيها المؤمن شرفاً وغبطة أن يقيمك الله مع نبيه في مصف واحد، وقد جعل الله أيضاً المؤمنين في الدار الآخرة في معية النبيين والشهداء كما هم في الدنيا في معية رسولهم صلى الله عليه وسلم، قال تعالى: ﴿ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا ﴾ [النساء: 69]. ثالثها : إبلاغ الكافرين على اختلاف مللهم وطبقاتهم ممن عاصروا النبي صلى الله عليه وسلم وممن أتوا ويأتون بعده إلى يوم القيامة أنه صلى الله عليه وسلم ليس كالانتهازيين الذين يدعون لما لا يؤمنون به في قرارة نفوسهم، فإن الانتهازيين والدجالين يعرفون حقيقة باطلهم، وهم يدعون إليه ويتحمسون له ويدافعون عنه بخلاف الرسول صلى الله عليه وسلم، فإنه يعلم تمام العلم أن ما عنده وحي من الله ليس فيه حرف واحد من تلقاء نفسه، فهو مؤمن بما أنزل إليه من ربه قبل أن يدعو إليه وبعدما دعا إليه. رابعها: تقرير الوحدة الكبرى والطابع الخاص لدين الله الإسلام الذي هو دين البشرية من الله جمعاء، وهو الإيمان بالله إيماناً صحيحاً خالصاً يحصل صاحبه على العمل والتنفيذ لجميع الأوامر والأحكام، ثم الإيمان بملائكته الذين بعضهم سفراء بين الله وبين رسله، ينزلون بالوحي على قلوب الأنبياء ويكون الإيمان بهم جملة وتفصيلاً دون زعم عداوة بعضهم كما تزعم اليهود . وهذه هي الميزة العظمى لدين الله والطابع الخاص لأهله، لأن الإيمان بجميع الرسل والكتب السماوية أساس الوحدة الإنسانية المنشودة. أما التفريق بينهم بالإيمان ببعضهم والكفر ببعض فهو أصل الفتنة ومنشأ الشقاق ،قال الله تعالى: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا * أُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا * وَالَّذِينَ آَمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ أُولَئِكَ سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا ﴾. الآيات (150، 151، 152) النساء ،فهذه الآيات من سورة النساء تنص على أن الذي لا يؤمن بجميع المرسلين كافر بهم جميعاً مهما ادعى الإيمان ببعضهم. خامسها : مدلول هذه الآية الكريمة يستلزم أن يكون الدين لله والوطن لله وكل شأن من شئون الحياة مرجع الحكم فيه إلى الله سبحانه، عكس ما يزعمه العصريون من أفراخ الماسونية اليهودية الذين يقولون: الدين لله والوطن للجميع. ومقصودهم بذلك أن الدين لله في المسجد ولا علاقة له بشئون الحياة، والوطن للجميع، جميع الطوائف الكافرة والملحدة، ويحكم من أجلهم بحكم علماني طاغوتي مخالف لشريعة الله، وهذا لا يبقي من الإيمان حبة خردل، فإن من أجرى شئونه السياسية أو الثقافية أو الاقتصادية أو الاجتماعية على خلاف وحي الله وشرعه المنزل لم يكن مؤمناً بما أنزل الله، كإيمان الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنين، ولم يكن من المسلمين المؤمنين الذين قالوا ﴿ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا ﴾ بل يكون من ورثة اليهود الذين قالوا ﴿ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا ﴾. وهذه الجملة من الآية تحمل الفرق الصحيح بين إيمان الإذعان والإيمان التقليدي الموروث، فالأخير لا يحمل الاعتقاد الحقيقي الباعث على العمل، أما الأول فهو الصحيح لأنه يحمل إذعاناً ينبه النفس دائماً إلى تنفيذ أوامر الله، ويبعثها دائماً إلى العمل، ويزجرها عن اقتراف مساخط الله، ولهذا عطف الله ﴿ وَأَطَعْنَا ﴾ على ﴿ سَمِعْنَا ﴾.
