خطبة عن ( قَذْفُ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ الْغَافِلاَتِ)
نوفمبر 29, 2016خطبة عن (أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ)
نوفمبر 30, 2016الخطبة الأولى ( عليكم بالثبات حتى الممات )
الحمد لله رب العالمين . اللهم لك الحمد على نعمة الإسلام والايمان .ولك الحمد أن جعلتنا من أمة محمد عليه الصلاة والسلام. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له . وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
أما بعد أيها المسلمون
يقول الله تعالى في محكم آياته : (وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ ) (99) الحجر ،وقال تعالى: ﴿ وَلَمَّا بَرَزُواْ لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالُواْ رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْراً وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ ﴾ [البقرة: 250]. وقال تعالى : ﴿ وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلاَّ أَن قَالُواْ ربَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ ﴾ [آل عمران: 147]. وقال تعالى: ﴿ وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُواْ مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْراً لَّهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتاً ﴾ [النساء: 66]. وقال تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ ﴾ [محمد: 7]. وفي صحيح مسلم ( عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَبْدِ رَبِّ الْكَعْبَةِ قَالَ دَخَلْتُ الْمَسْجِدَ فَإِذَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ جَالِسٌ فِي ظِلِّ الْكَعْبَةِ وَالنَّاسُ مُجْتَمِعُونَ عَلَيْهِ فَأَتَيْتُهُمْ فَجَلَسْتُ إِلَيْهِ فَقَالَ كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فِي سَفَرٍ فَنَزَلْنَا مَنْزِلاً فَمِنَّا مَنْ يُصْلِحُ خِبَاءَهُ وَمِنَّا مَنْ يَنْتَضِلُ وَمِنَّا مَنْ هُوَ فِي جَشَرِهِ إِذْ نَادَى مُنَادِى رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- الصَّلاَةَ جَامِعَةً. فَاجْتَمَعْنَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فَقَالَ « إِنَّهُ لَمْ يَكُنْ نَبِيٌّ قَبْلِي إِلاَّ كَانَ حَقًّا عَلَيْهِ أَنْ يَدُلَّ أُمَّتَهُ عَلَى خَيْرِ مَا يَعْلَمُهُ لَهُمْ وَيُنْذِرَهُمْ شَرَّ مَا يَعْلَمُهُ لَهُمْ وَإِنَّ أُمَّتَكُمْ هَذِهِ جُعِلَ عَافِيَتُهَا فِي أَوَّلِهَا وَسَيُصِيبُ آخِرَهَا بَلاَءٌ وَأُمُورٌ تُنْكِرُونَهَا وَتَجِيءُ فِتْنَةٌ فَيُرَقِّقُ بَعْضُهَا بَعْضًا وَتَجِيءُ الْفِتْنَةُ فَيَقُولُ الْمُؤْمِنُ هَذِهِ مُهْلِكَتِي. ثُمَّ تَنْكَشِفُ وَتَجِيءُ الْفِتْنَةُ فَيَقُولُ الْمُؤْمِنُ هَذِهِ هَذِهِ. فَمَنْ أَحَبَّ أَنْ يُزَحْزَحَ عَنِ النَّارِ وَيَدْخُلَ الْجَنَّةَ فَلْتَأْتِهِ مَنِيَّتُهُ وَهُوَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَلْيَأْتِ إِلَى النَّاسِ الَّذِى يُحِبُّ أَنْ يُؤْتَى إِلَيْهِ).
