خطبة عن ( اعمل ما شئت فإنك مجزي به )
يوليو 9, 2016خطبة عن ( التربية النفسية للأولاد )
يوليو 9, 2016الخطبة الأولى (عش ما شئت فإنك ميت )
الحمد لله رب العالمين ..اللهم لك الحمد كما ينبغي لجلال وجهك وعظيم سلطانك .. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله .. اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله واصحابه أجمعين
أما بعد أيها المسلمون
روى الحاكم في المستدرك من حديث سهل بن سعد – رضي الله عنه – قال: جاء جبريل – عليه السلام – إلى رسول الله – صلى الله عليه وسلم – فقال: ( يا محمد، عش ما شئت فإنك ميت، وأحبب من شئت فإنك مفارقه، واعمل ما شئت فإنك مجزي به، واعلم أن شرف المؤمن قيامه بالليل، وعزه استغناؤه عن الناس ).
إخوة الإسلام
هذا الحديث الشريف اشتمل على وصايا عظيمة ،وجمل نافعة، من هذا الملك الكريم جبريل – عليه السلام –أمين الوحي في السماء ، إلى أمين الوحي في الأرض سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم ، وينبغي علينا أن نقف عندها وقفة تأمل وتدبر. وأول هذه الوصايا هي قوله : (يا محمد، عش ما شئت فإنك ميت) ، فقوله: عش ما شئت: أي مهما طال عمرك في هذه الحياة فإن الموت نهاية كل حي ومصيره، كما قال تعالى: ﴿ كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ ﴾ آل عمران : 185 ، وقال تعالى :﴿ إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ * ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ﴾الزمر:30، 31. وروى البخاري ومسلم في صحيحيهما : ( عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ – رضي الله عنه – قَالَ « أُرْسِلَ مَلَكُ الْمَوْتِ إِلَى مُوسَى – عَلَيْهِمَا السَّلاَمُ – فَلَمَّا جَاءَهُ صَكَّهُ فَرَجَعَ إِلَى رَبِّهِ فَقَالَ أَرْسَلْتَنِي إِلَى عَبْدٍ لاَ يُرِيدُ الْمَوْتَ . فَرَدَّ اللَّهُ عَلَيْهِ عَيْنَهُ وَقَالَ ارْجِعْ فَقُلْ لَهُ يَضَعُ يَدَهُ عَلَى مَتْنِ ثَوْرٍ ، فَلَهُ بِكُلِّ مَا غَطَّتْ بِهِ يَدُهُ بِكُلِّ شَعْرَةٍ سَنَةٌ . قَالَ أَىْ رَبِّ ، ثُمَّ مَاذَا قَالَ ثُمَّ الْمَوْتُ . قَالَ فَالآنَ . فَسَأَلَ اللَّهَ أَنْ يُدْنِيَهُ مِنَ الأَرْضِ الْمُقَدَّسَةِ رَمْيَةً بِحَجَرٍ » قَالَ ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ – صلى الله عليه وسلم – « فَلَوْ كُنْتُ ثَمَّ لأَرَيْتُكُمْ قَبْرَهُ إِلَى جَانِبِ الطَّرِيقِ عِنْدَ الْكَثِيبِ الأَحْمَرِ » ،ولأن الموت نهاية كل حي ، فقد أوصانا رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله كما في سنن الترمذي : (عَنْ أَبِى سَعِيدٍ قَالَ دَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- مُصَلاَّهُ فَرَأَى نَاسًا كَأَنَّهُمْ يَكْتَشِرُونَ قَالَ « أَمَا إِنَّكُمْ لَوْ أَكْثَرْتُمْ ذِكْرَ هَاذِمِ اللَّذَّاتِ لَشَغَلَكُمْ عَمَّا أَرَى فَأَكْثِرُوا مِنْ ذِكْرِ هَاذِمِ اللَّذَّاتِ الْمَوْتِ فَإِنَّهُ لَمْ يَأْتِ عَلَى الْقَبْرِ يَوْمٌ إِلاَّ تَكَلَّمَ فِيهِ فَيَقُولُ أَنَا بَيْتُ الْغُرْبَةِ وَأَنَا بَيْتُ الْوَحْدَةِ وَأَنَا بَيْتُ التُّرَابِ وَأَنَا بَيْتُ الدُّودِ) ، وقال كعب بن زهير: كل ابن أنثى وإن طالت سلامته يومًا على آلة حدباء محمول
وقال آخر: الموت باب وكل الناس داخله فليت شعري بعد الموت ما الدار
وليست القضية هي مجرد ذكر الموت فحسب ، ولكن المقصود والمطلوب هو الاستعداد للموت وما بعده ، فالقضية كيف تكون الخاتمة ، فمن عاش على الطاعة ، يختم له بها إن شاء الله ، ومن عاش على المعصية ، فقد يختم له بها والعياذ بالله ، فالمقصود بتذكر الموت هو إلزام النفس بالطاعات ، وإحياء القلوب بعد الموات ، فما قست القلوب ، إلا عندما غفل الناس عن ذكر الموت ، وما قست القلوب إلا عندما ابتعد الناس عن علام الغيوب ، وتهاونوا في الطاعات ، وانغمسوا في المعاصي والمنكرات ،والسؤال : هل أنت مستعد للموت ؟ هل أنت مستعد للقاء الله ؟ أم أنت ممن يقول عند موته ، كما في محكم التنزيل :(حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ (99) لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ ) المؤمنون 99 ،100، نعم ، يتمنى الرجوع إلى الدنيا ليصلح ما فسد من أعماله ، ويزداد من طاعاته ،ومن فوائد قوله: “عش ما شئت فإنك ميت”: أن يعلم المؤمن أن الموت قد يأتيه بغتة وهو في غفلة عنه، قال تعالى: ﴿ وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ * وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ﴾ [المنافقون: 10، 11]. فينبغي للمؤمن أن يكون على استعداد للقاء ربه ولا يغتر بالحياة الدنيا، قال تعالى: ﴿ مَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ اللَّهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لَآتٍ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ﴾ [العنكبوت: 5]. وقال تعالى: ﴿ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ ﴾ [لقمان: 33].
أقول قولي وأستغفر الله لي ولكم
الخطبة الثانية ( وأحبب من شئت فإنك مفارقه )
الحمد لله رب العالمين ..اللهم لك الحمد كما ينبغي لجلال وجهك وعظيم سلطانك .. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله .. اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله واصحابه أجمعين
أما بعد أيها المسلمون
وأما قوله: “وأحبب من أحببت فإنك مفارقه” أي أحبب من شئت من زوجة أو أولاد، ومال ومنصب، وجاه، وغيرها، من متاع الحياة الدنيا فإنك عما قريب ستفارقها. فوطن نفسك على الفراق ، وهيئ نفسك على الرحيل ، أحبب من شئت ، ولكن كن عاقلا ، فانظر من تحب ، لأن بعض المحبات قد تكون سببا شقائك في الدنيا والآخرة ، وتنقلب محبتهم يوم القيامة إلى عداوة ، قال تعالى :(الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ ) الزخرف 67 ، وقال سبحانه : ( وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا (27) يَاوَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَانًا خَلِيلًا (28) لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلْإِنْسَانِ خَذُولًا) الفرقان 27 :29، “وأحبب من أحببت فإنك مفارقه” فيا من أنساك حب المال حب ربك ، ويامن شغلك حب الأولاد عن حقوق خالقك ، غدا سوف يفارقك الأهل والمال ، ولن ينفعك إلا ما قدمت من عمل صالح وقد روى البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث (أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ يَقُولُ قَالَ رَسُولُ اللَّهُ – صلى الله عليه وسلم – « يَتْبَعُ الْمَيِّتَ ثَلاَثَةٌ ، فَيَرْجِعُ اثْنَانِ وَيَبْقَى مَعَهُ وَاحِدٌ ، يَتْبَعُهُ أَهْلُهُ وَمَالُهُ وَعَمَلُهُ ، فَيَرْجِعُ أَهْلُهُ وَمَالُهُ ، وَيَبْقَى عَمَلُهُ »، وما أجمل قول من قال في ذلك :
تمر أقاربي جنبات قبري كأن أقاربي لا يعرفوني
وذوي الميراث يقتسمون مالي ويألون إن جحدوا ديوني
وقد أخذوا ميراثهم فعاشوا فما أسرع ما نسوني
نعم ، أحبب من شئت فإنك مفارقه ، فيحكى أن أحد الصالحين احتضر ، فاجتمع أهله حوله يبكون عليه ، فسأل الزوجة : ما يبكيكي ؟، قالت أبكي ترملي من بعدك ، وسأل أولاده : وأنتم لماذا تبكوا ؟ فقالوا : نبكي يتمنا بعدك ، فقال لهم ، تبا لكم ، كلكم يبكي على دنياي ، أما منكم من يبكي على آخرتي ، أما منكم من يبكي علي إذا ما دفنت في التراب وفارقني الأهل والأحباب ، هل أنا شقي أم سعيد ؟ هل أنا من أهل الجنة أم من أهل النار ؟
أيها الموحدون
أعرف من تحب قبل أن تفارقه ، فهنيئا لمن أحب القرآن ، هنيئا لمن أحب قيام الليل ، هنيئا لمن أحب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والدعوة إلى الله ، هنيئا لمن أحب إخوانه في الله ، ومن فوائد الجملة السابقة: الاستعداد لفراق الأحبة، حتى إذا وقع يكون المؤمن قد تأهب لذلك فيخف وقعه عليه. ومنها: أن يهتم المؤمن للرفيق الذي لا يفارقه في الدنيا والآخرة وهو عمله الصالح ونستكمل الحديث في لقاء قادم إن شاء الله الدعاء