ولما كان المؤمنون المذعنون المخلصون يراقبون قلوبهم ويحاسبون أنفسهم على التقصير الذي تأتي به العوارض والعوائق الطارئة ومطالبتها بالكمال في الطاعة كان من شأنهم الضراعة إلى الله بطلب المغفرة من التقصير،
فهم يقولون خلال العمل وبعده: ﴿ غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ ﴾. سائلين مولاهم أن يغفر لهم ما حصل من التقصير الذي عاقهم عن نيل درجات الكمال، حتى لا تنقص حظوظهم عند الله، إذ بتحصيل الغفران يحصل لهم الستر في الدنيا وجبر النقص في الآخرة. وقوله سبحانه في الآية 286: ﴿ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلَانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ ﴾. فالمعنى أن من رحمته وحكمته سبحانه إجراء سنته الدينية أن لا يكلف عباده ما لا يطيقونه حتى لا يعنتهم ولا يحرجهم ولا يجعل للشيطان عليهم سبيلاً. وقد علم الله عباده في هذه الآية ضراعة الأبرار، وأوضح عدم وقوع تكليف ما لا يطاق، وإن كان جائزاً على الله، ولكن رحمته اقتضت أن لا يكلف نفساً إلى وسعها ولا يحاسبها على غير ما كلفها به، وبهذا التقرير يتضح عدم وقوع النسخ المزعوم وأن فيها تخصيصاً بغفران ما أخفوه في أنفسهم ولم يبرزوه بالقول أو العمل، فلم يظهر تأثيره في المعاملة أو السلوك. وقوله تعالى: ﴿ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ ﴾ يعني أن لها ثواب ما كسبت من الخير، وعليها عقاب ما اكتسبت من الشر، ولما بين الله حقيقة المؤمنين الذين سمتهم السمع والطاعة وطلب المغفرة لما يلمون به أو يتهمون أنفسهم من التقصير، وأبان فضله وإحسانه علينا بعدم تكليفنا ما ليس في وسعنا أخذ يعلمنا ما هو من ضراعة الأبرار من الدعاء الصالح لديننا ودنيانا، كي ندعوه به ونضرع إليه وأوله: ﴿ رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا ﴾. والمؤاخذة هي المعاقبة، لأن من يراد عقابه يؤخذ بيد القهر، فلهذا نسأله تعالى: ﴿ رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا ﴾ لفعلنا شيئاً من نواهيك أو تركنا شيئاً من أوامرك نسياناً وغفلة ﴿ أَوْ أَخْطَأْنَا ﴾ فجئنا بالشيء على غير وجهه الصحيح خطأ منه. وهذا يدل على أن من شأن الخطأ والنسيان العقوبة عليهما لولا فضل الله على هذه الأمة. وقد علمنا الله سبحانه أن ندعوه بأن لا يؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا، وذلك من فضله علينا وحسن تربيته في هدايتنا، لأن هذا الدعاء يذكرنا بما ينبغي علينا من العناية والاحتياط والتفكر والتذكر، لعلنا نسلم من الخطأ والنسيان، فيقل وقوعهما منا ويكونان جديرين بالعفو والمغفرة، وينبغي أيضاً لكل من الناسي والمخطئ التوبة والاستغفار مما حصل منه في غفلته حتى لا يقسو قلبه بالتهاون في ذلك، وهذا من بعض شكره لله على عفوه عن ذلك. ومن أنواع الضراعة التي علمنا الله أن ندعوه بها قوله: ﴿ رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا ﴾ والإصر: هو العبء الثقيل، لأنه يحبس صاحبه عن المشي به لثقله، والمقصود بهذا التعبير التكاليف الشاقة التي حملها الله من قبلنا . وفي تعليم الله لنا هذا الدعاء بشارة منه سبحانه وتعالى أنه لا يكلفنا ما يشق علينا كما صرح في الآية السادسة من سورة المائدة بقوله: ﴿ مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ ﴾ [المائدة: 6]. وهذا