إخوة الإسلام
إن الثبات على الطريق ، ولزومَ الجادَّة ، واتباعَ الصراط والحذرَ من اتباع السبل ، آيةُ رشد المرء، وبرهانُ نضجه، ودليلُ سداد رأيه. وإن أرفعَ مراتب الثبات وأعلى درجاته ، ثباتُ القلب على الحق، واستقامته على الدين، وسلامته من التقلب. ولذا كانت الخشية من الزيغ، شأنَ أولي الألباب ونهجَ أولي النهى وسبيل الراسخين في العلم، الذين يبتغون إلى ربهم الوسيلة، ويزدلفون إليه، يرجون رحمته ويخافون عذابه. وقد ذكر سبحانه تضرّعَهم وسؤالهم إياه التثبيتَ على الحق والسلامةَ من الزيغ في قوله عز اسمه: (هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ (7) رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ) [آل عمران:7، 8]. فالثَّبات على الدِّين الحق حتى الممات ليس بالأمر اليسير إلا على من يَسَّره الله عليه، وخاصة في زمن الفتن، وتقلب الأحوال؛ فقد يصبح الرجل مؤمناً ويمسي كافراً، ويمسي مؤمناً ويصبح كافراً؛ يبيع دينه بعرض من الدنيا قليل، وكما روى مسلم في صحيحه عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ : «بَادِرُوا بِالأَعْمَالِ فِتَنًا كَقِطَعِ اللَّيْلِ الْمُظْلِمِ؛ يُصْبِحُ الرَّجُلُ مُؤْمِنًا وَيُمْسِي كَافِرًا ، أَوْ يُمْسِي مُؤْمِنًا وَيُصْبِحُ كَافِرًا، يَبِيعُ دِينَهُ بِعَرَضٍ مِنَ الدُّنْيَا». فمن ابتغي الهداية فالدين والمنهج ميسر، وتدبر معي قول الله: ( لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا) [البقرة:286] وقوله عز وجل: ( لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا) [الطلاق:7] .. وقوله تعالى ( فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ) [التغابن:16] ، وكما في الحديث الذي رواه مسلم من حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (…ذَرُونِي مَا تَرَكْتُكُمْ فَإِنَّمَا هَلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ بِكَثْرَةِ سُؤَالِهِمْ وَاخْتِلاَفِهِمْ عَلَى أَنْبِيَائِهِمْ فَإِذَا أَمَرْتُكُمْ بِشَيْءٍ فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَإِذَا نَهَيْتُكُمْ عَنْ شَيْءٍ فَدَعُوهُ ». ولأهمية الثبات والاستقامة أوجب الله في كل صلاة أن يسأل المسلم ربه أن يهديه إلى صراطه المستقيم؛ ويجنِّبه طريق المغضوب عليهم وهم (اليهود)؛ وطريق الضالين وهم (النصارى). وكان من دعاء النبي صلى الله عليه وسلم الذي يُكثر من ترداده أن يقول: «اللهم يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك». كما روى الترمذي وغيره عن شهر بن حوشب قال قلت لأمِّ سلمة : يا أمَّ المؤمنين ما كان أكثرُ دعاء رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا كان عندك ؟ قالت: كان أكثر دعائه: يا مُقلِّب القلوب ثبِّت قلبي على دينك. قالت: فقلت: يا رسول الله ما لأَكثرِ دعاءك يا مُقلِّب القلوب ثبِّت قلبي على دينك ؟ قال: «يا أم سلمة: إنه ليس آدميٌّ إلا وقلبه بين أُصبعين من أصابع الله، فمَنْ شاء أقام، ومن شاء أزاغ. فتلا مُعاذٌ {رَبَّنَا لاَ تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا} .
فالاستقامة على الدِّين القويم والسير على منهاجه المستقيم مطلب كل مؤمن، ومبتغى كل مسلم؛ لأن بالاستقامة عليه يكون محقِّقاً للأمر الرباني الذي أمر عباده بالاستقامة على دينه إلى أن يلقوه؛ كما قال تعالى: { فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَن تَابَ مَعَكَ وَلاَ تَطْغَوْاْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [هود: 112]. وفي أعظم فتنة تأتي على الناس منذ الخلق إلى قيام الساعة؛ وهي فتنة الدجال؛ أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالثبات على الدين والاستقامة عليه فقد روى مسلم في صحيحه (عَنِ النَّوَّاسِ بْنِ سَمْعَانَ قَالَ ذَكَرَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- الدَّجَّالَ ذَاتَ غَدَاةٍ فَخَفَّضَ فِيهِ وَرَفَّعَ حَتَّى ظَنَنَّاهُ فِي طَائِفَةِ النَّخْلِ فَلَمَّا رُحْنَا إِلَيْهِ عَرَفَ ذَلِكَ فِينَا فَقَالَ « مَا شَأْنُكُمْ ». قُلْنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ ذَكَرْتَ الدَّجَّالَ غَدَاةً فَخَفَّضْتَ فِيهِ وَرَفَّعْتَ حَتَّى ظَنَنَّاهُ فِي طَائِفَةِ النَّخْلِ. فَقَالَ « غَيْرُ الدَّجَّالِ أَخْوَفُنِي عَلَيْكُمْ إِنْ يَخْرُجْ وَأَنَا فِيكُمْ فَأَنَا حَجِيجُهُ دُونَكُمْ وَإِنْ يَخْرُجْ وَلَسْتُ فِيكُمْ فَامْرُؤٌ حَجِيجُ نَفْسِهِ وَاللَّهُ خَلِيفَتِي عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ إِنَّهُ شَابٌّ قَطَطٌ عَيْنُهُ طَافِئَةٌ كَأَنِّى أُشَبِّهُهُ بِعَبْدِ الْعُزَّى بْنِ قَطَنٍ فَمَنْ أَدْرَكَهُ مِنْكُمْ فَلْيَقْرَأْ عَلَيْهِ فَوَاتِحَ سُورَةِ الْكَهْفِ إِنَّهُ خَارِجٌ خَلَّةً بَيْنَ الشَّأْمِ وَالْعِرَاقِ فَعَاثَ يَمِينًا وَعَاثَ شِمَالاً يَا عِبَادَ اللَّهِ فَاثْبُتُوا ». ولمنزلة الثبات والاستقامة في الدِّين كان جزاء المستقيمين والثابتين على دينهم أن يأتيهم الله جزاءهم عاجلاً حيث ، فتُبشِّرهم الملائكة بأن لا يخافوا مما يُقدمون عليه؛ ولا يحزنوا مما خلَّفوه وراء ظهورهم؛ كما قال تعالى: { إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ*نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ*نُزُلاً مِّنْ غَفُورٍ رَّحِيمٍ} [فصلت: 30 – 32]. وكان من جزائهم أيضاً: التثبيت في هذه الحياة الدنيا عند ورود الفتن والشبهات؛ وتثبيتهم في الآخرة عند أول منــــــازلها، وهو القبر عند امتحانهم فيه؛ كما قال تعالى: { يُثَبِّتُ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللّهُ مَا يَشَاءُ} [إبراهيم: 27]. قال الشيخ عبد الرحمن بن سعدي – رحمه الله -: ((يخبر تعالى أنه يثبت عباده المؤمنين، أي: الذين قاموا بما عليهم من إيمان القلب التام، الذي يستلزم أعمال الجوارح ويثمرها، فيثبتهم الله في الحياة الدنيا عند ورود الشبهات بالهداية إلى اليقين، وعند عروض الشهوات بالإرادة الجازمة على تقديم ما يحبه الله على هوى النفس ومراداتها. وفي الآخرة عند الموت بالثبات على الدين الإسلامي والخاتمة الحسنة، وفي القبر عند سؤال الملكين، للجواب الصحيح، إذا قيل للميت ((من ربك؟ وما دينك؟ ومن نبيك؟)) هداهم للجواب الصحيح بأن يقول المؤمن: ((الله ربي والإسلام ديني ومحمد نبيي)). {وَيُضِلُّ اللّهُ الظَّالِمِينَ} عن الصواب في الدنيا والآخرة، وما ظلمهم الله ولكنهم ظلموا أنفسهم، وفي هذه الآية دلالة على فتنة القبر وعذابه، ونعيمه؛ كما تواترت بذلك النصوص عن النبي صلى الله عليه وسلم في الفتنة، وصفتها، ونعيم القبر وعذابه).
وروى مسلم في صحيحه عن سفيان بن عبد اللّه الثّقفيِّ رضي الله عنه أنّه قال: «قلت: يا رسول اللّه: قل لي في الإسلام قولاً، لا أسأل عنه أحداً بعدك. قال: «قل آمنت باللّه فاستقم ». قال ابن القيم -رحمه اللّه تعالى-: ((فمن هدي في هذه الدّار إلى صراط اللّه المستقيم الّذي أرسل به رسله، وأنزل به كتبه، هُدي هناك إلى الصّراط المستقيم الموصل إلى جنّته ودار ثوابه، وعلى قدر ثُبوت قدم العبد على هذا الصّراط الّذي نصبه اللّه لعباده في هذه الدّار، يكون ثُبوت قدمه على الصّراط المنصوب على متن جهنّم، وعلى قدر سيره على هذا الصّراط يكون سيره على ذاك الصّراط ؛ فمنهم منْ يمر كالرق، ومنهم من يمر كالطرف، ومنهم من يمر كالريح، ومنهم مَنْ يمر كشد الركاب … ، ولينظر الشّبهات والشّهوات الّتي تعوقه عن سيره على هذا الصّراط المستقيم؛ فإنّها الكلاليب التي بجنبتي ذاك الصّراط تخطفه وتعوقه عن المرور عليه، فإن كثرت هنا، وقويت، فكذلك هي هناك وَما رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ)).