يتضمن الامتنان علينا والإعلام لنا بأنه يجوز أن يحمل علينا الإصر كغيرنا، وحكمة الدعاء بذلك هو استشعار النعمة وشكر الله عليها. والنوع الثالث: من ضراعة الأبرار التي علمنا الله إياها قوله: ﴿ وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ ﴾ من الشرائع الثقيلة أو من العقوبات والبلايا والفتن والمحن وما فيه كلفة شديدة ، وهذا الدعاء يتضمن نفي سبب العقوبة، ربنا لا تحمل علينا ما يشق من الأحكام، بل ارحمنا بتحميل اليسير السهل علينا، ووفقنا للنهوض بحمل ما كلفتنا إياه على ما تحبه وترضاه حتى لا نستحق بمقتضى سنتك أن تحملنا ما لا طاقة لنا به من عقوبة المفرطين في أوامرك، المتبعين لأهوائهم. والرابع: من ضراعة الأبرار التي علمنا الله إياها قوله سبحانه ﴿ وَاعْفُ عَنَّا ﴾ يعني تسامح عن زلاتنا بمحوك أثر ما نلم به من تقصير فلا تعاقبنا عليه. والنوع الخامس: قوله سبحانه: ﴿وَاغْفِرْ لَنَا ﴾ والغفران يكون بستر الذنوب في الدنيا وعدم الفضيحة والخزي عليها مع التجاوز عن عقوباتها في الدار الآخرة. والنوع السادس من الضراعة: قوله سبحانه: ﴿ وَارْحَمْنَا ﴾ أي أنزل علينا رحمتك بالتوفيق والتسديد الذي نقدر به على إقامة دينك وأخذ وحيك بقوة، أنزل علينا من رحمتك ما نقدر به على الصبر والمرابطة، فإننا بحاجة إلى عونك وتوفيقك ورفدك الحسي والمعنوي. وفي قول الضارع: ﴿ أَنْتَ مَوْلَانَا ﴾ اعتراف به بأنه مولى جميع الكائنات ومدبرها ومصرفها وأنها لا تخرج عن سلطانه قيد شعرة، وأنها محتاجة فقيرة إليه، وهو الغني عنها دائما وأبداً. والضراعة السابعة قوله: ﴿ فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ ﴾ وفيها طلب النصر الذي هو غاية الأماني، نصراً بجميع أنواعه، بالحجة والبيان، فقد ختم الله ضراعة الأبرار التي علمهم إياها بطلب النصر على القوم الكافرين الذين اتجهوا إلى غير الله، وعبدوا سواه من مخلوقاته، ولم يجتنبوا الطاغوت بجميع أنواعه، فهم أعداء للمؤمنين، لا تفتر عداوتهم ولا تفيض، فمن أكبر مدد الله للمؤمنين أن ينصرهم نصراً حسياً ونصراً معنوياً كما وعدهم ووعده الحق. وقد يكون النصر بالحجة والبيان أعلى درجات النصر، لأنه نصر على الروح والعقل، أما النصر بالقوة والسيف فهو نصر على الجسد، وقد يكون في بعض الأحوال أعلى وأفضل لما يحصل فيه من إذلال الباطل وأهله ورفع رءوس أهل الحق، والله ينصر عباده المؤمنين بما شاء من هذا أو هذا حسب حكمته ورحمته
أقول قولي وأستغفر الله لي ولكم
الخطبة الثانية ( خواتيم سورة البقرة )
الحمد لله رب العالمين . اللهم لك الحمد على نعمة الإسلام والايمان .ولك الحمد أن جعلتنا من أمة محمد عليه الصلاة والسلام. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له . وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
أما بعد أيها المسلمون
لقد تضمنت هذه الدعوات الجليلات من عظيم الفوائد والمنافع: – أن الإيمان هو أعظم أعمال القلوب المستلزم لأعمال الأركان. – أن الإيمان الكامل هو الإيمان بكل ما جاء عن اللَّه تعالى، وبكل ما جاء عن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ، مع الانقياد والتسليم. – أن من صفات المؤمن السمع والطاعة. – أن كل الخلق محتاج إلى مغفرة اللَّه تبارك وتعالى، وحتى الأنبياء والرسل. – أنه كلما كان الإنسان أقوى إيماناً بالرسول صلى الله عليه وسلم كان أشد اتباعاً له – عِظم وسَعَة رحمة اللَّه تعالى لهذه الأمة في إسقاط كثير من التكاليف الشّاقّة، وقد تفضّل علينا بهذا الدين العظيم، فله المنَّة، والحمد، والثناء. – من عظيم رحمة اللَّه تعالى علينا كذلك أنه علّمنا هذا الدعاء الذي ندعوه، ثم يستجيب لنا تفضّلاً منه ونعمة. – أهمية سؤال اللَّه تعالى: (العفو، والمغفرة، والرحمة)؛ لما فيها من كل خير يتمنّاه العبد، ومن كلّ شرٍّ يخافه في الدنيا والآخرة. – إثبات ولاية اللَّه الخاصّة للمؤمنين التي تقتضي النصرة والعناية والتأييد، وهذه غير ولاية اللَّه العامّة لكل الخلق. -أن العبد محتاج إلى سؤال اللَّه تعالى النصرة على الكافرين في كل زمان. – أهمّيّة الدعاء للعبد المسلم في حياته ومهمّاته، وذلك أنه تعالى ضمنّه في آيات لها فضل عظيم كما جاء بالأخبار عنها قرآن يتلى إلى يوم الدين. – أهمية الإلحاح في الدعاء، وأنه من أهم الأسباب في قبول الدعاء؛ حيث ورد التوسل بربوبيّته تعالى أربع مرات. – الدعاء الأكمل هو الجامع لأكثر من توسّل؛ حيث جمعوا التوسل بأسمائه تعالى وصفاته، وكذلك بأعمالهم الصالحة ((سمعنا وأطعنا)). – يُستحبّ البسط في الدعاء لما فيه من كمال العبودية المقتضي لكثرة الثواب، وإجابة الدعاء. – أنَّ ذكر بعض الخصال التي يقوم بها العبد إلى اللَّه تعالى حال الدعاء، ليس من باب التزكية، وإنما من باب التوسل إليه تعالى بعمله الصالح المتضمّن للتذلّل والخشوع له جل وعلا. – أن أعظم التوسل إلى اللَّه تعالى على الإطلاق التوسل إليه بربوبيته تعالى، التي تحصل بها المحبوبات، وتندفع بها المكروهات؛ ولهذا كانت أغلبية أدعية القرآن مصدرة بالتوسل به
أيها المسلمون
في سنن النسائي (عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ بَيْنَمَا رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- وَعِنْدَهُ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلاَمُ إِذْ سَمِعَ نَقِيضًا فَوْقَهُ فَرَفَعَ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلاَمُ بَصَرَهُ إِلَى السَّمَاءِ فَقَالَ هَذَا بَابٌ قَدْ فُتِحَ مِنَ السَّمَاءِ مَا فُتِحَ قَطُّ. قَالَ فَنَزَلَ مِنْهُ مَلَكٌ فَأَتَى النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- فَقَالَ أَبْشِرْ بِنُورَيْنِ أُوتِيتَهُمَا لَمْ يُؤْتَهُمَا نَبِيٌّ قَبْلَكَ فَاتِحَةِ الْكِتَابِ وَخَوَاتِيمِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ لَمْ تَقْرَأْ حَرْفًا مِنْهُمَا إِلاَّ أُعْطِيتَهُ ) ، وهذه الآيات العظيمة لها شأنٌ عظيم كما في الصحيحين (عَنْ أَبِى مَسْعُودٍ الْبَدْرِىِّ – رضى الله عنه – قَالَ ،قَالَ رَسُولُ اللَّهِ – صلى الله عليه وسلم – « الآيَتَانِ مِنْ آخِرِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ مَنْ قَرَأَهُمَا فِي لَيْلَةٍ كَفَتَاهُ » ولم يقل صلى الله عليه وسلم كفتاه من أي شيء، وجعلها هكذا عامة مطلقة تكفيه ما أهمه ما أغمه، تكفيه حسنه، تكفيه عن قيام الليل، جعلها عامة لبيان عظيم هذا. وجاء أيضاً في مسند أحمد عَنْ أَبِى ذَرٍّ قَالَ ،قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-« أُعْطِيتُ خَوَاتِيمَ سُورَةِ الْبَقَرَةِ مِنْ كَنْزٍ تَحْتَ الْعَرْشِ وَلَمْ يُعْطَهُنَّ نَبِيٌّ قَبْلِي »
الدعاء