أيها المسلمون
ومن أعظم مواطن الثبات: الثبات عند الممات، فاللهم ثبتنا عند الموت، فالثبات عند الممات هو الغاية، بل أنت مأمور به كما قال عز وجل: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) [آل عمران:102] فأنت مأمور أن تموت على الإسلام، فمن الذي يثبته الله على فراش الموت؟ ومن الذي يضله الله عن التوحيد على فراش الموت؟ سؤال ينبغي أن نفكر فيه بقلوب واعية، والجواب على هذين السؤالين من الله: يقول جل وعلا:( يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ) [إبراهيم:27]. إذاً: الذي يثبته الله على فراش الموت هو المؤمن، ويضل الله على فراش الموت الظالمين، فيخون الظالم لسانه، ويعجز اللسان أن يردد (لا إله إلا الله) في وقت يكون الإنسان في أمس الحاجة إلى أن يعي قلبه حقيقة التوحيد، وأن يترجم لسانه حقيقة الإيمان، وهنا ينقسم الناس إلى صنفين : صنف إذا نام على فراش الموت تهلل وجهه، وتهللت أساريره، وترى الابتسامة العريضة تعلو وجهه وشفتيه، وترى لسانه وكلامه يردد: (لا إله إلا الله)؛ لأنه عاش على لا إله إلا الله، وبذل وقته للتوحيد، وحول التوحيد في حياته إلى واقع، فحق على الله – حق أخذه الله على ذاته؛ إذ ليس لأحد حق على الله- لمن اتقاه أن يحسن الله بدايته، وأن يحسن الله نهايته، وأن يتولى الله رعايته، واسمع إلى الحافظ ابن كثير إذ يقول: (لقد أجرى الله الكريم عادته بكرمه أن من عاش على شيء مات عليه، ومن مات على شيء بعث عليه) فإن عشت على الطاعة مت على الطاعة، وإن عشت على المعصية -أعاذني الله وإياك- مت على المعصية، وبعثت على المعصية، روى مسلم من حديث جابر بن عبد الله أنه صلى الله عليه وسلم قال: « يُبْعَثُ كُلُّ عَبْدٍ عَلَى مَا مَاتَ عَلَيْهِ ». فإن مت على الطاعة بعثت على الطاعة، وإن عشت على التوحيد مت على التوحيد، وبعثت تحت راية إمام الموحدين وسيد المحققين محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم.
أيها المسلمون
ومن المواقف في ثبات بعض السلف الصالحين عند الموت : فهذا صديق الأمة الأكبر رضوان الله عليه أبو بكر ، فقد جاء أنه لما نام على فراش الموت، وحشرجت روحه؛ دخلت عليه الصديقة بنت الصديق عائشة رضوان الله عليها، وأنشدت بيتاً من الشعر فقالت: لعمرك ما يغني الثراء عن الفتـى إذا حشرجت يوماً وضاق بها الصدر فكشف الصديق الغطاء عن وجهه، وهو على فراش الموت بثبات عجيب، ونظر لـ عائشة وقال: يا ابنتي! لا تقولي هذا، وإنما قولي:
(وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ ) [ق:19]. ولما نام فاروق الأمة عمر على فراش الموت دخل عليه الصحب الكرام، ومن بينهم ابن عباس ، فقال له: أبشر ببشرى الله لك يا أمير المؤمنين! لقد مصّر الله بك الأمصار، ونشر الله بك العدل، وصحبت رسول الله، فأحسنت صحبته، ثم توفي رسول الله وهو عنك راضٍ، وصحبت أبا بكر ، فأحسنت صحبته، ثم توفي أبو بكر وهو عنك راضٍ, وصحبت أصحاب رسول الله فأحسنت صحبتهم، ولئن مت اليوم فإنهم عنك راضون، ثم شهادة في سبيل الله، فأبشر ببشرى الله لك يا أمير المؤمنين! فبكى عمر وقال: والله! يا ابن عباس ! لوددت أن أخرج من الدنيا كفافاً لا لي ولا علي، والله! لو أن لي ملء الأرض ذهباً لافتديت به اليوم من عذاب الله قبل أن أراه!
أيها المسلمون
وإن سيد البشرية محمداً عليه الصلاة والسلام هو سيد الثابتين على الحق وقد اجتمعت له دواعي النكوص ترغيبها وترهيبها، لكنه لم ينصع لها ولم يستجب لها بتثبيت الله إياه. رُغِّب في الدنيا ورئاستها، ورُهب بالبلايا وصروفها كي يرجع عن الحق. فوضع ذلك كله تحت قدميه ومضى في طريق الحق ثابتاً. جاء إليه وفد قريش فقالوا: يا محمد، إن كنت إنما تريد بما جئت به شرفاً سودناك علينا حتى لا نقطع أمراً دونك، وإن كنت تريد به ملكاً ملكناك علينا، وإن كنت تريد بما جئت به مالاً جمعنا لك من أموالنا حتى تكون أكثرنا مالاً.. إلى آخر ذلك الإغراء، فما كان جواب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا الإعراض عن ذلك كله. وقالوا له: ساحر، كذاب، شاعر، مجنون، ثم توعدوه بالقتل، وحاولوا ذلك مرات عديدة، لكن الله حال بينهم وبين ما يشتهون. قال تعالى: ﴿ وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللّهُ وَاللّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ ﴾ [الأنفال: 30]. فلما رأى صحابته الكرام ثباته عليه الصلاة والسلام ثبتوا لثباته في حياته وبعد مماته، وربما ثبتهم بقوله عليه الصلاة والسلام. ففي المستدرك للحاكم
(عن جابر : أن رسول الله صلى الله عليه و سلم مر بعمار و أهله و هم يعذبون فقال : أبشروا آل عمار و آل ياسر فإن موعدكم الجنة ) ، وفي صحيح البخاري: (عَنْ خَبَّابِ بْنِ الأَرَتِّ قَالَ شَكَوْنَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ – صلى الله عليه وسلم – وَهْوَ مُتَوَسِّدٌ بُرْدَةً لَهُ فِي ظِلِّ الْكَعْبَةِ فَقُلْنَا أَلاَ تَسْتَنْصِرُ لَنَا أَلاَ تَدْعُو لَنَا . فَقَالَ « قَدْ كَانَ مَنْ قَبْلَكُمْ يُؤْخَذُ الرَّجُلُ فَيُحْفَرُ لَهُ فِي الأَرْضِ فَيُجْعَلُ فِيهَا ، فَيُجَاءُ بِالْمِنْشَارِ فَيُوضَعُ عَلَى رَأْسِهِ فَيُجْعَلُ نِصْفَيْنِ ، وَيُمَشَّطُ بِأَمْشَاطِ الْحَدِيدِ مَا دُونَ لَحْمِهِ وَعَظْمِهِ ، فَمَا يَصُدُّهُ ذَلِكَ عَنْ دِينِهِ ، وَاللَّهِ لَيَتِمَّنَّ هَذَا الأَمْرُ ، حَتَّى يَسِيرَ الرَّاكِبُ مِنْ صَنْعَاءَ إِلَى حَضْرَمَوْتَ لاَ يَخَافُ إِلاَّ اللَّهَ وَالذِّئْبَ عَلَى غَنَمِهِ ، وَلَكِنَّكُمْ تَسْتَعْجِلُونَ » وما هي إلا سنوات قليلة حتى مات رسول صلى الله عليه وسلم فظهرت بوادر الردة عند بعض القبائل فثبت الله المسلمين حينئذ بثبات أبي بكر الصديق رضي الله عنه والصحابة الآخرين رضي الله عنهم. والحديث عن الثابتين بعد رسول الله إلى يومنا هذا يطول، واقرأوا -إن شئتم- عن ثبات عبد الله بن حذافة السهمي أمام ملك الروم، وعن ثبات أبي مسلم الخولاني أمام الأسود العنسي، وعن ثبات الأوزاعي أمام أحد الأمراء العباسيين، وعن ثبات الأمام أحمد في محنة خلق القرآن، وعن ثبات ابن تيمية، وابن الأمير الصنعاني والشوكاني أمام المبتدعين وأصحاب المذاهب المتعصبين.
أيها المسلمون
إن الثبات على دين اللـه مطلب أساسي لكل مسلم صادق يريد سلوك الصراط المستقيم بعزيمة ورشد، خصوصا في هذا الزمن الذي كثرت فيه المغريات والشهوات والفتن ، وأسوق إليكم بعضا من الوسائل والأسباب التي تعين المسلم على الثبات على الدين : فأول وسيلة من وسائل الثبات حتى الممات: أن تستعين برب الأرض والسماوات: فمن أعانه الله فهو المعان، ومن خذله الله فهو المخذول، فاستعن بالملك أن يثبت قلبك، وأن يسدد رميتك، وأن يثبت قدمك على الطريق، ذكر الإمام ابن الجوزي أن شيخاً من الشيوخ قال لطالب علم عنده: يا بني! ماذا أنت صانع لو مررت على غنم فنبحك كلبها؟ فقال التلميذ: ادفع الكلب ما استطعت، قال: فماذا تصنع إن نبحك الثانية؟ قال: أدفع الكلب ما استطعت، قال: فإن نبحك الثالثة؟ قال: أدفع الكلب ما استطعت، فقال الشيخ لتلميذه: يا بني! ذاك أمر يطول، ولكن استعن بصاحب الغنم يكف عنك كلبها، وكذا استعن بالله يكف عنك كيد الشيطان. فمن توكل عليه كفاه، ومن اعتصم به نجاه، ومن استعان به هداه، فأول سبيل أن تطرح قلبك بمنتهى الذل والفقر لله عز وجل، واعترف له بضعفك وبعجزك، واعترف له بفقرك، وقم في الليل، ففي الليل أنس المحبين، وروضة المشتاقين، وإن لله عباداً يراعون الظلال بالنهار كما يراعي الراعي غنمه، ويحنون إلى غروب الشمس كما تحن الطير إلى أوكارها، حتى إذا ما جنّ عليهم الليل، واختلط الظلام، وبسطت الفرش، وخلا كل حبيب لحبيبه، نصبوا إلى الله أقدامهم، وافترشوا إلى الله جباههم، وناجوا ربهم بقرآنه، وطلبوا إحسانه وإنعامه؛ فإن أول ما يمنح الله عز وجل هؤلاء أن يقذف من نوره جل وعلا في قلوبهم، فقم في الليل، وإذا خلا الأحباب بالأحبة فقم أنت وتضرع إلى الله ليثبتك ويسددك، واطلب العون والمدد منه جل وعلا. ومن وسائل وأسباب الثبات : الإقبال على القرآن: فالقرآن العظيم وسيلة الثبات الأولى، وهو حبل اللـه المتين، والنور المبين، من تمسك به عصمه اللـه، ومن اتبعه أنجاه اللـه، ومن دعا إليه هُدي إلى صراط مستقيم. فمن أعظم وسائل الثبات قراءة القرآن الكريم والعمل به، قال تعالى: ( وَقَاْلوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا ) [الفرقان:32] فالترتيل للقرآن من أعظم وسائل الثبات ، ومن وسائل وأسباب الثبات : إلتزام شرع اللـه تعالى، والعمل به:- قال اللـه تعالى: ( يُثَبِّتُ اللـه الَّذِينَ آمَنُواْ بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللـه الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللـه مَا يَشَاء ) إبراهيم 27 ، قال قتادة: أما الحياة الدنيا فيثبتهم بالخير والعمل الصالح، وفي الآخرة في القبر. ومن وسائل وأسباب الثبات الـدعـاء: فمن صفات عباد اللـه المؤمنين أنهم يتوجهون إلى اللـه بالدعاء أن يثبتهم:( رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ) آل عمران (8) . وعَنْ أَنَسٍ قَالَ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يُكْثِرُ أَنْ يَقُولَ« يَا مُقَلِّبَ الْقُلُوبِ ثَبِّتْ قَلْبِي عَلَى دِينِكَ » رواه الترمذي.
أقول قولي وأستغفر الله لي ولكم
الخطبة الثانية ( عليكم بالثبات حتى الممات )
الحمد لله رب العالمين . اللهم لك الحمد على نعمة الإسلام والايمان .ولك الحمد أن جعلتنا من أمة محمد عليه الصلاة والسلام. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له . وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
أما بعد أيها المسلمون
ومن وسائل وأسباب الثبات: ذكـر اللـه تعـالى: فذكر الله سبحانه وتعالى من أعظم أسباب الثبات حتى الممات، فلا يفتر لسانك عن ذكر الملك، ولقد ضرب النبي لنا مثل الذاكر ومثل الغافل كما في البخاري (عَنْ أَبِى مُوسَى – رضى الله عنه – قَالَ قَالَ النَّبِيُّ – صلى الله عليه وسلم – « مَثَلُ الَّذِى يَذْكُرُ رَبَّهُ وَالَّذِى لاَ يَذْكُرُ مَثَلُ الْحَىِّ وَالْمَيِّتِ » فالذاكر حي، والغافل عن الذكر ميت ولو كان يعيش بين الأحياء، فأكثر من ذكر الله، وفي صحيح البخاري (عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ – رضى الله عنه – قَالَ ،قَالَ النَّبِيُّ – صلى الله عليه وسلم – « يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى أَنَا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِى بِي ، وَأَنَا مَعَهُ إِذَا ذَكَرَنِي ، فَإِنْ ذَكَرَنِي فِي نَفْسِهِ ذَكَرْتُهُ فِي نَفْسِى ، وَإِنْ ذَكَرَنِي فِي مَلأٍ ذَكَرْتُهُ فِي مَلأٍ خَيْرٍ مِنْهُمْ ) فهل تريد شيئاً أعظم من أن يكون الله معك؟! وإذا كان الله معك فمن يكيدك؟ ومن ضدك؟ ومن أسباب الثبات : المحافظة على الصلوات في جماعة، فاحرص على أن تهرول إلى بيوت الله، فإنما يأكل الذئب من الغنم القاصية، فصلاة الجماعة من أعظم وسائل الثبات على الدين، ففي الصحيحين (عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ – صلى الله عليه وسلم – يَقُولُ « أَرَأَيْتُمْ لَوْ أَنَّ نَهَرًا بِبَابِ أَحَدِكُمْ ، يَغْتَسِلُ فِيهِ كُلَّ يَوْمٍ خَمْسًا ، مَا تَقُولُ ذَلِكَ يُبْقِى مِنْ دَرَنِهِ » . قَالُوا لاَ يُبْقِى مِنْ دَرَنِهِ شَيْئًا . قَالَ « فَذَلِكَ مِثْلُ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ ، يَمْحُو اللَّهُ بِهَا الْخَطَايَا » . وقد روى الطبراني في المعجم (عن عبد الله بن مسعود عن النبي صلى الله عليه و سلم قال تحترقون تحترقون فإذا صليتم الفجر غسلتها ثم تحترقون تحترقون فإذا صليتم الظهر غسلتها ثم تحترقون تحترقون فإذا صليتم العصر غسلتها ثم تحترقون تحترقون فإذا صليتم المغرب غسلتها ثم تحترقون تحترقون فإذا صليتم العشاء غسلتها ثم تنامون فلا يكتب عليكم شيء حتى تستيقظون) ومن أسباب الثبات : البيئة الصالحة وتهيئة الأجواء الإيمانية: والبحث عن الصالحين ، والالتفاف حولهم خير معين على الثبات على الدين. لأن الجليس يتأثر بجليسه، قال تعالى: ﴿ وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطاً ﴾ [الكهف: 28].،
فاحرص على صحبة الصالحين . وفي سنن ابن ماجة بسند حسن عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- « إِنَّ مِنَ النَّاسِ مَفَاتِيحَ لِلْخَيْرِ مَغَالِيقَ لِلشَّرِّ وَإِنَّ مِنَ النَّاسِ مَفَاتِيحَ لِلشَّرِّ مَغَالِيقَ لِلْخَيْرِ فَطُوبَى لِمَنْ جَعَلَ اللَّهُ مَفَاتِيحَ الْخَيْرِ عَلَى يَدَيْهِ وَوَيْلٌ لِمَنْ جَعَلَ اللَّهُ مَفَاتِيحَ الشَّرِّ عَلَى يَدَيْهِ ». فاحرص على هذه المفاتيح التي تفتح قلبك وأذنك وسمعك وبصرك على الخير. ومن اسباب الثبات : العلم الشرعي النافع؛ لأن العلم القوي بالشريعة والعمل به يجعل المسلم في مأمن من هجوم الشبهات المضلة، والشهوات المزيغة. ومن وسائل الثبات ذكر الجنة والنار: فأكثر من ذكر الجنة، وأكثر من التدبر في أحوال النار وأهل النار؛ فإن كثرة التذكر والتدبر للجنة والنار يدفعك للطاعة، ويعينك على أن تثبت على الطاعة، فهذه الدنيا قصيرة، ومهما عظمت فهي حقيرة، ومهما طالت فهي قصيرة، فتذكر دار القرار، وتذكر النار، واعلم أنك هنا في مزرعة، فاغرس هنا ليوم لا ينفع فيه مال ولا بنون، إلا من أتى الله بقلب سليم، ومن اسباب الثبات : الحذر من وسائل الإعلام المنحرفة التي تضل الناس عقائدياً وأخلاقياً. فالقنوات التي تبث السحر والشعوذة، والرفض والطعن في الدين، وتنشر المجون وتشجع على الرذيلة وتدعو إليها، فلا تبح لعينك أو عيون أسرتك مشاهدتها فهي السم الزعاف. وإن شيوع الانحراف عن الحق الذي يدعو إليه أهل الباطل عبر وسائل الإعلام المختلفة بالإغراء بالمال أو الجاه أو النساء قد أوجد تجاوباً لدى أصحاب القلوب الضعيفة من المسلمين فباعوا الدين والقيم الحميدة بعرض من الدنيا قليل من مال أو وظيفة أو شهوة عاجلة. والواقع والأخبار تطلعنا على بعض ضحايا الشبهات والشهوات الذين وقعوا في شباك الكفر أو البدعة أو الخطيئة. ومن أسباب الثبات على دين الله: استشعار عظمة الله تعالى وقدرته ومراقبته، فمن كان الله عز وجل في قلبه عظيماً فلن ينحرف مع المنحرفين، ولن يزيغ مع الزائغين، وعلى قدر مراقبة الله وعظمته في قلب الإنسان يكون ثباته. ومن أسباب الثبات على دين الله: الحذر من الانشغال بالدنيا والركون إليها ومتابعة شهواتها ولذاتها والتوسع في مباحاتها. فلا تجعل الدنيا لك دار خلود وبقاء، ولكن اجعلها دار تزود واستعداد. فكم من إنسان انحرف بسبب مال حصله، أو منصب سيق له، أو امرأة سلبت عقله. وقد روى مسلم في صحيحه ( عَنْ أَبِى سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ عَنِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ « إِنَّ الدُّنْيَا حُلْوَةٌ خَضِرَةٌ وَإِنَّ اللَّهَ مُسْتَخْلِفُكُمْ فِيهَا فَيَنْظُرُ كَيْفَ تَعْمَلُونَ فَاتَّقُوا الدُّنْيَا وَاتَّقُوا النِّسَاءَ فَإِنَّ أَوَّلَ فِتْنَةِ بَنِى إِسْرَائِيلَ كَانَتْ فِى النِّسَاءِ ». وَفِى حَدِيثِ ابْنِ بَشَّارٍ « لِيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ ».
أخي المسلم
أقول لك من باب النصيحة : لا تأمن على نفسك، ولا تركن إلى ما عندك من العلم والعبادة، بل اجتهد في العمل والافتقار إلى الله ودعائه بالثبات، وقل: ﴿ رَبَّنَا لاَ تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنتَ الْوَهَّابُ ﴾ [آل عمران: 8]. وعَنْ أَنَسٍ قَالَ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يُكْثِرُ أَنْ يَقُولَ « يَا مُقَلِّبَ الْقُلُوبِ ثَبِّتْ قَلْبِى عَلَى دِينِكَ ». فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ آمَنَّا بِكَ وَبِمَا جِئْتَ بِهِ فَهَلْ تَخَافُ عَلَيْنَا قَالَ « نَعَمْ إِنَّ الْقُلُوبَ بَيْنَ أَصْبُعَيْنِ مِنْ أَصَابِعِ اللَّهِ يُقَلِّبُهَا كَيْفَ يَشَاءُ » رواه الترمذي وغيره . وكيف آمن على نفسي وتأمن على نفسك وقد قال الله لسيد الثابتين:
﴿ وَلَوْلاَ أَن ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدتَّ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً * إِذاً لَّأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ ثُمَّ لاَ تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيراً ﴾ [الإسراء: 74-75]. وإنها لنكسة عظيمة، ومصيبة كبيرة، أن يترك المسلم طريق الحق ليسلك طريق الباطل لشبهة عرضت له أو لشهوة انحرفت به، فكيف سيكون حاله وحياته لو حصل ذلك؟ كيف هجر محبة الله، ووصل محبة الشيطان! وكيف سلخ عنه السعادة ليلبس الشقاء!، وكيف نسي الجنة وما أعد الله تعالى لأهلها فيها ومضى في طريق الجحيم. نعم كم هو ندمه وحسرته، وكم هو عناؤه وشقوته إذا بعثر من في القبور وحصل ما في الصدور، وجمع الناس ليوم البعث والنشور. قال ابن القيم رحمه الله: ” فيا من ذاق شيئاً من معرفة ربه ومحبته ثم أعرض عنها واستبدل بغيرها منها، يا عجباً له بأي شيء تعوض، وكيف قر قراره، فما طلب الرجوع إلى أحنيته وما تعرض، وكيف اتخذ سوى أحنيته سكناً وجعل قلبه لمن عاداه مولاه من أجله وطناً، أم كيف طاوعه قلبه على الاصطبار ووافقه على مساكنة الأغيار!!”. ألا فالثبات الثبات قبل الممات ، قال تعالى : (وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ (54) وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ (55) أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَاحَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ (56) أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ (57) أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذَابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ ) (58) الزمر
الدعاء